بتـــــاريخ : 3/14/2009 8:11:26 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1008 0


    محمد رسول الله

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : الشيخ / عبد المحسن العباد | المصدر : www.quranway.net

    كلمات مفتاحية  :
    محمد رسول الله

    الحمد لله الذي أرسل نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فارتضى له الإسلام ديناً، وجعل القرآن له خلقاً، وأمتن عليه بالصفات الفاضلة، ثم أثنى عليه قائلاً: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر وبيده الخير وهو على كل شيء قدير، يعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، قسم بينهم أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم، فجعل نصيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من الرزق كفافاً ومن الأخلاق أكملها وأحسنها وأوفاها، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    ونشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله، بعثه الله إلى أهل المعمورة ليجدد به صلة السماء بالأرض، فأنزل عليه الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، وختم به الرسل، وختم بكتابه الكتب، وجعله معجزته الخالدة، فهدى الناس به إلى الصراط المستقيم وحذرهم السبل التي تنتهي بهم إلى الجحيم، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن وحشة القلوب وتقلباتها في أنواع المعبودات إلى أنسها وثباتها على عبادة فاطر السموات والأرض، قد أعظم الله عليه المنة وأتم به وعليه النعمة إذ بعثه ليتتم مكارم الأخلاق. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك وآله وأصحابه الذين اختارهم الله لصحبته ونشر سنته، فجعلهم طليعة الخيار، وصفوة الأبرار، وعلى من سلك سبيلهم وسار على منوالهم مترسماً خطاهم، مقتفياً آثارهم، عامر القلب بحبهم، رطب اللسان بذكرهم بالجميل اللائق بهم بالثناء عليهم بما هم أهله والدعاء لهم بما علمنا الله في قوله: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .

    أما بعد: فقد بعث الله نبيه ليكون رحمة للعالمين، وبين أنه لا يكتمل إيمان العبد حتى يكون أحب إليه من نفسه ووالديه والناس أجمعين.
    نبي لا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به -صلى الله عليه وسلم-.
    نبي رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من ذكر عنده فلم يصل عليه -صلى الله عليه وسلم- وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

    أولاً: شدة الحاجة إلى بعثته -صلى الله عليه وسلم-:
    ما أكثر نعم الله على عباده وما أحوجهم دائماً وأبداً إلى شكره سبحانه على هذه النعم التي أمتن عليهم بها في قوله: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَ﴾[إبراهيم:34]، وقوله: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل:35] وأعظم نعمة أنعم بها على هذه الأمة أن بعث فيها رسولها الكريم محمداً -صلى الله عليه وسلم- ليرشد إلى كل نافع في الحاضر والمستقبل، ويحذر من كل ضار في العاجل والآجل، أرسله على حين فترة من الرسل، واندراس من الكتب، في وقت انتشرت فيه الضلالة وعمت فيه الجهالة وبلغت البشرية منتهى الانحطاط في العقائد والعادات والأخلاق فانتشلهم به من هوة الضلالة ورفعهم إلى صرح العلم والهداية، فأزاح به عن النفوس تعلقها بغير خالقها وفاطرها سبحانه وتعالى، ووجهها إليه بقلبها وقالبها حتى لا يكون فيها محل لغيره سبحانه، بل تكون معمورة بحبة وخوفه ورجاءه والتوكل عليه والإنابة إليه، تستسلم لأوامره، وترعوي عن زواجره ونواهيه.

    شيء من أمراض القلوب التي انتشرت قبيل بعثته -صلى الله عليه وسلم-، وكيف عالجها صلوات الله وسلامه عليه.
    خلق الله الإنسان مركباً من شيئين بدن وروح، وجعل لكل منهما ما يغذيه وينميه، وأرشد إلى طرق العلاج التي يعالج بها كل منهما عندما يطرأ عليه مرض أو سقم فقد أغدق نعمه على عباده وقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيع﴾[البقرة:29] .

    أما الروح فقد استحكمت أمراضها قبل بعثته صلوات الله وسلامه عليه حتى كانت من قبيل الأموات فأحياها الله بما بعث به نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الهدى والنور: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَ﴾[الأنعام:122] . وأرشد سبحانه إلى أن شفاء أمراضها وجلاء أسقامها إنما هو بما أنزل الله على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[الإسراء:82]، وقال: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ﴾[فصلت:44] .

    نعم لقد بعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في مجتمع انتشرت فيه الأمراض القلبية على اختلافها وتنوعها وأعظم هذه الأمراض على الإطلاق تعلق القلوب بغير الله وصرف خالص حقه سبحانه إلى غيره من مخلوقاته، فعالج -صلى الله عليه وسلم- هذا المرض الخطير والداء العضال باستئصاله وتطهير القلوب من أدرانه أولاً، ثم شُغلها وعمارتها بحب الله وخوفه ورجاءه وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له لكونه سبحانه المتفرد بالخلق والإيجاد، فهو بحق المستحق لأن يعبد وحده لا يعبد معه غيره كائناً ما كان، وقد لقي صلوات الله وسلامه عليه من المشركين في هذا السبيل ألواناً مختلفة من الإيذاء، فصبر حتى ظفر بنصر الله وتأييده وكانت العاقبة له -صلى الله عليه وسلم- وأنصاره والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والعاقبة للمتقين، والعاقبة للتقوى.

    ولقي أيضا منهم ألواناً من المعارضة والتعنت أوضحها الله في كتابه العزيز، قال تعالى: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴿5﴾ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴿6﴾ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَ﴾[ص:5ـ7] .
    وقد حملهم على هذه المقالة الكبر والحسد، ومثل هذه المقالة التي حكاها الله عن كفار قريش ما ذكره الله سبحانه في سورة القمر عن قوم صالح بقوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾.

    وأبرز الطرق التي عالج بها -صلى الله عليه وسلم- ذلك الداء الذي هو أعظم الأدواء على الإطلاق إلزام الكفار بأن يفردوا الله في العبادة لمَّا كانوا معترفين بانفراده سبحانه بالربوبية، وأكتفي بالتمثيل لذلك بما ذكره الله سبحانه في سورة النمل من الآيات التي أوضحت تلك الطريقة غاية الإيضاح وذلك قوله سبحانه: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
    وبما ذكره الله سبحانه في سورة الحج من التصوير العجيب والتمثيل البليغ لعجز المعبودات التي أشركوها مع الله حيث قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ..﴾.

    ومن الأمراض التي عالجها -صلى الله عليه وسلم- بحكمته، الظلم والجور، وازدراء المساكين، والتفاخر بالأحساب والأنساب. فنشر فيهم العدل، وعمهم الاطمئنان والاستقرار، وصار مقياس الفضل بينهم تقوى الله بدلا من اعتبار ذلك بالحسب والنسب، وقد أعلنها -صلى الله عليه وسلم- صريحة في حجة الوداع في أعظم جمع شاهده عليه -الصلاة والسلام- حيث قال: (ألا لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، الناس لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم ).

    ولما بلغه -صلى الله عليه وسلم- شأن المخزومية التي سرقت أمَرَ بقطع يدها فراجعه أسامه بن زيد فأنكر -صلى الله عليه وسلم- عليه ذلك وقال -صلى الله عليه وسلم- المقالة التي برهن بها عن مدى تحقيق العدالة: (و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يده).
    وقد أشار -صلى الله عليه وسلم- في جوابه لأسامة ابن زيد بأن العدول عن العدل سبب هلاك الأمم المتقدمة حيث قال: (إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد..)

    ولما قسَّم -صلى الله عليه وسلم- غنائم حنين وأكثر العطاء للمؤلفة قلوبهم وجد الأنصار رضي الله عنهم في أنفسهم شيئا إذا لم يصبهم ما أصاب الناس، فأتى إليهم -صلى الله عليه وسلم- وقال: (ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم بي، وعالة فأغناكم الله بي)، وقد ذكَّرهُم الله سبحانه في كتابه العزيز بهذه النعمة وأنها من أعظم النعم عليهم فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَ﴾[آل عمران:103]، وقال سبحانه: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[الأنفال:62] .

    هذه بعض الأمراض التي انتشرت قبل بعثته -صلى الله عليه وسلم-، منّ الله سبحانه وتعالى على البشرية بإرسال رسوله الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- لينقلها من ذل عبادة المخلوق إلى عز طاعة الخالق جل وعلا، ومن الظلم والجور وسفك الدماء إلى ساحة العدل والأمن والاطمئنان، من الفرقة والاختلاف إلى الاجتماع والائتلاف، من التعاون على الإثم والعدوان إلى التعاون على البر والتقوى، من الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الغش والخيانة إلى النصح والأمانة، من الجزع والهلع والاعتراض على قضاء الله إلى الصبر والثبات والرضى بما قدره الله وقضاه، وفي الجملة: من كل ضار عاجلا وآجلا إلى كل نافع في الحال والمآل. وقد أرشد الله سبحانه إلى شكره على ذلك بعبادته وحده لا شريك له في قوله سبحانه: ﴿ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾[قريش].

    اختيار الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-
    يقول الله سبحانه: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾[القصص:68] . هذه الآية الكريمة تدل على أن الله سبحانه وتعالى منفرد بالخلق يقول للشيء الذي أراده كن فيكون، وتدل أيضا على أن تلك المخلوقات التي أوجدها من العدم أختار منها ما شاء فخصه بالتفضيل، وله الحكمة البالغة ، فقد اختار من أرضه مكة حرسها الله فجعلها مقر بيته الحرام من دخله كان آمناً وصرف قلوب الناس إليه وأوجب على المستطيع منهم حجة، وحرم صيده، وقطع شجره، وضاعف الأعمال الصالحة فيه، وحذر من الخروج عن طاعته سبحانه وأشار إلى عقوبة إرادة السوء في الحرم بقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[الحج:25] . ويلي ذلك مهاجر رسوله -صلى الله عليه وسلم- هذه المدينة المباركة حرم رسول الله صلى عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". واختار سبحانه من الشهور شهر رمضان ففضله على سائر الشهور، واختار منه ليلة القدر ففضلها على سائر الليالي، واختار من الأيام يوم عرفه فجعله أفضل الأيام، واختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة فجعله أفضلها، وأختار من الملائكة جبريل وإسرافيل وميكائيل فوكلهم بأسباب الحياة، واختار من البشر أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ففضلهم على غيرهم وجعل أفضلهم أولي العزم منهم، واختار الخليلين إبراهيم ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما فجعلهما أفضلهم، وجعل محمداً -صلى الله عليه وسلم- أفضل الخليلين، وأمته خير الأمم فهو عليه -الصلاة والسلام- إمام المتقين وسيد المرسلين وخليل رب العالمين وخاتم النبيين، أقام الله به الحجة على الثقلين الجن والإنس، وأول قبر ينشق عند النفخ في الصور قبره، ولا يدخل الجنة أحد قبله، واختصه سبحانه بالمقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون وهو الشفاعة العظمى في فصل القضاء التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل كل واحد يقول نفسي نفسي أذهبوا إلى غيري حتى تنتهي إليه صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (أنا له) ثم يشفع فيشفعه الله وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[الجمعة:4] . وقد أشار سبحانه في كتابة العزيز إلى اختياره من يشاء بقوله سبحانه: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾[الحج:75] . وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله اصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) فهو -صلى الله عليه وسلم- بنص هذا الحديث الشريف خلاصة خلاصة خلاصة باعتبار شرف النسب كما كان خلاصة باعتبار الفضل وعلو المنزلة عند الله.

    اعتراض المشركين على اختيار الله له -صلى الله عليه وسلم-
    ولما بعث الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة ليهديهم به إلى الصراط المستقيم قابله المشركون بما يستطيعونه من الأذى والمناوأة وتأليب الناس عليه وتحذيرهم منه، فوصفوه بأشنع الأوصاف فقالوا: "أنه ساحر"وقالوا: "أخرى أنه كاهن"وقالوا: "مجنون"هذا وهم أعلم الناس بماضيه المشرق الوضاء، ولكن الذي حملهم على ذلك الكبر والحسد. فقد أخبر الله عنهم في كتابه العزيز أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وقال سبحانه وتعالى مخبراً عنهم: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾[ص:4] . إلى أن قال مشيراً إلى حسدهم له صلوات الله وسلامه عليه: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَ﴾[ص:8]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾[الزخرف:30]. ثم قال مخبراً عن اعتراضهم على الله في اختياره لهذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾[الزخرف:31] . فأنكر عليهم ذلك وبين أن الأمر أمره، والخلق خلقه، والفضل فضله يؤتيه من يشاء فهو أعلم حيث يجعل رسالته فقال سبحانه: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّ﴾[الزخرف:32] . ونظير هذا قوله سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾[الأنعام:53] . وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴿7﴾ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿8﴾ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُم﴾[الأحقاق:7ـ8] . وقال: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾[يونس:2] وقد روى الحاكم بسند على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به) فأنزل الله ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾[النعام:33] . وروي أن الأخنس بن شريق دخل على أبي جهل فقال: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا"فقال أبو جهل: "ويحك والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي بالسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش"، وقال: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي ينزل عليه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به ولا نصدقه". وهكذا يبلغ الكبر والحسد بهؤلاء القوم الذين دعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، حملهم ذلك على تجاهل الحقيقة وإبداء خلاف المستقر في القلوب، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم متبعين في ذلك إمامهم في الضلال والحسد إبليس اللعين حيث فسق عن أمر ربه له بالسجود لآدم كبرا وحسدا استنادا منه لعنة الله على أنه أفضل منه على زعمه، لكونه خلق من نار وآدم عليه -الصلاة والسلام- خلق من طين..

    امتنان الله سبحانه على الثقلين برسالته -صلى الله عليه وسلم-
    من رحمة الله سبحانه بعباده أن أرسل فيهم رسله يبشرون وينذرون كلما ذهب نبي خلفه نبي حتى ختمهم نبي الرحمة محمدا -صلى الله عليه وسلم-. وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَة﴾[النحل:36] . ولقد اختار منهم سيدهم وإمامهم فجعله خاتم النبيين واختصه بخصائص ومزايا لم يشاركه فيها أحد منهم، كما اختص أمته بخصائص ليست لغيرهم من الأمم السالفة، ومن تلك المزايا التي أمتاز بها على غيره من المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين أن بعثه إلى الأسود والأحمر بل إلى الجن والإنس جميعا كما قال الله سبحانه عن الجن الذين استمعوا لقراءته -صلى الله عليه وسلم- ثم ولوا إلى قومهم منذرين: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[الأحقاف:31] . وقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق على صحته: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي -فذكر من بينها- وكان النبي يبعث إلى قومه خاص وبعثت إلى الناس عامة). وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِير﴾[سبأ:28] ويقول سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيع﴾[الأعراف:158] .

    وقد أوضح ذلك صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحة حيث قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار..)

    قال سعيد بن جبير رحمه الله: مصداق ذلك في كتاب الله عز وجل قال الله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾[هود:17]. ولا شك أن أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض هي إرسال هذا النبي الكريم الذي أكمل الله به الدين وجعله حجة على الناس أجمعين. وقد أخبر الله في كتابه العزيز عن إبراهيم بأدعية من بينها: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة:129] .وقد أجاب الله دعائه فبعث في الأمين وفي غيرهم محمدا -صلى الله عليه وسلم- أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وتلك النعمة العظمى والمنة الجسيمة نوه الله بها في معرض الثناء على نفسه سبحانه في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[الجمعة:2ـ3] . ومنها قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[أل عمران:164] . ومنها قوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴿151﴾ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾[البقرة:151ـ152] . ومنها قوله سبحانه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة] . وإنما كان إرساله -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس أعظم منة أمتن بها على عباده لأن في ذلك تخليص من وفقه الله وهداه منهم من العذاب السرمدي بسبب الإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والابتعاد عن الشرك الذي لا يغفره الله كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48] . وقال: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾[المائدة:72] .

    التمهيد لبعثته -صلى الله عليه وسلم-
    ومن حكمة الله وفضله أن هيأ لنبيه -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعثه جميع أسباب الشرف والرفعة وعلو المنزلة، ووفر فيه جميع الخصال التي تؤهله للقيام بأعباء الرسالة العظمى التي اصطفاه واختاره لها صلوات الله وسلامه عليه، وفيما يلي أذكر على سبيل المثال بعض تلك الأسباب والخصال وأبين كيف كانت توطئة وتقدمة لبعثته -صلى الله عليه وسلم-:

    أولاً: أن الله سبحانه جعله عريق النسب، كريم المنبت، اصطفاه من أشرف قبائل العرب قبيلة قريش التي شهد لها غيرها بالسيادة والقيادة، وهذه سنة الله في رسله كما جاء ذلك في سؤال هرقل ملك الروم لأبي سفيان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كيف نسبه فيكم"قال أبو سفيان: "هو فينا ذو نسب"ثم قال هرقل عند ذلك: "الرسل تبعث في نسب قومها"وإنما كانت هذه سنة الله في رسله ليسد على أعدائهم باب القدح فيهم والتنقيص لهم، فلا يجد أعداؤهم سبيلا إلى إلصاق العيوب بهم.

    ثانيا: أنه -صلى الله عليه وسلم- نشأ فقيرا يتيما في كفالة جده عبد المطلب ثم عمه أبي طالب وذلك من أسباب التواضع والتحلي بالصفات الحميدة والبعد عن الصفات الذميمة كالكبر والظلم وغير ذلك، وقد ذكر الله ذلك منوها بتفضله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- بإيوائه وإغنائه وهدايته حيث قال سبحانه: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴿6﴾ وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى﴿7﴾ وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾[الضحى:6ـ8] . ثم أرشده إلى شكر هذه النعمة بأن يعطف على اليتامى والمساكين ويتحدث بنعمة الله عليه قال: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[الضحى] .
    وهذه تربية إلهية لنبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- ذكرها الله في كتابه العزيز تنبيها لعباده المؤمنين بأن يحملوا أنفسهم على تلك الصفات الحميدة وغيرها شكرا لله سبحانه على توفيقه لهم بالهداية بعد الضلالة، والغنى بعد الفقر، وغير ذلك من نعمه عليهم، والمعنى لا تقهر ولا تنهر الفقير فقد كنت فقيرا تكره أن تنهر، ولا شك أن تذكير الإنسان بنعمة الله عليه من أقوى الأسباب في الإقدام على الخير والأحجام عن الشر لمن وفقه الله..

    ثالثا: إن الله سبحانه وتعالى نشأه نشأة صالحة، وأنبته نباتاً حسناً متحلياً بكل خلق كريم بعيداً عن كل وصف ذميم، شهد له بذلك موالوه ومعادوه، ولكن من لم يشأ الله هدايته تعامى عن هذا كله وأظهر خلاف ما يبطنه كبراً وحسداً، وفي توفيق الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- للاتصاف بالصفات النبيلة والسلامة من الأخلاق الرذيلة قطع لألسنة أعداءه وإسكات لهم عن أن يعيروه بأدنى عيب، أو يصفوه بشيء من النقص، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل يغدر قال: "لا" ولم يستطع مع شدة عداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الوقت أن يقول أكثر من قوله بعد نفي الغدر عنه: "ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها"قال: "ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة". وقد تحرز من الكذب خوفا من ملك الروم فأعداؤه -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيعون وصفه حقيقة بوصف معيب، أما الكذب والافتراء عليه -صلى الله عليه وسلم- فقد قالوا عنه: "أنه ساحر"وقالوا عنه: "شاعر"وقالوا عنه: "أنه كاهن"وغير ذلك، وقد صانه الله سبحانه من ذلك الذي الصقوه به ومن كل عيب، وأنكر على المشركين افتراءهم وكذبهم عليه وأخبر بأنه من ذلك براء فقال سبحانه: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ ﴿39﴾ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴿40﴾ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ ﴿41﴾ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴿42﴾ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الحاقة:38ـ43]. وقال: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ﴿69﴾ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[يس:69ـ70] . وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُور﴾ [الفرقان:40].

    رابعاً: أنه -صلى الله عليه وسلم- نشأ أميا بين أميين لا يقرأ ولا يكتب، ثم جاء من الله بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وفي نشأته -صلى الله عليه وسلم- على هذه الصفة قطع للطريق التي ينفذ منها الكفار إلى تكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم-.. فيما جاء به عن الله وأنه من أساطير الأولين قرأها أو كتبها لو كان كذلك، وقد أوضح الله ذلك بقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾[العنكبوت:48] . ثم أشار إلى حصول الريبة من أعدائه لو كان قارئا كاتبا بقوله: ﴿إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾[العنكبوت:48]. وتلك الطريق التي قطعت عليهم بجعله -صلى الله عليه وسلم- أميا لا يقرأ ولا يكتب سلكوها كذبا وافتراء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع علمهم التام ببعده -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا إنما يعلمه بشر ويأبى الله إلا إن يتم نوره ويظهر دينه فيجيبهم بأن لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا الذي جاءهم به لسان عربي مبين. ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى عند إنكاره على قومه -صلى الله عليه وسلم- ما يقومون به من المعارضة والمناوأة له -صلى الله عليه وسلم- يلفت أنظارهم إلى ماضيه المشرق الوضاء، ويذكرهم بعلمهم ومعرفتهم التامة لحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه فيقول سبحانه: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾[المؤمنون:69] ويقول: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[يونس:15] . ثم إنه تعالى أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يخبرهم بأنه ليس له إلا التبليغ عن الله، وأنه لو شاء الله ما حصلت منه -صلى الله عليه وسلم- تلاوة ولا حصل لهم علم بذلك فقال: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾[يونس:16]. ثم ذكرهم بماضيه قبل إنزال القرآن عليه وما اتصفت به من جميل الصفات، وأنه قد بقي فيهم قبل أن يبعثه الله أربعين سنة ملازما لأسباب الرفعة بعيدا عن أسباب الضعة والهوان فقال: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ﴾. أنكر عليهم وصفهم له بالكذب والافتراء مع أنهم أعلم الناس به، وأن ذلك مخالف للفطر والعقول السليمة فقال: ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾. ثم أخبر بأنه لا أحد أشد ظلما وأكبر جريمة من أثنين المفتري على الله والمكذب بما جاء عن الله فقال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ..﴾[يونس:17].
    خامسا: ومن الأمور التي حصلت بين يدي بعثته -صلى الله عليه وسلم- توطئة وتمهيداً لها الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان -صلى الله عليه وسلم- لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كما ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره.

    سادساً: أنه -صلى الله عليه وسلم- رعى الغنم بمكة وفي ذلك تمهيد وتهيئة لإرساله إلى الناس كافة ليرشدهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وتحذيرهم مما يعود عليهم بالأضرار العاجلة والآجلة، وإنما كان رعية الغنم بمكة توطئة وتقدمة لبعثته -صلى الله عليه وسلم- لأن هذا العمل مدعاة إلى التحلي بجميل الصفات كالتواضع والسكينة والوقار مع مافيه من اشتغال الراعي بالرعية وبذله الأسباب التي تؤدي إلى سلامتها وقوتها فيعتني بها ويرتاد لها المراعي الخصبة ويبتعد بها عن الأراضي المجدبة، ويحميها من الذئاب، ويسلك بها الطرق السهلة ويحيد بها عن السبل ذات الشدة والوعورة، وهذه سنة الله في رسله كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامة عليه ولله الحكمة البالغة في ذلك، فمزاولة مثل هذا العمل فيه ترويض للنفس وتهيئة لها للقيام بأعباء الرسالة، فهو بلا شك درس عملي لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم يكسبهم مرونة وخبرة لينتقلوا من تربية الحيوان إلى تربية بني الإنسان..

    كلمات مفتاحية  :
    محمد رسول الله

    تعليقات الزوار ()