الإنطواء
سلوك بعض الشباب من الجنسين يستوجب رقابة الاهل
الإنطواء سلاح ذو حدين وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة
تحقيق: دارين ابراهيم
رغم ان الوحدة سلوك يميل اليه كثير من الشباب من الجنسين الذين يجدون فيه ضالتهم تعبيراً عن عدم تأقلمهم مع المجتمع المحيط بهم، او لأن الآخر لا يفهم طباعهم، الا انها سلاح ذو حدين وقد تؤدي الى عواقب وخيمة او تترك آثاراً نفسية لا تحمد عقباها. التحقيق التالي يناقش هذه القضية منطلقاً من التساؤلات التالية:
هل العزلة سلوك سيئ أم جيد ؟
هل تشكل العزلة مشكلة إجتماعية ؟
هل يمكن استثمار عزلة الشباب ؟
تروي احدى الأمهات حكاية ابنتها مع الوحدة قائلة: قلقنا في البداية من رغبتها في الانفراد بنفسها في حجرتها لساعات، وسرعان ما تجاهلنا الأمر، واعتبرناه عارضاً لمرحلة المراهقة، وفضلنا تركها على راحتها كي لا تشعر انها محاصرة ومقيدة، ولكنه بعد حوالي العام من العزلة التي فرضتها على نفسها فوجئت بها، وقد كانت لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها تعترف لي بأنها على علاقة بشاب وأنه يرغب بالتقدم لخطبتها! تضيف الأم: أصبت بالذهول، ابنتي الانطوائية الخجول التي ترفض الخروج لمقابلة معارفنا وجيراننا، تحدثني بكل جرأة عن شاب تحبه! وعندما سألتها أين ومتى وكيف تعرفت عليه؟ قالت: انها تعرفت عليه من خلال غرف الدردشة (الشات) على الانترنت، وقتها ايقنت انها لم تكن في عزلة وانما كانت في عالم آخر. وبالفعل حدد الشاب موعداً ليتقدم لخطبتها وجلسنا جميعاً في انتظاره لكن لم يحضر، وابنتي اليوم في حالة نفسية سيئة، وقد حطمت حاسوبها، ولكن بعد فوات الأوان.
ويقول تميم عاقولة: إن الشاب يحتاج للوحدة وكذلك الفتاة.. شرط استثمارها بما يفيد، وأنا كنت اجلس ساعات طويلة وحدي رافضاً ان يزعجني أحد، وخلال هذا الوقت كنت حريصاً على ممارسة هوايتي في القراءة حتى ان والديّ دهشا لكمية الكتب التي كانت في غرفتي.
ويرى تميم ضرورة ان يحرص الشباب على عدم اضاعة الوقت والحرص على ممارسة هواية مفيدة، كالقراءة او الرسم او العزف او الرياضة وغيرها.
وقال: اذكر ان والديّ في البداية كانا يتضايقان من وحدتي ويتساءلان عن سرها، وعندما عرفا أنني امارس هوايتي في قراءة الكتب أصرا على معرفة نوعية هذه الكتب ولكني شعرت بالضيق من تدخلهما في شؤوني واحتجت لبعض الوقت كي أقدر خوفهما عليّ وحرصهما على مستقبلي، فعلى الشباب الا يضيقوا ذرعاً برقابة الأهل.
ويشاركه وسيم حسان الرأي مؤكداً ان “العيب ليس في الوحدة بحد ذاتها بل في اساءة استغلالها” فكما نعيش النهار نعرف الليل ومثلما نستمتع بصحبة الاهل والاصدقاء نجد أنفسنا في لحظات كثيرة وحدنا لذلك فعلى الانسان ان يكون حريصاً على وقته من خلال الاستغلال الأمثل له، ولكن رقابة الاهل قد تكون صارمة احياناً.
ويروي “سعيد.م” تجربته مع الوحدة ورقابة الأهل، فيقول: “يرفض والديّ ان أجلس وحدي ويفرضان علي ان اكون معهما دائماً، أشاهد ما يشاهدون واستمع لأحاديثهما.. اما اصدقائي فينبغي ان يظلوا محاصرين داخل أطر الزمالة المدرسية، ورغم أنني في الثامنة عشرة من عمري، وأستعد لدخول الجامعة، الا أنني بلا اصدقاء او رأي، ودائماً اكون مثار سخرية من اصدقائي وأذكر انه دعاني احدهم لمنزله، قال الآخرون له تراجع لأن سعيد سيحضر والده معه، او بالاحرى والده سيحضره.
ويتوق سعيد للحظات الوحدة، ويجدها مساء قبل ان ينام، وعلى ضوء خافت يجلس وحيداً يفكر ويقرأ رواية دسها بين كتبه لكنه يعاني من وحدة داخلية كبيرة.
ويقول: رغم أني بين أسرتي طوال الوقت، الا أنني اعيش في عزلة داخلية ولا أحد يفهمني. حصار الوحدة: اما أماني زلفنة فقالت: انفصل والداي وانا صغيرة، وسافر والدي الى امريكا ولم اعد اراه لأكثر من شهر في السنة، وتحملت والدتي وحدها مسؤوليتي، وكان عليها ان تعمل ليل نهار كي تدبر نفقات المعيشة، ولكن بالمقابل، اعاني انا من الوحدة.
وتضيف: حاولت مراراً دعوة صديقاتي للبيت، ولكن أسرهن ترفض لأني وحيدة في المنزل، فحاولت شغل وقت فراغي بأخذ دروس في الموسيقا ومشاهدة التلفاز، ولكن من الصعوبة على الانسان ان يعيش وحيداً، يبحث عن شخص يحاوره، يخبره بما حدث معه في المدرسة فقد اصبحت اتحدث مع نفسي في المرآة، او أغنّي بصوت مرتفع او اصرخ احياناً، وعندما شعرت اني اقترب من الجنون، توقفت وبدأت أجد في قراءة القصص التسلية التي ارجوها.
سلاح ذو حدين: ابتسام محمد أكدت ان الوحدة سلاح ذو حدين؛ فهي مفيدة وضارة في آن واحد، مفيدة ان كانت بالقدر المعقول الذي يحتاجه كل شخص يرغب في ممارسة هواية محببة الى قلبه، ولكنها ضارة ان زادت عن حدها، وامتدت لساعات، فالانسان اجتماعي بطبعه ولا يمكنه العيش بمعزل عن الآخرين، وتساءلت: تخيلوا حال شخص وجد نفسه وحيداً في جزيرة معزولة عن العالم.. رغم جمالها ستقتله الوحدة.
وترى ابتسام انه على الاسر حماية ابنائها من الوحدة، لأن بعض الآباء يظنون ان ما يحتاجه الابناء منهم هو المال فقط، وهذا غير صحيح لأن الابناء يحتاجون صداقة الوالدين ومحاورتهما، وبعض الشباب خجولون بطبعهم وتلهب سياط الوحدة قلوبهم ويعجزون عن تكوين الصداقات التي تعينهم على قتل الوحدة، لذلك فإن الأهل تقع عليهم مسؤولية مساعدة الابناء لتكوين صداقات.
وتشاركها جيهان بالغني الرأي، فتقول: الشاب الذي يسجن نفسه خلف اسوار الوحدة، لا يكتسب خبرة او مهارة ويظل يدور حول نفسه. وتشير جيهان الى عوامل عدة تجعل الشاب سجين وحدته، منها وجوده بين أخوة بنات أو بالعكس، وانشغال الابوين عنه، وخجله الذي يمنعه من المبادرة لتكوين أي صداقة وفي ذلك تقول: شقيق احدى صديقاتي اوصلته الوحدة لمرض نفسي، فهو خجول ووحيد بين اخوة كلهن بنات ودائماً يجلس في غرفته، يأكل او يشاهد التلفاز فقط، وفي النهاية كان لزاماً عليه ان يبحث عما يشعله، وكانت النتيجة اصابته بالوسواس القهري، فهو يغسل يديه اكثر من ثلاثين مرة في اليوم، ويحتاج لصابونة يومياً ولعلبة محارم ورقية كل يومين، ولعلبة شامبو كل اسبوع، وينظف غرفته بنفسه كل يوم بالديتول، ويغير ملابسه اكثر من مرة في اليوم الواحد، ولا يأكل الا اذا أعدت له والدته الغداء.
ظواهر غريبة:
الدكتور فلاح الغزوان الطبيب النفسي أكد ان مرحلة المراهقة تشوبها الكثير من الظواهر الغريبة مقارنة مع تصرفات الآخرين، وظاهرة الوحدة والانطواء واحدة من متلازمات هذه الفترة. وأضاف: هذه الوحدة تجعل الشاب لا يشعر بالطمأنينة او الاستقرار الى حد ما نتيجة التوتر الذي ينتابه خلال احتكاكه بالآخرين، والذي يمكنه ان يسبب له بعض الضيق في احيان كثيرة، لذا نجده يفضل العزلة لتجنب هذه المواجهة، اضافة الى ان المراهق يشعر بأن سلوكياته غير مؤهلة لمواجهة الآخرين نتيجة قلة الثقة بالنفس المرتبطة بالتوتر المرافق للمراهقة.
اما عن دور الأهل فيقول الدكتور فلاح: بامكان الاهل التدخل في هذه المرحلة من خلال تهيئة الاجواء المناسبة للمراهق وذلك باستحضار الجوانب الدينية داخل الاسرة وتوضيح اهميتها في تشكيل وعي الشاب، كما ان على الشاب استثمار وقت فراغه بممارسة الهوايات المفيدة وعلى الاهل تشجيعه على ذلك.
ويرى الدكتور فلاح ان الوحدة تكون نتيجة للفراغ الذي يعاني منه الشخص، ورغم ذلك يعاني بعض الشباب منها حتى وهم بين افراد أسرتهم وهو نوع خطير ويتطلب تدخل الاهل لأنه يحرم الشاب من تطوير مهاراته في الاتصال والتواصل مع الآخرين، وتبادل المعلومات والثقافات، كما يجعله متقوقعاً على نفسه، لذلك فالأهل مطالبون بمصادقة ابنائهم واخراجهم من الوحدة التي اذا زادت عن حدها قد تؤدي الى أمراض نفسية كالتأتأة عند الحديث والاكتئاب والهلوسة النفسية والوسواس القهري، كما ان الفراغ في ظل غياب رقابة الأهل ونقص وعي الشاب قد يؤدي به الى الانحراف.
ومن جانبه يشير د. محمد عبدالحميد استاذ علم الاجتماع في جامعة الامارات الى اختلاف مفهوم الوحدة في وقتنا الحاضر، مؤكداً انها لم تكن موجودة في السابق، فالشاب اليوم على صلة بالكمبيوتر والانترنت والموبايل والوسائل التلفزيونية وغيرها، واذا جلس الشاب في غرفته وحيداً فهو في الحقيقة يكون محلقاً في عوالم اخرى قد تكون خطيرة.
ويرى الدكتور محمد ان على الأهل عدم ترك الشباب بلا رقابة والأمر يقتضي الحرص على التواصل الحميمي بين افراد الاسرة وبناء جسور من الصداقة بين الأم وابنتها والابن وأبيه، وعندها سيتجنب الشباب بفضل نصائح الأهل الوقوع في شرك الفراغ، ولن يضيق برقابتهم، مشيراً الى ان الاسوأ من الوحدة هو استغلالها بشكل سيىء