مرحلة البلوغ وما يترتب عليها
كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فالبلوغ تحول كبير في حياة الإنسان يودع فيه الشاب -أو الفتاة- مرحلة الطفولة ليدخل مرحلة التكليف وتحمل المسئوليات، ومع بدايات البلوغ يشعر الشاب أو الفتاة بالتغيرات البدنية والفكرية والنفسية التي تنتابه، يدرك معها أنه أصبح كائنا جديداً.
إنها مرحلة المراهقة التي ينبغي أن تتغير معاملة من حوله له فيها، إذ يرفض المراهق فيها أن يعامل كصغير، وقد ينحاز إلى أقرانه ضد من حوله ويظهر الميل إلى التمرد إن لم يدرك من حوله طبيعة ما يمر به ويعانيه، لذا فهو يحتاج إلى قدر من الحرية المحسوبة ومن الاستقلالية المطلوبة مع ربط ذلك بتحمله للمسئوليات، ومحاسبته برفق وحب مع حزم على ما يخطئ فيه، مع مراقبته عن بعد مراقبة واعية، تؤهله للمستقبل وتحفظه من الانحراف.
ويجمع المربون والمصلحون على أن فترة المراهقة هي أخطر مراحل حياة الإنسان، وأنها أكثر الفترات عرضة للانحراف في حياة الرجل أو المرأة على السواء فالبالغ في مرحلة المراهقة وإن أصبح له عقل يفهم ويعي به إلا أنه لم يبلغ بعد مرحلة الكمال العقلي، وليس له من الخبرة بالحياة كخبرة الكبار من حوله، وهو وإن أصبحت له قدرة على التحكم في عواطفه وأحاسيسه، لكنه لم يبلغ بعد مرحلة النضج العاطفي والنفسي الذي يـُقوم بها مزاجه، ويسيطر بها على عواطفه كما ينبغي خاصة في مقتبل العمر وعنفوان الشباب حيث الحماسة والاندفاع وتأجج الشهوة وقوة الغرائز إلى جانب القوة البدنية واكتمال الحيوية والنشاط فبين المراهقة والرشد فارق، ووصول المراهق إلى الرشد قد يحتاج لسنين.
لذا يقرر المربون أن المراهق حتى يبلغ رشده يعظم دور المربين حوله، في إرشاده برفق وتوجيهه بإحسان خاصة الوالدين: الأب مع ابنه المراهق والأم مع ابنتها المراهقة وكذلك يعظم دور مدرسيه وعلماء الدين في بيئته التي يعيش فيها، كما ينبغي على المجتمع ككل أن يحمي أبناءه المراهقين من الانحراف والوقوع في الرذيلة؛ بإبعادهم عما يثير غرائزهم ويوجج شهواتهم وأن يجعل أمامهم دائما القدوة الصالحة والنماذج الطيبة ويربطهم بسيرة الصالحين من سلف الأمة فالشباب في هذا السن يجنح إلى المثالية إن أحسن توجيهه إليها، وهو يحتاج إلى الالتزام بدينه والارتباط بالله -تعالى- ليسلم من أي صراعات أو اضطرابات نفسية توقعه في الحيرة والشك والارتياب وتعرضه لعدم الاستقرار الداخلي.
والبلوغ إعلان بنهاية مرحلة الطفولة، وعلامات البلوغ معروفة: اثنتان تختصان بالنساء وهما: الحيض والحمل، قال القرطبي: "فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما". وبالاحتلام: وهو أن يرى الغلام في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد، وبإنبات الشعر حول الفرج، وفيه اختلاف، قال ابن كثير: "والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع"، وقال: "دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: (عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فأمر أن ينظروا من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي). والحديث رواه أيضا أهل السنن الأربعة، وقال الترمذي فيه: حسن صحيح، وصححه الألباني. وكان سعد بن معاذ -رضي الله عنه- قد حكم في بني قريظة بقتل المقاتلة وسبي الذراري.
وتكلم في السن الذي يكون به حد البلوغ وما يترتب عليه من الإلزام بأداء الفرائض وإقامة الحدود، فقال الشافعي وأحمد: إنه خمس عشرة سنة لمن لم يحتلم، وهو مذهب الأوزاعي وابن وهب وابن الماجشون وعمر بن عبد العزيز واختاره ابن العربي، لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في الصحيحين: (عرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني).
وقيل في سن البلوغ غير ذلك، وهي اجتهادات وضعت في حق من لم نجد عنده سواها من العلامات ويصعب تعميمها ؛ لأن البلوغ يرتبط بعوامل عديدة وراثية وبيئية ونفسية وتتوقف كذلك على حالة البدن العامة من الصحة والعافية أو المرض والاعتلال وليس من المقبول ألا يعتد باحتلام شاب أو حيض فتاة لعدم بلوغ سن حدده بعض الفقهاء. كحد لمن لم تظهر عليه علامات البلوغ القطعية أو الظنية.
والبلوغ يعني القدرة على التناسل، وتأثر البدن بما يفرزه من هرمونات الذكورة أو الأنوثة مع قدرة العقل على الفهم والإدراك بما يعني الدخول في مرحلة الشباب وتخطي مرحلة الطفولة ويستلزم أن يكون هذا البالغ تحت المسائلة والمحاسبة ومسئولا عما يفعله ويقدم عليه، لئلا يسترسل في الاستجابة لغرائزه تحت تأثير التغيرات الفسيولوجية بلا ضوابط أو قيود ولا يخالف ما أدركه بعقله أنه من الصواب، أو يقدم على ما اقتنع بعقله أنه من الخطأ.
فالعقل مناط التكليف والنفس السوية تضبط عواطفها وتتحكم في غرائزها وإلا فسدت وأفسدت قال -تعالى- في بيان أدب الاستئذان: (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(النور:59)، فجعل الطفل الذي لم يطلع على عورات النساء ولا تأثير لهرمونات الذكورة عليه يستأذن في الأحوال التي يخشى فيها التساهل في ستر العورات عند النوم وفي الفجر وعند الظهيرة ثم أمر البالغ بالاستئذان في كل الأوقات حماية للعورات أن يطلع عليها من صار له بها اهتمام وفي نفسه تجاهها شهوة، وهذا إرشاد إلى أن البلوغ مرحلة تستدعي تلك التكاليف والأعباء وهذه الاحتياطات والآداب.
وباكتمال إفراز هرمونات الذكورة عند الذكور وهرمونات الأنوثة عند الإناث عند البلوغ وكذا باكتمال نمو جهاز التناسل يصبح الفرد قادرا على التناسل، وأداة من أدوات التكاثر في المجتمع، وهذا حقه. والزواج خير وسيلة لاتزان حالة الإنسان العاطفية والنفسية وحفظه من الانحراف، واستجابة للغريزة الجنسية المودعة فيه؛ شريطة أن يكون هذا الفرد قد ملك الباءة وظهرت عليه أمارات القدرة على تحمل مسئوليات الزواج وتبعاته، وإلا فليصبر وعليه بالاستعفاف بالصوم وملازمة الصالحين والمداومة على العبادات وشغل الأوقات بتحصيل العلوم الشرعية المطلوبة والعلوم الدنيوية النافعة وتنمية مواهبه وقدراته.
والعجب كل العجب ممن يسن قانونا يمنع الشاب أن يتزوج في مقتبل عمره ويطالبه بتأجيل زواجه وقد ملك الباءة ثم يبيح له أن يخادن الفتيات ويتخذهن خليلات بدعوى الحرية الشخصية ومنع كبت غريزته التي بين جنبيه فيحل له ما حرم عليه، ويحرم عليه ما أحل الله -تعالى- له!!
والبالغ إذا ظهر عليه صلاح حاله وحسن تصرفه في الأمور فقد دخل مرحلة الرشد: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) -أي البلوغ والحلم- (فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا)(النساء:6)، قال الحسن وقتادة في بيان معنى الرشد: صلاحا في العقل والدين, وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- والسدي والثوري: صلاحا في العقل وحفظ المال.
قال ابن جبير والشعبي: "إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده"، قال الضحاك: "لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله". قال القرطبي: "وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ وإن شاخ لا يزول الحجر عنه". فكل راشد بالغ، وليس كل بالغ راشد.