بين الدولة اليهودية والدولة الإسلامية (2-2)
"تحت أنفاق الجيتو"
كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
من المثير للسخرية أن يطالب اليهود بدولة يهودية آخذة في التوسع أو مفعمة بالنشاط -حسب تعبير بوش، بينما دأب اليهود الأثير منذ القدم أن يعيشوا في "جيتو" خاص بهم يشهد دسائسهم وعاداتهم، وأحياناً سحرهم ودعارتهم!
وتخيل معي تلك الدولة التي تحمل خصائص حارة اليهود بكل خصوصيتها وتربُّصِها وسريّتها، فهل يا ترى ستشهد هذه الدولة الممارسات التي اعتاد اليهود على فعلها في حاراتهم، مثل قربان الدم في أعياد الفصح مثلاً على النحو الذي أثبتته الوثائق في حادثة الأب توما في سوريا قبل أكثر من عقد من الزمن؟
هل ستشهد ممارسات أكثر وحشية من ذلك وأكثر دموية مما يفعلونه بالفلسطينيين ما دام الأمر يتعلق بدولة يهودية خالصة كتلك التي يطالبون بها الآن، والتي تعني طرد أو تهميش الفلسطينيين ومنع اللاجئين من العودة وضياع القدس؟ لا أرانا الله -تعالى- ذلك ولا حدث.
دعونا نعطر مسامعنا بمعالم الدولة الإسلامية، ونظامها الحضاري؛ لندرك كم حرمت البشرية بغياب هذا النظام الرائع :
- الدولة الإسلامية دولة تقوم على العقيدة، وعقيدتها هي التوحيد، وهي دعوة يسيرة مقبولة لا شطط فيها ولا زيغ، حيث يعبد الناس ربهم ويحتكمون إليه ويطلبون منه ويدعون إليه، وهي تنطلق من الإيمان باليوم الآخر، فهي دولة تعمل في الدنيا لتنال الأجر في الآخرة ترجو رحمة الله وتخشى عذابه، وفي ذلك بناء لصرح كبير في البشرية، يشيع فيها العمل الصالح وتقوى الله وحسن الخلق، وذلك أكثر ما يدخل الناس الجنة فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: تقوى الله وحسن الخلق) رواه الترمذي وحسنه الألباني، والدولة الإسلامية تتبنى عقيدة التوحيد، وتدعو إليها بكل صبر وحكمة وموعظة حسنة، وهي تحميها وتدافع عنها، وتفديها بكل رخيص وغال إذا لزم الأمر ووجدت عنتاً وصداً وانحرافاً.
قال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)(آل عمران:110)، وهي بذلك دعوة عالمية منفتحة على الناس لتدعوهم وتعطيهم ما عندها كما قال -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)(التوبة: 6).
أما اليهود - موضوعنا هنا- فهم عنصريون من هذه الناحية، لا يرغبون في دعوة أفراد جدد إليهم، بل هم كَنَادٍ مغلقٍ لا يدخله إلا أفراد معيـّنون، ولذا فالدولة اليهودية مغلقة والإسلامية منفتحة الفكر، فلا يُحرم من الانتماء إليها أي شخص أراد أن ينتمي، بل بمجرد النطق بالشهادتين يدخل المرء في الإسلام، ومن ثم يصبح له كافة حقوق المسلمين، ويعامل بكل أخوة ومحبة حقيقية، ويتبوأ أعلى المناصب ما دام مستحقاً لذلك، وهذا أعدل من أن يكون المرء مرتبطاً بجنسية من خلال الانتماء لأرض، لأنه يصعب عليه الإقامة والترقي إلا من خلال نظام تلك الدول.
ويستلزم من ذلك الانفتاح أن تكون الدولة الإسلامية دولة تقبل كل من يرغب في الانضمام إليها من رعايا الدول الأخرى، فكل من أراد الإقامة فيها فله ذلك بغض النظر عن دينه، فهو يعيش فيها بأمان، ويدخل في ذمة المسلمين -إذ يؤدي ما عليه من واجبات من التزام أحكام الإسلام ودفع الجزية-، ويحرم الاعتداء عليه أو انتقاصه حقه أو منعه من التصرف في ملكه، كما يمكن لغير المسلم تبوأ كثير من المناصب التي في الدولة ما عدا المناصب التي بها صفة دينية أو سيادية، كالإمامة والقضاء وما يشبههما.
ولا تنس هنا أن الواقع في كل دول العالم هو أنها تطبق التفرقة بين من يتبوأ مناصب مختلفة على أساس الدين، وإلا فهل تسمح انجلترا -واقعياً وليس ادعاءً- مثلاً أن يقودها كاثوليكي، فضلاً عن أن يكون مسلماً؟ دعك بالطبع من الكيان الصهيوني ويهوديته المعروفة فلا داعي للنفاق واتهام الدولة الإسلامية بالتفرقة بين رعاياها، وهي التي أرست قواعد العدل والإنصاف بين الجميع حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما احتاج إلى شعير لإطعام أهله -و لم يكن عنده المال الذي يشترى به هذا الشعير؛ لأنه كان ينفق كل ما يأتيه في سبيل الله- لم يشأ أن يأخذ الشعير إلى أجل من بعض أصحابه حتى لا يعلمهم بحاجته فيعطونه بلا ثمن، وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- غاية في الإحسان مع أصحابه، ولكنه أخذ الشعير إلى أجل من يهودي، وأعطاه أعلى ما يمكن من ميثاق و هو الرهن، فرهن درعه عنده -صلى الله عليه وسلم- حتى مات وهى عنده؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير) رواه البخاري، و هذا منه -صلى الله عليه وسلم- غاية العدل مع أهل الذمة والوفاء بحفظ أموالهم حتى لو كان ذلك في تعاملٍ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه.
الدولة الإسلامية دولة الحقوق والأخلاق الراقية منذ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(المائدة:1) فعرفت البشرية احترام الحقوق في التعاقد وفي الحروب وفي التعامل الإنساني، وذلك انطلاقاً من الإعلان القرآني للناس جميعاً بتساويهم عند الله فلا فضل لإنسان على غيره عند الله وفي شرعه إلا بتقواه قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات: 13)، فالنفس الإنسانية المعصومة، مصونة مكرمة لا يجوز الاعتداء عليها بغير حق أو الإساءة إليها بحال، كتهديدها أو استغلالها أو اختطافها أو استضعافها قال -عز وجل-: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)(المائدة: 32).
قال العلماء: إن قتل نفسٍ محرمة بغير نفس، أو فساد في الأرض، قتل للناس جميعاً -أي في الإثم-، وإحياؤها -أي التسبب في إنقاذها- إحياء للناس جميعاً.
ونحن في عصرنا هذا نجد انتهاكات الحقوق فاقت الحد فالإنسان المعاصر -لاسيما الغربي- اعتاد القتل بالجملة بالقنابل النووية والعنقودية!
واعتاد هؤلاء الاعتداء على حقوق البشر، وانتهاك حقوق الأطفال وخطفهم من بلادهم، و تشغيلهم من قبل شركات عالمية بأقل الأجور وظهرت مافيات الاتجار بالأعضاء، ومافيات دعارة النساء، والاعتداء الجنسي على الأطفال، وكل تلك المشكلات لم يعاني منها المجتمع المسلم -على تفريطه-، وذلك للخلفية الفكرية المستمدة من الإسلام الذي كرم الإنسان، وأمر بالرحمة بالبشر، ونظرة تأمل في التكافل بين المسلمين تبين عن الأخلاق العظيمة التي جاء بها الإسلام.
الدولة الإسلامية دولة الشورى ودولة العلم، ولقد حقق الإسلام تلك المعادلة من حيث ارتباط الناس بالنصوص الشرعية بعمومها وخصوصها، ومع ذلك فقد دعا الإسلام إلى استخدام العقول، وإلى ضبط المجتمعات بتلك الشورى التي هي تعبير عن رقي المجتمع وتماسكه، واستفادته من خبرات أصحاب الخبرات ورأي ذوي المشورة، فهو بذلك يدحض فكرتين معاً... فكرة الحكم بالحق الإلهي التي تجعل الأفراد تروساً في آلة لا رأي لهم إلا رأي حاكم يدعي العصمة... هذا من جهة، ومن جهة أخرى يدحض فكرة إطلاق العنان للعقول لتبدي الرأي في كل الشؤون دونما مرجع أو منهج -خلافاً للديمقراطية-، لذا فقد جعل الإسلام التعامل مع أحوال المجتمع من خلال نظامين:
1- ما ورد فيه نص شرعي فيجب اتباعه وتكون الشورى فيه في كيفية تطبيقه.
2- ثم ما لم يرد فيه نص شرعي وهنا موضع الشورى، لتعمل العقول بالعلم في فهم وبيان الأمور لتصل إلى أعدل تطبيق يتوافق مع روح الشريعة، وتوجيهاتها العامة.
ولذا فقد قامت في هذا المناخ الحر والصحي نهضة علمية تجريبية تربى عليها الغرب وشهد بذلك المنصفون منهم.
وبعد، فهذه رؤوس أقلام في معالم الدولة الإسلامية التي أسأل الله -تعالى- أن يوفق الأمة الإسلامية إلى الوصول إلى قمتها السامقة، وأن تعتز بها وتدعو إليها لتحقق التوازن المطلوب، ولتتعرى دعاوى الآخرين الذين يريدون دولة تحت أنفاق الجيتو!