قاعدة الموازنات بين الإفراط والتفريط
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
من المسائل التي يدور جدل واسع حولها في أوساط الصحوة الإسلامية ما يسميه بعضهم بقاعدة "الموازنات" في الحكم على الأشخاص والجماعات، وهذه المسألة ـ كمعظم المسائل التي يدور فيها خلاف بين المنتسبين إلى السنة ـ ترجع كما قال شيخ الإسلام إلى الإجمال حيث يجب التفصيل، فنجد فريقاً يتمسك بقوله تعالى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا) (المائدة: 8) ونجد الفريق الآخر يتمسك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة).
ومن عجيب الأمر أنك تجد كثيراً من الباحثين المنتسبين إلى المنهج السلفي يتخلون عند دراسة بعض القضايا المعاصرة عن أهم مزية للمنهج السلفي، وهي الإيمان بالكتاب كله، والجمع بين نصوص الكتاب والسنة وعدم ضرب بعضها ببعض، والذي يفضي في النهاية إلى تفصيل تأتلف به الأدلة وتجتمع به النصوص، وإليك هذا التفصيل الذي نرجوا من الله ـ عز وجل ـ أن يوفقنا فيه إلى الحق والصواب.
فنجعل الكلام عن ثلاث مقامات مختلفة:
الأول: مقام التقييم الشامل لشخص أو لجماعة.
الثاني: مقام تقييم قول أو فكرة تحتاج إلى الحكم عليها بغض النظر عن قائلها.
الثالث: مقام المدح والذم.
المقام الأول
مقام التقييم الشامل لشخص أو جماعة
لا يخفى عن المتأمل أن هذه المسألة في غاية الأهمية لأنه يترتب عليها كثير من المسائل منها:
1- التكفير والتبديع والتفسيق، فإن هذا لابد فيه من معرفة أقوال وأفعال الشخص أو الطائفة محل الدراسة، ليعلم حكم الله في مثلها، ثم يعلم أحوال هؤلاء من وجود شروط تطبيق الحكم على المعين، وانتفاء الموانع من عدم ذلك، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى كون الكفر ليس على درجة واحدة بل بعضهم أكثر شراً من بعض (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً) (النحل: 88) فضاعف لهم العذاب لكونهم ضموا إلى الكفر الصد عن سبيل الله، وكذلك الذنوب منها كبائر وصغائر، والبدع منها ما يصادم كلياً من كليات الشريعة ومنها ما يكون بدعة جزئية.
والحكم على كل شخص بما يستحقه، لا يحتاجه فقط ذوي السلطان لتطبيق الحدود والعقوبات، ولكن يحتاجه كل أحد لأنه يترتب عليه الولاء والبراء القلبي اللذان يتجزآن، كفرع على مسألة زيادة الإيمان ونقصانه فيوالي المؤمن المطيع من كل وجه، ويعادي الكافر من كل وجه عداوة تزداد بزيادة صده عن سبيل الله، ويوالي المسلم بمقدار ما معه من إيمان ويبغضه بقدر ما معه من البدع والمعاصي.
كما يتفرع على هذا المدح والذم، وإن كنا قد أفردناه بالكلام لأن معظم الخصومة راجعة إليه.
ومن نظر في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على الفرق المختلفة يجد تطبيقاً واضحاً لهذا الأمر، فيذكر معتقد كل فرقة، ويفرق بين أقوالهم وبين لوازم أقوالهم فلا ينسبها لهم، وإن احتج عليهم بها، ثم يفرق بين النوع والعين فيما يتصور وجود شبهة فيه من جهل أو تأويل.
المقام الثاني
تقييم الأقوال والأفعال
إنه مما ينبغي العناية به في هذا الجانب أن الحق يقبل ممن جاء به، والباطل مردود على من جاء به، ومن النصوص التي يكثر الاستدلال بها في هذه القضية قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة لما أخبره الشيطان بأن آية الكرسي حرز من الشياطين قال: (صدقك وهو كذوب)، وكالعادة تمسك المطلقون لقاعدة الموازنات بهذا الحديث على إطلاقه، وأعرض الرافضون لهذه القاعدة عنه فلم يذكروا جواب، والصحيح ما ذكرناه إن شاء الله من أن الحديث يدل على قبول الحق ممن جاء به، ولا يلزم من ذلك ما يلزم به البعض من وجوب ذكر هذا الحق عن هذا الشخص كلما هممت بنقضه والحديث لا يسعفهم على ذلك وإلا فهل يلزم عند ذكر الشيطان أن نقول: وقد صدق أبا هريرة مرة، لا نظن أن عاقلاً يقول هذا.
وقبول الحق ممن جاء به ليس لمجرد الإنصاف فحسب، بل للاستفادة من ذلك متى وجدناه حقاً مشروعاً، أو مباحاً إذا كان الأمر يتعلق بالوسائل، كحفر الخندق الذي أخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل فارس، ولما كان من باب الوسائل، وكان الأصل فيه الإباحة أخذ به - صلى الله عليه وسلم -، وتظهر أهمية هذا في إدراك أن وجود قضايا مشتركة بين أهل السنة، وبعض أهل البدع لا تجعلنا نجعل هذه القضايا من جملة البدع، وقد غلا قوم في ذلك حتى عدوا الكلام في الحاكمية ولو بنصوص الكتاب والسنة وكلام أئمة السنة مشابهة للخوارج وعدوا الكلام في الإمامة موافقة للشيعة، وهكذا.
ومن ذلك اعتبار البعض أن كل فكرة ظهرت خارج الإطار السلفي فهي بدعة، فأصبحت الرحلات الهادفة للشباب ـ في حسبهم ـ بدعة إخوانية، وأصبحت قوافل الدعوة ـ وإن لم ترتب على نحو بدعي ـ بدعة تبليغية، وأما العمل الجماعي وإن كان تعاوناً على نشر الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة فهو بدعة خارجية إخوانية حزبية سرية ......... إلى ما شاء الله من الأوصاف.
وهذا مما ينبغي أن ينتبه إليه أن نسبة القول أو الفعل إلى فرد أو طائفة لا يقتضي مدحاً ولا ذماً، إلا إذا كان السياق يقتضي ذلك من أن يقول أهل العلم هذه أقوال الفرقة الفلانية ـ أي التي خالفوا بها أهل السنة ـ، ومعلوم أن هذا علم من تبين مخالفة هذه الأقوال للكتاب والسنة وفهم السلف، وليست مجرد صدورها عن فلان أوفلان.
المقام الثالث
المدح والذم
ذكرنا فيما مضى أن من ثمرات التقييم الشامل للأفراد أو الجماعات أن هذا يترتب عليه ولاء وبراء بناء على قاعدة تجزأ الولاء والبراء، وذكرنا أن المدح والذم فرع على ذلك، وعلى هذا فالحالة المثلى متى وجدت الظروف المناسبة وأمنت الفتنة أن يذكر لطلاب العلم التقييم الشامل لمن يتعرضون له من الأفراد والجماعات لكي يتمكنوا من إعطاء كل أحد حقه ولاء وبراء، ومن الأمور التي ينبغي العناية بها في هذا الموطن أن بعض أهل الخير قد يصل إلى درجة تغمر سيئاته في بحر من حسناته (وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) كما بينه شيخ الإسلام - رحمه الله - في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" الذي دافع فيه عن بعض من أخطاء من الأئمة في بعض المسائل لاسيما أبي حنيفة وسائر علماء الكوفة.
وأما من دونهم في العلم والفضل فالأمر يحتاج إلى التوازن بين التحذير من البدعة في شخص قائلها، وبين حق هذا المبتدع من الولاء على أصل الإيمان وعلى ما معه من موافقة السنة، وقد يترجح هذا في موطن، ويترجح هذا في موطن حتى مع هذا الشخص الواحد، ومن نظر إلى شدة كلام الإمام أحمد - رحمه الله - على القائلين بخلق القرآن حتى نسب إلى تكفيرهم، وبين عدم خروجه على من امتحنه على الفتنة منهم بل دعاؤه لهم واستغفاره لهم، يحدد لك مثالاً واضحاً لما ذكرنا.
وكذلك ثناء شيخ الإسلام على أمراء المماليك الذين قادوا الهجوم ضد التتار لما وجد أن البعض قد يستثمر الأخطاء العقدية، حيث كانوا على مذهب الأشاعرة، والفقهية، حيث كانوا مقلدة متعصبين، بل والسلوكية أحياناً، في منع الناس من قتال التتار تحت رايتهم، ولا يتأتى مثل هذا المدح لرجل أشعري في بيئة سنية لا هم له إلا إخراجهم من السنة إلى البدعة.
الحاصل أنه مع بقاء الأصل العام من إحقاق الحق وإبطال الباطل، يمكن أن تكتف بذكر الباطل الذي عند شخص ما تنفيراً ما لم يترتب على ذلك مفسدة أكبر، كما حذر الإمام أحمد من الحارث المحاسبي، وأما إذا خفت أن يضيع حق كأن يُقدم البعض على قتل مبتدع تبلغ بدعته مبلغ الكفر، أو أن تضيع مصلحة كبيرة للمسلمين كمن أرادوا القعود عن قتال التتار مع المماليك فلابد هنا من التفصيل.
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن قاعدة البدعة أحب إلى إبليس من المعصية - هذا من حيث الجنس -، فجنس البدعة أعظم من جنس المعصية، ولكن البدع المختلف فيها كوضع اليدين على الصدر بعد الرفع من الركوع ـ عند من يرى بدعيتها ـ وكصلاة التسابيح ـ عند من يرى بدعيتها ـ، ليست كالمعاصي المتفق على حرمتها كما أن البدع فيها كبائر وصغائر، والمعاصي فيها كبائر وصغائر، ولا يمكن أن يجعل من زاد صفة أوهيئة في ذكر أو ورد كمن يزني أو يشرب الخمر. نقول ذلك لأن البعض طرد هذه القاعة طرداً لا نظن أنه قال به أحد من أهل العلم عبر التاريخ، وهو أن من أخطأ ناسباً خطأه للدين أعظم خطراً أو ضرراً ممن لم ينسبه، هكذا دون تفصيل، فأصبحوا عندهم أن من أخطأ في تقدير مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، أعظم خطراً على الأمة ممن يحكم بغير ما أنزل الله، لأن الأول نسب خطأه للدين والثاني لم ينسبه، وأصبح عندهم من يخطئ في تغيير المنكر أشد ضرراً من صاحب المنكر ذاته، وياليتهم يبدأون بمن يرونه أكثر ضرراً ثم يثنون بالثاني، بل يستغرقون حياتهم في الطعن على أهل الدين بزعم البدع التي قد لا يكون معظمها بدعاً في الحقيقة حين يسلم المنافقون والعلمانيون والعصاة من ألسنتهم وأيديهم.