المواقف المصيرية... والأمراض القلبية، وسوء الخاتمة
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
يتعرض الإنسان في حياته لمواقف معينة تحدد قراراته فيها مصيره إلى سنوات وعقود من عمره، وربما تحدد مصيره إلى نهاية حياته، وربما كانت قراراته مؤثرة على غيره من أفراد أسرته ومجتمعه، وربما حددت قرارات القادة والعلماء والدعاة وزعماء الطوائف مصير أمتهم وطائفتهم إلى أجيال متتابعة، وربما قرون، وربما إلى يوم القيامة.
فتأمل في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لو تابعني عشرة من اليهود ما بقي على ظهرها يهودي إلا أسلم) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، فكان قرار الثمانية أو التسعة من أحبار اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، -رغم أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ورغم وجود القدوة الصالحة فيهم كعبد الله بن سلام -رضي الله عنه- الذي بادر بالإيمان أول ما ظهر له الحق-، كان قرارهم قراراً مصيرياً حدد مصيرهم ومصير أمتهم في الدنيا والآخرة إلى يوم القيامة.
وتأمل في قرارات مجمع نيقية الأول، وما اعتمده الأحبار والرهبان فيه من عقيدة التثليث، وألوهية المسيح، والصلب والفداء، واعتماد الأناجيل المحرفة دون غيرها، كيف كان أثره هائلاً في ملايين ملايين البشر عبر التاريخ، فضلاً عن مصير هؤلاء الأحبار والرهبان والملوك أنفسهم.
والنفس الإنسانية لها أغوار بعيدة العمق لا يعلمها إلا الله، وفي كثير من الأحيان تخفى أعماقها الدقيقة على صاحبها نفسه.
فإن ما أسره الإنسان في نفسه داخل في السر كما في قوله -تعالى-: (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ)(يوسف:77)، فكانت كلمة (فِي نَفْسِهِ) داخلة ضمن السر، والله -تعالى- (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)(طه:7)، فما هو أخفى من السر يدخل فيه ما خفي على الإنسان نفسه من دوافعه وأغراضه الخفية التي تطفو على سطح النفس لحظات معدودة، ثم يدفنها الإنسان ويخفيها في تلك الأعماق البعيدة حتى لا يعود يشعر بها، وهذه اللحظات هي التي ربما يتخذ فيها القرارات المصيرية التي يتحدد عليها مستقبل حياته.
ولقد أخبر الله -سبحانه- عن سبب إضلاله للكفار، وتقليب قلوبهم على الباطل، حتى صارت تراه حقاً، وترى الحق باطلاً فقال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(الأنعام:110)، فبين -سبحانه- أن إعراضهم عن الإيمان بالحق بما ظهر لهم كان سبباً في إضلال الله لهم، وأن الطغيان والكبر كان سبباً في العمه الذي هم فيه إلى يوم رحيلهم عن هذه الدنيا.
فالأمراض القلبية من الكبر والعجب والهوى والطمع في الرياسة أو المال أو الشهرة كانت دفينة في أعماق النفوس محركة للدوافع في حقيقة الأمر، رغم أنهم في أنفسهم يرون أنفسهم يحسنون صنعاً، ويدافعون عن الحق، ويتبعون سبيل الأسلاف الصالحين، ومنهم الأنبياء -عليهم السلام- فيا عجباً كيف تحول المنتسبون إلى موسى وعيسى وإبراهيم -عليهم السلام- إلى الشرك والوثنية والضلال المبين رغم حبهم للأنبياء، ورغبتهم في اتباعهم، وزعمهم حب الله -تعالى- والتزام أمره؟!
كانت الأمراض الخفية والشهوات الدفينة التي دفنت في أعماق النفس، وخفيت حتى على أصحابها، والتي لم يبادروا إلى علاجها بالوحي المنزل على الأنبياء حين طفت على سطح النفس في اللحظات المعدودة، وحين ظهر لهم الحق أول مرة، كانت هي العفن المدمر الذي ظل يعمل عمله في هذه القلوب والنفوس، حتى ضيعها وأضلها وخيبها في الدنيا والآخرة، حتى انفجرت مرة واحدة بهذا الخبث المنتن، والكفر الشنيع، والانحراف الهائل عن الحق الذي جاءت به الرسل.
وهذه الأمراض القلبية البغيضة هي أعظم أسباب سوء الخاتمة أعاذنا الله منها، فتأمل في حال إبليس وكيف ختم له بخاتمة الشقاء الأبدي بعد القرب والعبادة والأنس، أصبح في اللعنة والبعد والشرك والكفر والوحشة والعذاب بسبب كبره وإبائه وحسده وبغيه (إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)(البقرة:34).
ولا يزال المؤمن في خوف من سوء الخاتمة لسبب يخفى عليه نفسه يجعله الله ممن قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرجل يعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة) رواه مسلم.
وهو يضع نصب عينيه قوله -تعالى-: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ)(البقرة:266)، فإنما تحرق هذه الكبائر الباطنة جنات الحسنات والطاعات في أشد وقت يحتاج الإنسان إليها، ويتقلب حاله بها بعد الصلاح الظاهر فساداً ودماراً.
وأمتنا اليوم في مفترق طرق، ولحظات حاسمة يختار أفرادها لأنفسهم ثم لأمتهم مصيرهم ومستقبلهم بين مناهج شتى، ووسط صراعات عظيمة، فصراع الأمة مع أعدائها المعلِنين بعداوتهم وكفرهم من اليهود والنصارى والمشركين، ومع غير المعلنين بالعداوة -وهم العدو الواجب الحذر منهم أعظم- من الدعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
يقف في هذا المفترقِ القادةُ والعلماء والدعاة والأفراد مواقف متباينة غاية التباين:
- من موالاة تامة ومتابعة كاملة للأعداء، واختيار للوقوف في خندقهم، وتمرير مشروعهم إلى داخل الأمة التي عجزوا عن إبادتها، فلم يجدوا بديلاً عن المنافقين يمررون أعراضهم الخبيثة من خلالهم.
- إلى توسط في المواقف، ومحاولات للتخفيف من حدة العداوة، ولو على حساب العقائد الإيمانية والأدلة القرآنية والنبوية، فبدلاً من أن يوصف الكفر والنفاق بحقائقهما ويسميان بأسمائهما يخفف الكثير من الناس من ذلك؛ ظناً منهم أنهم يعملون لمصلحة أنفسهم أو أمتهم حتى "تمر الموجة"، وحتى نحقق بعض المكاسب الوقتية من استمرار جاه أو حالة أو مساحة، كمن يحاول التخفيف من العداء مع العلمانية، وموالاة الأعداء، وإن لم يتخذ نفس مواقفهم، ولم يقف في داخل خندقهم.
- إلى النقيض الآخر من مواجهة أعداء الأمة بالوسائل المختلفة، وإن وجد أيضاً داخل هذه الاتجاهات التباين بين تهور وإقدام، وحكمة، وتخاذل، وسكوت عن الحق، وتنازل، وصدع بالحق في موازنات بين المصالح والمفاسد هي أدق من الشعرة أحياناً، تحتاج إلى نفوس مليئة بالإيمان عامرة بالتقوى لتتجلى للبصائر الحقائقُ، وتزول الغشاوات، فلا يقبل كلام الزنديق الذي يتكلم بلسان الصديق.
ولو تـأملت أخي الكريم أنواع الانحرافات المعروضة على الأمة والتي يصرح الأعداء بالترويج لها دون خفاء ولا مواربة، ومحاولات العودة بالأمة إلى عصر الخرافة والخزعبلات باسم حب الصالحين، وتعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- وآل بيته.
لو تأملت محاولات تعضيد البدع، ونشر مناهج الانحراف التي تصل إلى الشرك بالله، وعبادة غيره -سبحانه- من مناهج التشيع الغالي، والتصوف المنحرف، وكيف عاد كل منهما يطل من جديد ليقتطع من الصحوة صفوفاً ظلت -بحمد الله- أجيالاً لا تنظر إلى الضلالات إلا على أنها فعلاً من الخرافة والدجل.
لو تأملت محاولات شغل الأمة بما يضرها ولا ينفعها بالقول باستحباب تقبيل حديد الأضرحة، والطواف بها، واتخاذ المساجد عليها؛ حباً في الصالحين بزعمهم، والذي تعلم من خلال التاريخ والواقع كيف يتحول هذا إلى درجات الغلو الفظيع الذي نراه ماثلاً أمامنا فيما يفعله عباد القبور من الرافضة وغيرهم عند قبور الأئمة.
لو تأملت أيضاً الفتاوى العجيبة التي تبرر التحلل والفساد، وتصحح المعاملات المحرمة من الربا والميسر بتسميتها بغير اسمها، حتى يكون ما يفعله اليهود وأعوانهم هيناً بالمقارنة إلى ما يراد للأمة في هذه الأبواب.
لو تأملت كل هذا -وكله باسم الدين والعلم- لعلمت مدى حاجتنا إلى تنقية نفوسنا، وإصلاح قلوبنا، والبحث عن العيوب والأمراض الخفية، فوالله ما اتُّخِذَت هذه المواقف المنحرفة إلا بسبب الأهواء والأغراض الخبيثة التي خفيت على أصحابها فضلاً عن أتباعهم.
ونحن في وسط هذا الزحام أحوج الناس إلى عون الرب -سبحانه- وتوفيقه لوزن الأمور كما ينبغي؛ لئلا نترك الواجب علينا باسم الحكمة، أو نتهور إلى ما يؤدي إلى الهلكة باسم البذل والتضحية، أو نفعل المحرم باسم المصلحة والتأليف بين الناس، أو نميع القضايا باسم استيعاب الناس ونحن في الحقيقة نقبل عيوبهم، ونترك أمراضهم تسري وتستشري لتفتك بهم وبنا.
نحن في أمس الحاجة إلى صلة وثيقة بالوحي، ووصل الناس به مباشرة مع الفهم الدقيق والعلم العميق بأنواع الأدلة والاستدلال.
نحن في أمس الحاجة إلى عبادة صادقة خالصة تحيا بها القلوب، وتبصر بها العقول حقائق الإيمان والسنن، وتتعظ بمواعظ القرآن والسنة.
نحن في أمس الحاجة إلى أخلاق سوية راشدة نتعامل بها مع كل من حولنا، فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا، فنزداد إيماناً نكسب به كل يوم مزيداً من الأرض الخصبة للدعوة.
نحن في أمس الحاجة إلى صبر على الحلال وإن صعب، وصبر عن الحرام وإن اتسع.
نحن في أمس الحاجة إلى إيثار وتحاب في الله، وعفة ألسنة، وسلامة قلوب من الحقد والحسد، والتنافس على الدنيا.
ولنعلم أننا لا ننال شيئاً من ذلك إلا بالله -عز وجل-، فلنصدق في اللجوء إليه، والتضرع والدعاء أن يمن علينا وعلى أمتنا بفضله، ويعفو عن زللنا وخطئنا بمنِّه، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.