حين يشتد الحال بالدول النامية، وتتفاقم مشاكلها الاقتصادية تلجأ الدول إلى طلب مساعدة صندوق النقد الدولي، وتكون هذه المساعدة في شكل قروض وتوصيات مالية ضمن برنامج تحدد فترته الزمنية، ويطلق على ما يشتمل عليه البرنامج من سياسات مالية واقتصادية "برنامج التصحيح الاقتصادي".. وهو بمثابة وصفة علاج ية لأمراض هذه الدول الاقتصادية، ولكن.. هل تُشفى هذه الدول على يد برامج الصندوق أم تراها تزيدها رهقا؟؟
نعرض هنا لأهم التقارير التي تناولت برامج الصندوق بدءا بتقارير الأمم المتحدة ومرورا بتقارير الصندوق ذاته ووصولا لأهم الأسباب وراء فشل برامجه في الدول النامية …
تقرير منظمة الأونكتاد
أوضحت منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في تقريرها للعام 1989 أن برامج التكييف والتصحيح التي طُبقت في الدول النامية المثقلة بالديون عادة ما تؤدي إلى انهيار مالي، وشرحت ذلك في الآتي:
1- أفضت إجراءات التكيف الانكماشية إلى ضغوط على الأنشطة الاقتصادية، وبالتالي تقل حصيلة الدولة من الضرائب المفروضة على الدخول العالية وعلى الأرباح التجارية والصناعية؛ الأمر الذي يسبب زيادة في عجز الميزانية.
2- يتم تخفيض الواردات كإجراء لتقليل عجز ميزان المدفوعات، كما يتم تخفيض الرسوم الجمركية بهدف تفادي نزعة الحماية، وكلا الإجراءيْن يعملان على تخفيض الضرائب الواردة من الواردات.
3- التخفيض الحاد في قيمة العملة الوطنية أدى إلى زيادة تكلفة خدمة الديون الخارجية مقدرة بالنقد المحلي، وكذلك زاد من تكلفة واردات القطاع العام، ومن ناحية أخرى فاقم من الضغوط التضخمية.
تقييم الصندوق لسياساته
أجرى الصندوق دراسة تناولت تقييم التطورات المالية في 23 دولة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية قامت فيها بتنفيذ برامج التصحيح التي يدعمها الصندوق خلال الفترة 1986-1991، وبينت نتائج الدراسة أنه لم يحدث سوى القليل جدا من التحسن في المؤشرات المالية الرئيسية، وأن الأداء المالي الشامل للدول التي نفذت برامج إصلاح اقتصادي كانت مخيبة للتوقعات، وبرر خبراء الصندوق ذلك بأن التغيرات الهيكلية التي ترسي الأساس لتحسين الأداء المالي في المستقبل لم تنعكس بعد بصورة كاملة.
وفي دراسات قُطرية أجراها خبراء من الصندوق والبنك الدوليين حول سياسات التصحيح الاقتصادي -تم نشرها في 1994- وجد أن استجابة الاستثمارات الخاصة التي يُعوَّل عليها في الإصلاح الاقتصادي –حسب رؤية الصندوق- كانت ضعيفة وبطيئة، وقد كان السبب يكمن -في أحد جوانبه- في الانخفاض الكبير الذي تم في الاستثمارات العامة، والذي أدى بدوره إلى تقلص الإنفاق على البنيات الأساسية؛ وهو ما كان له آثار عكسية على النمو وتراكم رأس المال الخاص.
تجربة دول أفريقيا جنوب الصحراء
دخلت معظم الدول الأفريقية في تطبيق برامج التصحيح الاقتصادي التي يعرضها صندوق النقد، وكان ذلك منذ منتصف الثمانينيات كمحاولة للتغلب على المشكلات الحادة التي تواجهها، وجاءت أهم دراسة صدرت من البنك الدولي في مارس 1994 تحت عنوان "التصحيح الاقتصادي في أفريقيا: الإصلاحات والنتائج والتوقعات" وشملت 29 بلدا أفريقيا جنوب الصحراء، وجاءت الدراسة بنتائج مهمة نذكر منها ما يلي:
كان الأداء الاقتصادي في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء ككل ضعيفا للغاية ومخيبا للآمال. وحاول خبراء البنك الدولي تفسير ذلك بالقصور في تنفيذ سياسات التصحيح، وليس الخطأ في الإصلاحات نفسها.
عانى 11 بلدا من تدهور سياسات إصلاح الاقتصاد الكلي، بينما شهدت 9 بلدان فقط تحسنا طفيفا، أما الستة بلدان الباقية فكان تحسنها أفضل من غيرها.
هناك عشرة بلدان أدت السياسات الزراعية والضريبية فيها إلى زيادة أسعار المنتجات بالنسبة للمصدرين، وهناك 15 بلدا فرضت قيودا شديدة على القطاع الخاص في المجال الزراعي.
بالنسبة لإصلاح الاقتصاد الكلي فإن هناك فقط 5 بلدان حققت زيادة متوسطة في نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد بلغت نقطتين مئويتين، بينما في بقية الدول هبط متوسط نمو الناتج بمقدار 2.6 %، وهبط معدل نمو قطاعها الزراعي إلى 1.6 %.
البلد الذي خفض قيمة عملته الوطنية ارتفعت فيه الأسعار المحلية بدرجة كبيرة.
لم يطرأ سوى تقدم قليل في إصلاح المؤسسات الحكومية والقطاع المالي، ورغم تحول العديد من البنوك التجارية إلى القطاع الخاص فإن إعادة هيكلة ورسملة هذه البنوك كان أقل نجاحا.
وانتهت الدراسة إلى أن الإصلاحات الهيكلية -رغم أهميتها- فهي غير كافية لتحقيق التنمية المستديمة؛ لأن ذلك يحتاج إلى عناصر مهمة ذكرها الفريق الذي أعد الدراسة بأنها تتمثل في الاستثمار في رأس المال البشري، والبنيات الأساسية، والإدارة السليمة، والمؤسسات الفاعلة.
مجموعة مختارة في أفريقيا
وفي دراسة أخرى أجراها فريق من البنك الدولي تم اختيار سبع دول أفريقية هي نيجيريا، والسنغال، وغانا، وساحل العاج، وبوروندي، وتنزانيا، وكينيا، وهي الدول التي تبنت برامج الصندوق للتصحيح منذ 1985، وقد قدمت الدراسة أجوبة عن الأسئلة البارزة على النحو التالي:
1- هل كان النمو كافيا في هذه الدول عند تطبيق سياسات التصحيح التي يدعمها الصندوق؟
تؤكد الدراسة أن البلاد التي نفذت برامج التصحيح بثبات واستمرار حققت نموا إيجابيا؛ بيد أنه لا يزال نموا غير كاف في مجموعه لإحداث أي أثر فعال للتخفيف من حدة الفقر، كما قالت الدراسة: "إن الانتعاش الاقتصادي لا يزال هشا".
2- هل كانت استجابة العرض والإنتاج قوية لتدابير التصحيح المطبقة؟ لما كانت هذه البلاد تعتمد على القطاع الزراعي، ثم قطاع التعدين والنفط؛ فإن الزيادة التي تحققت في إنتاج الدول السبع كانت كبيرة، ونما حجم صادرات المحاصيل النقدية في معظم دول المجموعة.
والنتيجة المهمة التي أظهرتها الدراسة أن نمو الصادرات كان مرتفعا، رغم تردي معدلات التبادل التجاري، وهذه النتيجة تؤكد ما ذهبنا إليه من تركيز الصندوق على تحويل الإنتاج نحو التصدير إلى دول المركز الرأسمالية.
3- هل ألحقت سياسات التصحيح ضررا بالفقراء؟
أوضحت الدراسة أن التصحيح الاقتصادي أدى – بوجه عام- إلى تحسين مستوى فقراء الريف، بينما ألحق ضررا بالغا بفقراء الحضر، ثم استدركت الدراسة قائلة: "إن الأمر الأكثر مدعاة للقلق هو أن النمو الذي تحقق حتى الآن نتيجة لسياسات التصحيح لا يزال غير كاف للإقلال من انتشار الفقر".
أسباب الفشل
يعود فشل برامج التصحيح الاقتصادي التي يدعمها صندوق النقد الدولي إلى جملة أسباب هي:
1- ضعف الهيكل الإنتاجي والقاعدة الاقتصادية في الدول النامية التي تميل إلى الضعف، وتبرز تشوهات كبيرة في الاقتصاد القومي مع ضعف المؤسسات الاقتصادية وعدم قدرتها على إحداث الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة.
2- تجاهل هذه البرامج لدور وتأثير العوامل الخارجية في مشكلات عدم التوازن في ميزان المدفوعات مثل تدهور شروط التبادل التجاري وزيادة أسعار الفائدة على الاقتراض الدولي وتزايد خدمة القروض الأجنبية وتقلبات الصرف وموجات الكساد العالمي، كما يركز الصندوق على العوامل الداخلية مثل المغالاة في سعر الصرف وارتفاع عجز الموازنة العامة وزيادة كمية النقود وسيطرة القطاع العام على تخفيض الموارد.
3- عدم الاعتراف بطبيعة الاختلالات الهيكلية في اقتصاديات الدول النامية، والتي تتطلب وقتا أطول وموارد مالية طويلة الأجل.
4- اتساع حجم الآثار الاجتماعية للتصحيح ونتائجها السلبية رغم محاولة الصندوق احتواء تلك الآثار وتقليل حجمها عن طريق المساعدة الفنية في وضع برامج للضمان الاجتماعي بالنسبة للفئات التي يقع عليه العبء الأكبر للتكيف وتوسيع دائرة شبكات الأمان والمساعدات الموجهة للفقراء.
التدابير المتخذة في هذا الاتجاه دائما تكون عاجزة عن تخفيف الآثار العكسية للتصحيح؛ وذلك لتآكل القيمة الحقيقية لمنافع الضمان الاجتماعي بسبب التضخم؛ وهو ما أدى إلى انخفاض الدخل الحقيقي للفقراء وظهور مجموعة فقيرة جديدة، وبذلك أصبح الفقراء يعيشون فقرا مدقعا في ظل سياسات صندوق النقد الدولي