قال الله- تبارك وتعالى -: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] {يوسف: 108}، وقال - سبحانه -: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران: 104}، وقال - عز وجل -: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت: 33}، وقال - سبحانه وتعالى -: [وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] {التوبة: 122}.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء عند البخاري في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما محملاً أمته مهمة الدعوة والبلاغ: « بلغوا عني ولو آية..»، وقال كما جاء في الصحيحين من حديث أبي شريح العدوي وأبي بكرة رضي الله عنهما-: « ليبلغ الشاهد منكم الغائب ».وقال -كما جاء عند مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه.. »، وقال -كما جاء عند أصحاب السنن من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهما رضي الله عنهما-: « نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع »، وقال لعلي - رضي الله عنه -كما جاء في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه-: « فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم ».
هذا جزء يسير مما ورد في القرآن العظيم والسنة المطهرة عن الدعوة إلى الله - تعالى -وهي فريضة مؤكدة وشريعة ثابتة في عنق كل مسلم، ولقد كان هذا المعنى مستقراً عند سلف الأمة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن سار على طريقتهم، فما كان الواحد منهم يسلم ويستقر الإيمان في قلبه حتى يعتبر نفسه مسئولاً عن تبليغ هذا الدين ونصرته وحمايته، فيصرف وقته وجهده وحياته في سبيل تحقيق ذلك.
إن من أوائل الأوامر الربانية التي نزلت في القرآن: الأمر بالنذارة وتبليغ الوحي للعالمين كما قال - تعالى -مخاطباً نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -: [يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2)] {المدَّثر}.
ولقد ربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على حمل الدعوة وتبليغها، ولقد كان من أول من دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - للإسلام أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، فلم يكن الصديق عالة على الدعوة وعبئاً عليها، بل تحرك من أول يوم ينشر هذا الدين ويدعو إليه حتى دخل بجهوده الدعوية في أول الأمر ستة من سادات قريش الشبان كعثمان والزبير وعبدالرحمن بن عوف وطلحة بن عبيدالله وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص.
وإن تحرك أصحابه للدعوة إلى الله في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، وانتشارهم في أقطار الأرض لتبليغ الإسلام والدعوة إليه لدليل على أن الشخصية التي رباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي الشخصية المتحركة النشطة بهذا الدين لا تعرف السكون ولا الكمون. لقد كانت حياتهم دعوة وجهاداً وتعلماً وتعليماً وتبليغاً.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "فالدعوة إلى الله - تعالى -هي وظيفة المرسلين، وأتباعهم هم خلفاء الرسل في أممهم والناس تبع لهم، والله - سبحانه - قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه، وضمن له حفظه وعصمته من الناس، وهؤلاء المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم به، وتبليغهم له، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثاً، وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله - تعالى -منهم بمنه وكرمه".
ويقول الإمام الغزالي - رحمه الله - في إحيائه: "وواجب على كل فقيه -فرغ من فرض عينه لفرض الكفاية- أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم".
إن التحرك للدين وبذل المجهود في الدعوة إلى الله والتمكين لشرع الله وإعلاء كلمته في الأرض يجب أن يكون عنصراً أصيلاً في وجدان كل مسلم، فلا يفتأ يحاسب نفسه في كل زمان ماذا قدم لدين الله؟ يتقلب في مضجعه قلقاً، لا يهنأ بنوم، ولا يطيب له عيش يفكر ويسعى ويبذل جهده في سبيل إيصال الحق إلى الخلق وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
إن المحافظة على الإسلام وحفظه من الضروريات اللازمة، فقد جعل العلماء أصول الضروريات التي يجب حفظها خمسة أمور هي:
حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال، وبدون حفظ هذه الأمور يعيش الناس عيشة البهائم بل أضل، وتفوت حياتهم الكريمة التي أرادها الله لهم.
وما فرضت الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والجهاد وغير ذلك من أحكام الله إلا لحفظ الدين كما قال - سبحانه -: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ] {البقرة: 193}.
إن جهوداً جبارة تبذل من قوى الكفر العالمي لتجهيل أجيال المسلمين بدينهم، وتشويش حقائقه وثوابته في أذهانهم، وغرس مفاهيم منحرفة، ورسم صورة متناقضة عن الإسلام، وهم يهدفون من وراء ذلك إلى إيجاد صورة من التدين المغشوش، إنهم لا يمانعون المسلم أن يكون مصلياً صائماً حاجاً، ويكون مع ذلك موالياً للكفار معجباً بهم يجعلهم قدوته فيأكل الربا ويشرب الخمر ويتحاكم إلى الطاغوت.. إلخ.
إن تمييع قضايا الإيمان وتكاليف الشرع والتلبيس والتشويش والتجهيل هي السياسة المرسومة التي يراد عولمتها وفرضها على المسلمين.
وأمام هذا التحدي الكبير فإن الواجب على المسلمين عامة وأبناء الحركة الإسلامية خاصة أن يقوموا بواجبهم في حمل الدعوة وجعلها قضيتهم الإستراتيجية وشغلهم الشاغل لا يجوز إهمالها أو التشاغل عنها ونسيانها، فما قامت الجماعات الدعوية والحركات الإصلاحية إلا من أجل القيام بمهام الدعوة إلى الله وتربية الأمة المسلمة وتعليمها، وإزالة الأمية والجهالة الدينية عنها، ولقد كان لرواد الحركات والدعوات الإصلاحية المعاصرة جهوداً جبارة بارك الله في تلك الجهود وآتت ثمارها فكانت هذه الصحوة الإسلامية المنتشرة في أرجاء المعمورة.. غير أن الأمد طال على بعض القلوب فقست ونست، ودب إليها اليأس وملت من كثرة التكذيب وعناد الباطل، واستبطأت نصر الله، فتركت مواقعها وفرت من ساحات المواجهة وآثرت السلامة فطمع بها حينئذ شياطين الإنس والجن ممن يدعون إلى الكفر والضلال والنار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، ولقد عاتب الله- تبارك وتعالى -الصحابة وهم صفوة هذه الأمة حين ظهر منهم بعض الفتور فقال: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] {الحديد: 16}، فكيف بنا نحن في هذا العصر الذي كثرت فيه المغريات والملهيات، وانتشرت الفتن المضلة التي تدع الحليم حيران، وتعصف تلك الفتن بالناس عصفاً شديداً تجعلهم يغيرون من مواقفهم وقناعاتهم ويرتد البعض على دينه فيصبح من بعد إيمانه من الكافرين كما جاء في الحديث الصحيح الذي خرجه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل » لقد آن لنا أن نخشع لله وندعو إلى سبيله. إن الله - تعالى -غني عن العالمين.. ومن يؤمن ويدعو ويجاهد فإنما ينفع نفسه ويسعى في إنقاذها وتحريرها: [وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ] {العنكبوت: 6}.
إن الجنة حفت بالمكاره والمشاق، والنفس تخلد للدعة والراحة وتحب العاجلة وتغفل عن الآخرة أليس هي الحياة الحقيقية الباقية: [وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {العنكبوت: 64}، وحتى لا يقع الإنسان في ورطات الغفلة والنسيان فيخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين، شرع الله الذكرى والنصيحة والموعظة ليبقى الإنسان على يقظة دائمة وعزيمة تامة، يجتاز بها الصعاب والعقبات حتى يلقى الله وهو على إيمان ودعوة وجهاد وعمل صالح والذكرى تنفع المؤمنين.
إنه لا بد من أن تتضافر الجهود الفردية والجماعية وترسم الخطط للنهوض بالدعوة نهضة شاملة يتعاون فيها الجميع ويتواصون بها عملاً بقول الله - تعالى -: [وَالعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)]. {العصر}.
اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين، اللهم آمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.