وقفات مع شهر المحرم
كتبه/ عبد المعطي عبد الغني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فهذه وقفات مع شهر المحرم نرجو من الله نفعها في الدنيا والآخرة.
الوقفة الأولى "المحرم أحد الأشهر الحرم":
قال الله - تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)(التوبة: 36)، فاختص الله من بين شهور السنة أربعة أشهر جعلها حُرُماً، ونهى عن ظلم الناس فيها، وهي ثلاثة أشهر متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، وشهر فرد هو رجب.
وشهر المحرم أحد هذه الشهور، وهو مفتتح العام، فعلى العاقل أن يتدبر صَحْوَه وسُكْره، فقد انقضى عام وهو على مشارف آخر، وقد صار بين مخافتين: بين عُمُرٍ قد مضى لا يدري ما الله قاضٍ فيه، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه.
فليأخذ البصير من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن صحته لسقمه، ومن فراغه لشغله، ومن غناه لفقره، فالعمر جوهرة ثمينة، ما لها من عِوض، والعبد أيام مجموعة إذا ذهب يوم ذهب بعضه.
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت فيه شمسه، نقص فيه عمري، وما زاد فيه عملي".
فإياك والغفلة، وقد اقـتربتَ من الموت والقبر والملكين والحساب بمقدار عامك الذي مضى، وشدتك الآخرة بحبل عمرك إليها شداً.
فحاسب نفسك حساب من لا يأمن غدرها، وقرِّعْها على تقصيرها، واشدد عليها في ميادين العلم والعمل، وألهب ظهرها بسوط الخوف والخشية، واحدُها إلى الآخرة بذكر والجنة، وابك على ما فات، واسكب العبرات، عسى دموع الندم أن تغسل أدران السيئات، وسارع إلى التوبة، وفر من ذنوبك فرارك من نار وقودها الناس والحجارة، والجأ إلى من أسمعك نداءه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر:53).
الوقفة الثانية: (المحرم شهر الله):
لما أضيف شهر المحرم إلى الله علم أهل الخير فضله، فالله لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، كما أضاف البيت إليه قال - تعالى-: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ)، وناقة صالح فقال: (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)، وهذه الإضافة إضافة تشريف.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- بأن صيامه أفضل الصيام بعد رمضان، أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل)(رواه مسلم).
الوقفة الثالثة: (يوم بسنة):
إنه يوم عاشوراء، اليوم العاشر من شهر الله المحرم، كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يصومه ويتحرى فضله على الأيام، ففي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه سُئل عن يوم عاشوراء فقال: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوماً يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم -يعني يوم عاشوراء-، وهذا الشهر - يعني رمضان-)(رواه البخاري ومسلم).
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه- أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن صيام عاشوراء فقال: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).
فيا من أثقلته ذنوبه، وأقلقته جرائره، وسوَّدت المعاصي صحائفه، قد وافاك يومك، فأظمئ نفسك عساك تُسقى من رحيق مختوم ختامه مسك، يطوف به ولدان مخلدون، كأمثال اللؤلؤ المكنون.
تخفف من أحمال أوزارك قبل يوم القيامة، حيث لا تزر وزارة وزر أخرى، فسيفر منك أحب الناس إليك، أمك وأبوك، وزوجك وأخوك (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)(عبس 34-36)
الوقفة الثالثة: عاشوراء شكر وولاء:
صَوم عاشوراء كان معروفاً عند أهل الكتاب، ففي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء. فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يومٌ عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: فنحن أحق وأولى بموسى منكم. فصام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه).
يوم عاشوراء شكر لله على نجاة موسى من فرعون، فاستحضر قدرة ربك، وعظمة خالقك، كيف أنه ينصر أولياءه، بأسباب وبغير أسباب. إن عصا موسى لم تكن تساوي شيئاً بالموازين المادية أمام قوة فرعون وجنوده، لكن الله لا يعجزه شيء، وأمره بين الكاف والنون، إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون، صرخ بنو إسرائيل (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أجابهم من قلبٍ مليء باليقين، والثقة برب العالمين (قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، فأُمر بأن يضرب البحر بالعصا، فما تلكأ وما عصى، فصار البحر كالطود العظيم، وشُقَّ في البحر طريق يبس، ونجَّى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وجنده.
ما أحوجنا إلى استحضار قول الله - تعالى-: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم- في الغار لأبي بكر: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) أنهما خرجا من مشكاة واحدة، فمن كان الله معه فمن عليه؟ ومن كان الله عليه فمن معه؟
ما أحوجنا إلى استحضار معية الله - تعالى-، والأخذ بأسبابها فالله مع المتقين، والله مع المحسنين، والله مع الصابرين، والله مع الذاكرين.
في وقت هزمنا نفسياً قبل أن ندخل المعركة، وصرنا نزن بموازين مادية بحتة، فمن قائل: ليس من الممكن أن تعود الأرض، ليس من الممكن أن تطهر المقدسات، أنى لنا بحرب هذه الدولة ومِن ورائها تلك الدول؟
هزيمة نفسية لسانها حالها ينطق بـ (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِه)، لكنّ أهل اليقين لا يعرفون الهزيمة، يستحضرون معية الله، ويدركون أن الآخرة خير وأبقى (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة:الآية249).
وقد صام موسى هذا اليوم شكرا ً، فالنعم تقابل بالشكر، فكيف وقد أمر الله به (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(البقرة:152).
فعلى العبد أن يجدد لكل نعمة شكراً يلائمها، يحمد ربه بلسانه وقلبه وجوارحه، فالشكر وثيقة أمان لحفظ النعم وزيادتها قال - تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(ابراهيم:7).
أنا أولى بموسى منكم:
فالأنبياء إخوة، دينهم واحد وأمهاتهم شتى، فالنبي - صلى الله عليه وسلم- أولى بإبراهيم وموسى وعيسى وكل إخوانه من الرسل والأنبياء، وكذلك أمته، فنحن أولى بكل نبي من أمته التي تنتسب إليه ولم تتبعه على دينه الحق.
قال - تعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(آل عمران:68).
ذلك لأننا آمنا بهم جميعاً، ولم نفرق بين أحد منهم، وكان إيماننا بهم على الوجه الصحيح الذي لا تحريف فيه ولا تبديل، والأمة شاهدة على تبليغهم ودعوتهم، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(البقرة:143)، فالولاء لله - عز وجل- ولدينه ولأنبيائه وأوليائه (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)(المائدة:55-56)
الوقفة الرابعة: حكم صوم عاشوراء:
وكان صوم عاشوراء في أول الأمر واجباً، وهذا قبل أن يفرض صوم رمضان، ففي الصحيحين عن الربيع بنت معوذ قالت: (أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه. فكنا بعد ذلك نصومه ونصوِّم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام، أعطيناهم إياها، حتى يكون عند الإفطار). وفي رواية: (فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة نلهيهم حتى يتموا صومهم).
فلما فرض صيام شهر رمضان صار صَوْم عاشوراء مستحباً، ففي الصحيحين من حديث معاوية - رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام، ومن شاء فليفطر).
الوقفة الخامسة: مراتب صوم عاشوراء:
لصوم عاشوراء درجات ثلاثة:
الأولى: إفراد العاشر وحده بالصوم.
الثانية: صوم التاسع والعاشر مخالفة لأهل الكتاب.
ففي صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه قال: (حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع. قال: فلم يأتِ العام المقبل حتى توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-).
وفي رواية عنه أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر).
فانظر كيف شرع النبي - صلى الله عليه وسلم- مخالفة أهل الكتاب في عباداتهم كما شرعت مخالفتهم في عاداتهم، لأن التشبه بهم نوع من موالاتهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(المائدة:51)
الثالثة: صوم التاسع والعاشر والحادي عشر.
كما رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن عباس - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : (صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود صوموا قبله يوماً وبعده يوماً).
الوقفة السادسة: بدع عاشوراء:
قد أحدث الناس بدعاً كثيرة في يوم عاشوراء، وهي مردودة على فاعلها، صيانة للدين، وحماية لجنابه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فإنه رد)(متفق عليه).
ومن ذلك:
1- الاكتحال في هذا اليوم خاصة.
2- صنع طعام يسمى بهذا الاسم ليؤكل في هذا اليوم خاصة.
الوقفة السابعة: الشيعة ويوم عاشوراء:
يتخذ الشيعة يوم عاشوراء مأتماً لأجل قتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما-، فيخرجون في تظاهرات دامية، يلطمون الخدود والصدور، ويدعون بدعوى الجاهلية، ويخمشون وجوههم وصدورهم، ويشقون رءوسهم بآلات حادة، فتسيل دماؤهم على وجوههم وصدورهم، وينادون الحسين.
وهذه بدعة منكرة، إذ تعطي لأعداء الإسلام صورة سيئة عن الإسلام، وتصد الأغلبية عن الدخول فيه، إذ تنقل لهم الشاشات صورة مشوهة عن الإسلام، أقل ما يوصف فاعلوها بالهمجية والتخلف، وهذا يُقَـَدم للغرب المندفع للدخول في الإسلام وكأنهم يقولون لهم: هذا هو الإسلام الذي ترغبون فيه.
- والإسلام برئ مما يفعله الشيعة:
1- لأننا أمرنا بالصبر على المصائب، ونُهينا عن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعوى الجاهلية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب)(رواه البخاري ومسلم). قال - تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(البقرة:155).
2- إن مصيبتنا بموت النبي - صلى الله عليه وسلم- أعظم من مصيبتنا بمقتل الحسين فلماذا لا نفعل هذا لموته، ولا لموت أحد من أصحابه الذين هم عند جمهور المسلمين أفضل من عليّ - رضي الله عنه- نفسه كأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما-.
3- أسألوا الشيعة الرافضة: لماذا يقيمون مآتم الحزن الدامية على الحسين، ولا يقيمونها على أبيه علي - رضي الله عنه- مع أنه عندنا أهل السنة وعندهم أفضل من الحسين؟
4- أسألوهم: لماذا تحمِّلون هذه الأجيال أوزاراً لم يفعلوها، وإنما فعلها الآباء أو الأجداد؟
ألم يقل ربنا -عز وجل-: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(الأنعام:164)، لو كان الأبناء يحملون وزر أبائهم لحمَّلنا عكرمة - رضي الله عنه- وزر أبيه أبي جهل، ولحملنا عبد الله - رضي الله عنه- وزر أبيه ابن سلول.
- إن كان آباؤكم قد خذلوا الحسين فاسألوا لهم الرحمة والعفو والمغفرة، وإن كنتم تشعرون بالذنب لذلك فالله غفور رحيم، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
- نحن نحب آل البيت ونترضى عليهم، لكننا لا نغالي فيهم، فلا ندعوهم من دون الله، ولا نسألهم الحاجات، ولا نطلب منهم المدد، ولا نصرف لهم العبادات كالحلف والنذر والطواف بقبورهم.
والحمد لله رب العالمين.