وهذا الموضوع من الموضوعات التي رأيت أن كثيراً من شباب الصحوة، وأجيال الدعوة يتحدثون عن بعض ظواهره، ويسألون عن بعض مشكلاته وعوارضه، فأحببت أن أطرقه طرقاً يحيط بأصوله من الناحية النظرية والفكرية، ويلمّ كذلك بمشكلاته من الناحية التطبيقية العملية.
أهمية العاطفة:
وهي تتضح من خلال أمرين اثنين:
الوجه الأول منهما: أن العاطفة فطرة بشرية، والله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق الإنسان، وهو العليم به كما قال - جلا وعلا: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}، وكما قال - سبحانه وتعالى -: {فطرة الله التي فطر الناس عليها}؛ فإنه - جلا وعلا - قد خلق الإنسان قبضة من طين، ونفخة من روح، وجعل له عقلاً يفكر، وعاطفةً تؤثر، وبيّن عقله وعاطفته، أنزل له شرعاً يوجه العقل، لئلا يشذ، ويحكم العاطفة لئلا تند، وبالتالي فإن طبيعة الإنسان وخصيصته البشرية أن العاطفة جزء أساسي فيه، بل جزء مميز له؛ فإن الإنسان في حقيقة الأمر مجموعة من العواطف، وكتلة من المشاعر، عنده حب متدفق، وقد يعتريه أحياناً بغض لا حد لمنتهاه في الانتصار للنفس، أو تدبير الكيد لذلك المبغض، وكذلك عنده راحة وطمأنينة، ويعتريه قلق وهم، وأحياناً يكون في صورة من الأنس والانشراح، وأحياناً يكون في وقت من التبرم والضيق وكل هذا نوع من صور العاطفة في نفس الإنسان، والحق أن الإنسان بلا عاطفة، كجثة هامدة، لأن العضلات والجوارح والمفاصل المكونة للجسم البشري - ليست هي التي تعبر عن كنه الإنسان، بقدر ما يعبر عنه قلبه وعاطفته، ولذلك نعرف اليوم ما يسمى بالرجل الآلي، أو قد يطلقون على الكمبيوتر العقل الإلكتروني فهذا إن تجاوزنا على أنه عقل مفكر، لكننا بهذه التسمية - على إقرارنا لها - لا نصف هذه الأشياء بأن لها عاطفة! هي عقل صرف إن تجاوزنا عن حقيقة العقل الذي يفكر ويغيّر، وليس هو مقيداً تقيداً كاملاً، لكن ليس له عاطفة، فالإنسان بلا عاطفة كما نسمع في تعبيراتنا كأنه حجر، أو كأن قلبه من صخر لا يتأثر، يرى الفواجع فلا يهتز له جفن، ولا يخفق له قلب، يرى المباهج والمناظر الجميلة، فلا تفتّر شفتيه عن الابتسامة، ولا تجد في عينيه بريق سعادة، إن هذا في حقيقة الأمر كتلة من صخر، أو أسمنت ليس فيه أية مشاعر، ولذلك قال بعض الأدباء - مع التجاوز عن بعض ما في هذه الكلمة-: " من لم يطربه خرير المياه في الأنهار، وتغريد الأطيار، وحفيف الأشجار، فليبك على نفسه فإنه حمار أكرمكم الله منعدم المشاعر والأحاسيس.
إذاً العاطفة أصلاً هي جزء رئيسي من تكوين الإنسان، وفطرة وجبلة مما جبله الله - عز وجل - عليها.
الوجه الثاني:
أن العاطفة فريضة إسلامية؛ ذلك أن الإيمان مهيمن، لا يقبل أنصاف الحلول، لا يقبل منك أن تنطق باللسان، وليس هذا في حد ذاته كافياً في وصف الإيمان، قد بين الله - جلا وعلا - في شأن أهل النفاق الذين يقولون آمنا بألسنتهم وأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، ولا يكتفي منك أيضاً بمجرد الامتثال بالحركات والأعمال؛ فإن ذلك قد كان دأب المنافقين أيضاً {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً}؛ فإن الإيمان شرطه أن يستولي على القلب، وأن يضرب أوتاده في أعماق النفس، ولا يرضى إلا أن يكون حاكماً على كل إحساس، وعلى كل شعور، وعلى كل خفقة قلب، وعلى كل خطرة قلب، وعلى كل خلجة نفس، لابد أن تحكم بهذا الإيمان؛ لأن الإيمان يغيّر الإنسان من داخله، فيغيّر مشاعره، ولذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: (إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، فليس لك أن تحب كما شئت، أو أن تبغض كما شئت، أو أن توافق هوى نفسك، أو طبيعة ظرفك أو أسلوب تربيتك، بل إذا تغلغل الإيمان في قلبك وجّه هذه العواطف، ولذلك قال - سبحانه وتعالى -: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين أمنوا أشد حبا لله}، فهذا الحب المرتبط بالله - عز وجل -، والمحبة المتصلة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحبة الأخوة الإيمانية بين أهل الإسلام كلها أمور إسلامية إيمانية من أخص خصائص هذا الدين، ومن أعظم أركان هذا الإيمان، لا يمكن أن نتصور إيماناً أو إسلاماً بدونها، أو بدون تحققها الكامل.
ولذلك يعلم العبد المؤمن أن هذه الحقيقة ينبغي أن لا تغيب عن باله مطلقاً، ونصوص الكتاب والسنة في أمر المحبة لله - عز وجل -، والمحبة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - كثيرة في هذا الباب، ليس هذا مقام الاستطراد في ذكرها وسردها، وإذا عرفنا أن العاطفة في أصلها فطرة بشرية، وفريضة إسلامية، فلنذكر الآثار الإيجابية للعواطف ليس على سبيل التفصيل في واقعات الأعيان وإنما في الجملة.
الآثار الإيجابية للعواطف:
1- قوة التأثير: إن الكلمة وحدها مهما كان لها من شواهد وأدلة، ومهما كان لها من وصف وتنسيق، لا تؤدي قوتها ما لم يكن وراءها قلب متحرق، ونفس متحمسة، تشعر الإنسان بنبض هذه المشاعر في كل حرف من هذه الحروف؛ فإذا كانت الكلمة حماسية؛ فإذا بها كأنها لهب يتفجر، وإذا كانت الكلمة وعظية كأنها غيث يصيب أرض جدباء فيحيها من جديد، ويورق منها ما اضمحل، أو ما كان قد غابت عنه مياه الحياة وصورها؛ فإذا تأملت من بعض المواقف والعبر من سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - تجد هذه الصورة بيّنة واضحة، قد وصف - عليه الصلاة والسلام - أنه إذا خطب كأنه منذر جيش. يحمّر وجهه - عليه الصلاة والسلام - ويظهر أثر انفعاله بهذه الكلمات، وكما في حديث العرباض ابن سارية - رضي الله عنه - قال: (وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا...)
إذاً لم يكن تأثير تلك الكلمات بمجرد العلم؛ فإن كثيراً من العلم إذا فقد العاطفة، لا يؤدي أي تأثير، وإلا لكان اتصال الإنسان بالكتب كافياً في أن يقوّم سلوكه، وفي أن يوقظ حماسه وهمته نحو الخير والصلاح، وكذلك انظر إلى الموقف الذي كان في يوم حنين لما قسّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم بين مسلمة الفتح والمؤلفة قلوبهم، ولم يقسم للأنصار - رضوان الله عليهم - فوجدوا في نفوسهم موجدة؛ لذلك جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وقال: يا معشر الأنصار: ما مقالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟... ) و في آخر الحديث قال الراوي حتى اخضلت لحاهم بالدموع)، إذاً للكلمة سر، ينبثق من العاطفة التي وراءها في القلب الذي يخفق بمعانيها قبل أن ينطق اللسان بكلماتها وحروفها.
2- البذل والتضحية: إن من أعظم آثار العاطفة البذل والتضحية لمن خفق لك قلبه بالحب؛ فإن أحببت الله - عز وجل - وأحببت رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأحببت هذا الدين؛ فإنك تبذل وتضحي في سبيل هذا الذي أحببته؛ ونحن نعلم أن العاطفة مشتركة، فإذا وجهتها وجهة صحيحة، نلت الأجر والخير، وتدفقت عاطفتك في مجالها الصحيح، وإلا فإن هذه العواطف أيضاً لها مسارب شيطانية، أو شهوانية، تسلك بها في غير ما أراد الله - عز وجل - لها، فاستمع على سبيل المثال إلى خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وهو يقول: " ما ليلة تهدى إليّ فيها عروس أحب إلي من ليلة شديد بردها، أصبّح فيها العدو فأقاتلهم في سبيل الله - عز وجل - ". إذاً هذه المحبة دفعته إلى أن يجد لذته في ذلك البذل، وتلك التضحية، وتحقيق قول الله - عز وجل - {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}، إذاً هذا البذل هو الذي ظهر في حياة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذاك أنس بن النضر - رضي الله عنه - يقول: " واهاً لريح الجنة إني لأجد ريحها دون أحد ". والصور في ذلك كثيرة، والصور غير الإيمانية أيضاً كثيرة، نقرأها في حياتنا وفي حياة البشرية عموماً، ألم نسمع عن المحبين الذين بدلوا إيمانهم، وتركوا وظائفهم، واستهانوا بجاههم كله من أجل من يحبون.
3- الرضا والقبول:
من كل ما يأتي من المحبوب؛ فإنك إن أحببت الله - سبحانه وتعالى - رضيت بقضائه وقدره، وإن أحببت الله - عز وجل -رضيت بأن تطيع أمره، وتجتنب نهيه، وإن أحببت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلت منه كل هدي وإرشاد، وإن أحببت إخوانك المسلمين أفسحت لهم في قلبك، وأعطيتهم من خلاصة مهجتك ومشاعرك ولطفك ولينك وسماحتك ورفقك، إذا تحقق ذلك قبلت منهم، ورضيت منهم ما قد يقع من تقصير، وأغضيت الطرف عن بعض هفواتهم، وتجاوزت عن بعض ما صدر من كلماتهم وغير ذلك من الأمور. واستمع إلى قصة يوسف - عليه السلام -عندما قال: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه}، لِما كان السجن محبوباً.. وهو الذي يقيد الحرية، ولا تقبل به النفس البشرية؟ لأن فيه العصمة عن ما حرم الله - عز وجل -، ولأن فيه المهرب من المعاصي إلى الطاعات، ومن الخلطة الفاسدة إلى الخلوة الصالحة مع الله - سبحانه وتعالى -، لمّا كان الأمر كذلك قال: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه}.
4- الصبر والثبات:
فكم تجد من تغلل الحب في قلبه، عنده من الصبر والثبات على أمره على ما أحب من دينه وإيمانه، ما لا يمكن أن يتنازل عنه، أو أن ينكص على عقبيه، أو أن يرتدّ على أدباره بعد أن ذاق محبة الإيمان 0 وعرف حلاوة الإسلام، وارتبط بإخوة الإيمان، ولذلك كان بلال وكان خباب، وكان أولئك القوم يلقون ما يلقون، لا يصدهم ذلك عن دين الله، ولو لم يكن لهم ذلك التعلق القلبي لما ثبتوا، ولما كانت لهم هذه الصور من الصبر الجميل، ثبتهم الله - عز وجل - به، لأن القناعة الفكرية لا تكفي، قد تكون مقتنع بأمر ما فكرياً، لكنك إذا ضُيقت أو اضطهدت في سبيله من الممكن أن تغير فكرتك، أو أن تتنازل عنها، أو أن تساوم فيها، لكن إذا خلصت الفكرة من العقل إلى القلب، وامتزجت بالمشاعر؛ فإنه من الصعب أن يكون هناك تنازل عنها، بل صبر وثبات عليها.
5- الارتباط والتعلق:
وهذا من أظهر أثار العواطف؛ فإنك إن أحببت الله ارتبطت به، وتعلقت به وكذا في شأن النبي - عليه الصلاة والسلام -، وإخوانك المؤمنين، وشعائر هذا الدين، والارتباط والتعلق أمره بيّن لا يخفى على أحد كما قال المحبون من قبل:
أمر على الديار ديار ليلى **** أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي **** ولكن حب من سكن الديارا
ولذلك وقفوا على الأطلال، ووصفوا الخيام والجمال، كل ذلك من أثر ذلك التعلق والارتباط، وكما قال قائلهم أيضاً: ولو قيل لمجنون ليلى: تريد ليلى أم الدنيا وما في طواياها؟ لقال غبار من تراب نعالها أحب لنفسي، وأشفى لبلواها.
أي كل شيء يذكّر بذلك المحبوب ويصل به، يكون أنس النفس، وقرة العين، وتأمل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حبب إليّ من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)؛ فإن الأول هو الفطرة البشرية التي جاء بها هذا الدين، فليس هناك ترهل ولا تبتل ولا انقطاع عن ملذات الحياة العادية البشرية، والثاني هو أن هناك محبة أسمى، وهي التي يتحقق فيها الارتباط بالله - سبحانه وتعالى - فلذلك كان يقول - عليه الصلاة والسلام - أرحنا بها يا بلال)، العاطفة المتدفقة تريد كل شي يذكرها بالمحبوب، وكل أمر يربطها به، وكل سبب يعلقها به، ويجعلها لا تنساه مطلقاً، ولذلك كان للذكر أثره في طمأنينة القلب، وحلاوته في النفس، لذلك من أحب شيء أكثر ترداده وذكره، ولم ينسه مطلقاً، حتى إذا رأى الرؤيا في منامه، فإذا به يراها متعلقة بهذا الأمر إذا أصابه مرض، وصار يهذي بما لا يعرف، إذا بهذيانه لا يذكر المحب، أو الحبيب الذي لا ينساه مطلقاً، ولذلك تجد هذه الآثار واضحة قوية، ولها كما قلت أمثلة في جانب الخير، وفي جانب الشهوة العادية أو المتجاوزة للحد، وإن كثير من العلماء من أمثال ابن القيم وغيره جعلوا بعض أبيات المحبة التي ذكرها العشاق في المعاني الإيمانية في الصلة بين العبد وربه، واستشهدوا بهذه الأبيات في معاني المحبة الإيمانية، بفروعها المختلفة، ولذلك كل هذه الآثار لها شواهدها في حياة الصحابة - رضوان الله عليهم - وفي حياة صدر الأمة عندما كان عندهم بذل وتضحية في سبيل هذا الدين:
كـنا نقدم للسيوف صدورنا **** لم نخش يوماً غاشماً جباراً
وكأن ظل السيف ظل حديقة **** خضراء تنبت حولها أزهاراً
لم نخش طاغوتا يحاربنا ولو **** نصب المنايا حولنا أسوارا
ندعو جهاراً لا إله سوى الذي **** صنع الوجود وقدر الأقدارا
ورؤوسنا يا ربِ فوق أكفنا **** نرجو ثوابك مغنما وجوارا
كان هذا الحب الإيماني نصرةً وتضحية وبذلاً لهذا الدين، وكان هناك التعلق أيضاً كما جاء في الحديث عن ثوبان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه مرة، وقد تغير فقال له: ما بك يا ثوبان؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض، ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدةً، حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف ألا أراك لأنك ترفع مع النبيين وإني إن دخلت الجنة فأنا في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لن أراك أبداً، فنزل قوله - جلا وعلا {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفقاً}، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - المرء مع من أحب)، هذا كله دليل وشاهد على صدق تلك المحبة الإيمانية، كما وقع من خبيب بن عدي ويذكر في بعض الروايات أنه عن زيد بن الدثنة - رضي الله عنهما - لما جئ به ليضرب عنقه ويصلب قيل له: أتحب أن يكون محمد مكانك؟ قال: والله ما أحب أن محمد الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وأنا جالس في أهلي. فقال أبو سفيان - وكان قبل ذلك على الكفر - ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.
هذه هي العاطفة الصادقة إذا سارت في المسارب الإيمانية، والمناهج الإسلامية، وعندما نعرف هذه الآثار ينبغي أن ندرك أن العاطفة ينبغي أن يكون لها توجه أو تأثر بأمرين اثنين: العقل ومن قبله الشرع، فلابد أن نعرف أمر العاطفة أو العواطف بين الشرع والعقل إذاً:
أولاً: العاطفة لابد أن تكون مضبوطة بضابط الشرع فلا حب لمجرد الشكل والمظهر واللون، أو لمجرد الإلفة والميل، بل بموجب الأخوة الإيمانية وما سلف أن ذكرناه.
والعقل كذلك قد يحتاج أن يحكم العاطفة إذ العقل هو الذي يتلق الشرع، ويقبل به ويسلم له ويعمل النظر في مراميه ومصالحه ومقاصده، ويكون أرجى على تقدير المصلحة من العاطفة، ولذلك لابد أن تحكم نزوات العواطف بنظرات العقول، والعقل وحده لا يكون كافياً أيضاً في تيسير الأمور، وإذا أردنا أن نمثل فإننا نقول للعقل القيادة، وللعاطفة الحيوية؛ فإنك لو تصورت قافلة فلابد أن يكون العقل هو قائدها، ولكن لابد لها من حاد يحدو بها في الطريق، ليزيل عنها أثر عناء السفر وليهيج عاطفتها على المسير
إذا نحن أدلجنا وكنت أمامنا *** كفى بالمطايا لذكراك حاديا
ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نعلم يجعل أنجشة يحدو بالإبل، فإذا بها تتأثر بذلك الصوت الشجي، وتسرع وتتحرك فيقول النبي - عليه الصلاة والسلام - عندما خاف من تأثير ذلك الصوت رفقاً بالقوارير يا أنجشة).
هذا كله يعطينا أن الأمر متوازن فالعقل المتجرد عن العاطفة نتيجته قسوة وغلظة وعاطفة منفلتة عن ضابط العقل خفة وطيش كأنما هو طفل صغير تعطيه الأعطية فيضحك، تمنعه عنها فيغضب، وقد تكون الأعطية فيها حتفه، وقد يكون منعها فيه مصلحته ونفعه، ولكنه لا يميز بعقله ولذلك يغلب على الطفل أنه مندفع مع عاطفته ببراءة كاملة، وتغلب المرأة عاطفتها أيضاً في مواطن كثيرة فلا يكون عقلها أحكم لتلك العاطفة ولا أضبط لها ولذلك في مسألة هذه العاطفة والعقل يقول ابن القيم - رحمة الله عليه -: " إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له "، إذاً فهذا الجسم دولة، وهناك حكومة للدولة، وهناك انقلاب يقع بين العاطفة والعقل، فيقول: " إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له "، أي عاد مستقل عن تأثير الهوى والعاطفة أما إذا خضع العقل لسلطان الهوى والعاطفة؛ فإنه يعود أسيراً لها، وتكون هي موجهة ومحكمة في مساره، ولذلك تجد من يسمونه العاطفي، يقولون عنه: إنسان عاطفي أي أنه ليس عنده إلا هذا القلب يخفق محبةً وميلاً وليناً وإلى آخره، ليس عنده تلك القوة العقلية التي يبرز أثرها حتى تضبط مثل هذه الأمور.
علاقة العاطفة بالممارسات الدعوية
وأنتقل أيضاً إلى نقطة مهمة متعلقة بخصائص العواطف، وهي قضية نمهد فيها لما يأتي من أمر الصلة المباشرة في صورة عملية بين العاطفة والممارسات الدعوية.
أول هذه الخصائص أن العاطفة موجهة، بمعنى أنك لا تستطيع أن تقول إني أحب فلان أو أحب شيئاً ولكنني لن أتأثر، أو لن تؤثر فيّ هذه العاطفة. طبيعة العاطفة أنها توجه، أنها تدفع، أنها تمنع، فليست هي قاصرة لمجرد الصورة الانطباعية، بل هي ذات تأثير موجه ومحرك.
الأمر الثاني وهو من أخطر هذه الخصائص، أن العاطفة متأثرة تتأثر بالظروف بالزمان، بالمكان، بالأحوال، بحال الشخص، بحال الآخرين من حوله، فقد ترى إنساناً متعلقاً بآخر متصلاً به، محباً له، ثم لا تلبث بعد حادثة أو ظرف ما ينقلب رأساً على عقب، وينقلب الاتصال إلى انقطاع، والمحبة إلى بغضاء، وترى صورةً تتعجب وتقول متحققاً، وتستذكر محققاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ولذلك من الصعب ضبط هذه العواطف، وتربيتها ليست قضيةً سهلة، لأنها متقلبة متأثرة.
والأمر الثالث الناتج عن هذا التأثر التقلب أنك لا تستطيع أن تثق بعاطفةً بمجرد كونها عاطفة، ما لم تضبط بالشرع والعقل لا يمكن أن تثق بعاطفة، لأن العواطف بحكم هذه المؤثرات تتقلب، فلا يكون للعاطفة استقرار ودوام، إلا إذا بنيت على أساس عقلي، واستندت إلى أحكام ونصوص وأدلة شرعية، العاطفة التي لا تستند إلى شرع، ولا تكون منضبطة بضابط عقل مستند إلى شرع، لا يمكن أن تكون ثابتة، بل طبيعتها التقلّب الذي لا يمكن معه أن تطمئن، أو أن تتصل، أو أن يكون عندك تلك العلاقات التي يبنى عليها كثير من الأعمال.
وأخيراً العاطفة مجهولة، لا يعرف كنهها، ولا يعرف تقديرها، فلا يمكن أن تقول: إني أحب فلان بمقدار نصف كيلو، والآخر مقدار كيلو! لا يمكن أن تضبط المشاعر بموازيين محسوسة، فهي أمر كما قد يعبّر عنه هلامي، وهذه الجهالة هي سر أيضاً من خفائها وصعوبة التعامل معها، فما لم يكن لنا رجوع إلى الأحكام الشرعية؛ فإن أمر العاطفة يبقى ليس له ضابط، أو كما يقولون: ليس له خطام ولا زمام.
ومن هنا جاء أمر خطير، وهو استغلال العواطف من أثر معرفة تقلبها وتوجيهها، يغزونا أعداؤنا، أو يؤثرون على وجه الخصوص في شبابنا بهذه العواطف، يلهبونها فتتحمس، يغرونها فتتقدم، ولذلك تجد التأثير السلبي، والاستغلال الرخيص لهذه العواطف عبر الصورة المتحركة في التمثيلية، أو الفيلم، وعبر الكلمة المهيجة في المواقف العاطفية - كما يسمونها -، أو في الأغاني العاطفية وغير ذلك، وترى ذلك أيضاً في القصص الذي يسمونها أيضاً قصصاً عاطفية، كل ذلك تجد له استلاب للعواطف الشبابية عموماً، وعواطف الفتيات على وجه الخصوص، فتجد بعض أولئك لا يتحرك إلا من خلال ذلك التأثير لهذه العواطف.
ثم تنتقل أيضاً إلى صور أخرى أكثر مباشرة في التأثير على العواطف، من خلال ما يسمى بتحرير المرأة وتبرجها، ومن خلال الأمر الأخطر وهو الاختلاط، كل ذلك ما هو إلا استغلال لهذه العواطف، ولذلك تجد كثيراً من هذه البيئات والشباب والشابات الذين تسلطت عليهم هذه العواطف، وليس عندهم تربية إيمانية، ولا توجيه إسلامي، تجد أن هذه العاطفة ليست فقط تبعدهم عن الدين، بل تدمر حتى حياتهم، وتدمر مستقبلهم، تضيع على سبيل المثال مستقبلهم الدراسي، وتهدد مستقبلهم الوظيفي، وتقوض بنيانهم الاجتماعي، كل ذلك انجراف وراء تلك العواطف، عندما أُشعِل سعار الإغراء بها، وأصبح أولئك القوم أو كثير من المجتمعات تصبح وتمسي، وهي تخاطب بنداء الغريزة، وتهييج العواطف المتعلقة بالجنس والحب والغرام والهيام، وهذا أيضاً مكمن خطر ينبغي أن نعرف أن له صلة بالدعوة، معنى أن هذه العواطف لا بد أن نعرف كيف عالجها الإسلام وضبطها وأحكم توجيهها؟ لأننا لا يمكن أن نعاتب الناس، لا يمكن أن نقول أن هناك شباب ليس لهم إلا الحب والغرام، ونعتب عليهم ونشجب منهم ذلك دون أن نعرف حقائق الأمور وطبيعة النفس البشرية الحب والمحبة والعاطفة أمر فطري وثق تماماً أن أهل العلم والإيمان قد تكلموا في ذلك بما يبين أن أصل هذا الأمر قد لا يكون للمرء فيه اختيار وقضية ما يسمى من الحب لأول نظرة أو عبر الكلمة هو أمر أيضاً فطري قد يقع في كثير من الصور والأحوال وذكر ذلك ابن القيم في بعض كتبه وفي كتاب أفرده لمثل هذه الأحوال.
أقول هذه كلها لابد أن نعرف أن لها أثاراً لابد أن نعرف أن للصورة الحسنة أثرها، وللكلمة اللينة أثرها، وأن نعرف أن لكل عمل أسلوب في التعامل له تأثيره، فكيف يمكن أن تعتب دون أن تعالج! لو نظرت إلى شأن هذه العاطفة على وجه الخصوص لرأيت أن هذا الدين العظيم قد منع الوسائل المفضية إلى إثارة الشهوة والغريزة وإلى تحريك هذه العاطفة، دون أن يكون لها مسارها الصحيح فالنظر {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}، {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن}، والسمع {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} والخلوة (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، والشم (أيما امرأة خرجت متعطرة ليجد الرجال ريحها فهي زانية) وفي بعض الروايات تلعنها الملائكة حتى ترجع. كل ذلك معرفة بطبيعة النفس البشرية وأن هذا يؤثر فيها كما قال بشار:
يا قومي أذني لبعض الحي عاشقة **** والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وكثيرة هي الصور التي تؤثر في هذا الجانب، ونحن ربما نعتب دون أن نعرف حقيقة هذه العواطف، فكيف يمكن لنا أن نتعامل مع شباب في فورة شبابهم؟ نريد أن ندعوهم ونوجههم دون أن نعرف الفطرة البشرية والمؤثرات التي فيها، وأن نحكم التعامل معها؛ فإن مجرد الإنكار لها والغضب منها أو الهجوم عليها ليس كافياًً في علاجها، بل ربما كان مؤدياً إلى مزيد من استحكامها وقوة تأثيرها.
ولنعلم أيضاً في هذا الصدد أن العواطف هي حركة الحياة من ذلك:
أولاً أن العواطف باعث على الحركة والعمل، فالإنسان يحب الامتلاك، يحب أن يكون مؤثراً، وأن يكون له وجود في التغيير الفاعل في حركة الحياة من حوله، ولولا مثل هذه العاطفة لكان الناس ميتين خامدين لا يتحركون إلى عمل ولا إلى منقبة، بل يمكن أن تكون صورتهم كأنهم أموات في صورة أحياء، والعاطفة هي التي توجد هذا الأمر، ثم هناك أمر مهم آخر وهو أن العاطفة باعث عن العلاقة والصلة، وأنظر إذا لم تكن هناك عاطفة لما كان هناك توجه من الرجل للمرأة في تكوين أسرة، ولما وجدت تلك الشفقة والرحمة من الآباء والأمهات تجاه الأبناء، ولما وجدت عاطفة التقدير والاحترام من الأبناء تجاه الآباء والأمهات، ولما وجدت عواطف الصلات والمودة بين الناس التي تحكم الروابط بين المجتمع عموماً، بغض النظر عن الناحية الإسلامية التي تزيدها قوة ورسوخا وإحكاماً وتمكناً، وتعصمها من الخطأ والزلل الذي تقع فيه العواطف بمجردها أو بمفردها.
ثم أنتقل إلى لب الموضوع وهو الذي يتعلق بصور من العواطف وصلتها بالممارسات الدعوية وربما تنقلب العواطف إلى عواصف أو إلى قواصف في بعض الأحوال:
أولاً: عاطفة المحبة على وجه الخصوص للصلة بين الداعية والمدعو. نحن نعلم أن المحبة ابتداءً أمر إسلامي إيماني لابد أن يحب المرء أخاه ولا شك أنه إذا اتصل بآخر ليوجهه وينصحه ويدعوه إلى الخير؛ فإنه سيكون له به ارتباط واتصال أكثر، وهذا يعني أن تكون محبته له أعظم وأكبر، وهذا أيضاً أمر مسلّم به.
ثانياً: هذه المحبة عندما تفيض في السلوك والتعامل مع المدعو يكون لها أعظم الأثر في استمالة قلبه، وإقناع عقله، وتأثره بالداعية واقتدائه به في كثير من أحواله وسلوكياته.
ثالثاً: أن لهذه العاطفة وهذه المحبة ما يعين على أن تتقوم نفس المدعو تقويماً عاطفياً فتتهذب نفسه، ويكنّ الخير للآخرين، ويضمر المحبة، ويلتمس العذر، ويحسن الظن، فهذه كلها من الآثار الإيجابية للتعامل الأخوي الذي تسوده المحبة الإيمانية والأخوة في الله - عز وجل -، ولكن هناك ما قد نسميه تجاوزاً للحد، أو زيادة عن القدر المطلوب، وهذا لمسته في بعض الأسئلة التي يذكرها الشباب، فيأتي أحدهم ويقول إن لي صلة بفلان من الناس، أو بأخٍ لي، أو بجار لأدعوه إلى الخير، ولكنني أشعر أن هذه الصلة ليست هي الصلة المطلوبة في الأخوة في الله..
أشعر أن هناك أمراً آخر ليس مندرجاً في هذا الإطار، أو تحت هذا العنوان، وقد يجد لهذا صور أذكر بعضها لكنني أحب أن أشير ابتداءً إلى أن وجود المحبة العاطفية البحتة مع الأخوة الإيمانية ليس أمراً معيباً ولا معترضاً عليه؛ فإننا عندما نقول - على سبيل المثال - إن أصدق وأعظم وأكبر محبة للنبي - عليه الصلاة والسلام - اتباعه فيما أمر، وفيما نهى عنه وزجر، فلا يعني ذلك أن نتبعه ونحن متجردين من عاطفة الحب الصادقة، ولسنا نتبعه - عليه الصلاة والسلام - لمجرد الأمر والنهي، بل هذا أصدق أنواع الاتباع ويؤيده ويجعل له استمراريته وحيويته وقوته.
إن قلوبنا تخفق بالمحبة الخالصة العاطفية له - عليه الصلاة والسلام - لما له من عظيم الخلال، وكريم السجايا، والمنزلة العالية عند الله - عز وجل -، والنعمة والفضل الذي أسداه لهذه الأمة ولكل فرد منها.
وكذلك عندما تريد من خلال هذه الأخوة أن توجه وأن تنصح؛ فإنك لا يمكن أن تنفصم عن المحبة العادية الفطرية، بل هي قرينة لهذا، ولكن الصورة التي فيها بعض الخلل أو النقص أو التجاوز هي التي يذكرها بعض الشباب، لها صور معينة أذكر بعض منها.
أسباب التعلق الزائد:
أولاً: عدم ضبط المحبة الفطرية؛ فالمحبة الفطرية أمر طبعي لا اعتراض عليه، ولكن عدم التيقظ قد يجعلها تزيد إلى أن تكون محبة عاطفية بحتة، كمحبة المحبين والعشاق.
ثانياً: الخلطة الزائدة، فبعض الناس أو بعض الشباب بحكم الدعوة، لا يكاد يصبح صباحاً، ولا يمسي مساءً، إلا وهو مع هذا المدعو، بحجة أن يقوّم سلوكه، وأن يدعوه، وقد ذكرت أن من الخطأ أن نكون مثل اللصقة التي لا تنفصم عن الجلد، معه ليلاً ونهاراً.. صبحاً ومساءً؛ فإذا غبنا عنه اتصلنا به، لا أعيب الاتصال، لكن اتصلنا به كأننا لا يمكن أن ننفصل عنه أو ننفصم منه هذا سبب من أسباب وجود العلاقة التي قد يكون فيها مأخذ.
ثالثاً: عدم وضوح الهدف وقوة التربية عند الداعية؛ فإن هدفك من صلتك بكل إنسان هو هدف إسلامي، ترجو فيه الأجر لنفسك، والخير لغيرك؛ فإن غاب عنك هذا الهدف تكون كحال الصياد الذي ذهب ليصيد في البحر، وأخذ معه عدته، وهو يعلم أن هذا مصدر رزقه، لكنه عندما ذهب أعجبته زرقة البحر، وانكسار الأمواج، وانعكاس الشمس في غروبها، وضلال الأشجار فجعل ينظر إلى هذه المناظر الجميلة، ويأنس بها، وربما يكتب الأشعار، ويدبج المقالات، ونسي الهدف الذي ذهب لأجله، وهنا قد ينصرف الداعية لاسيما إذا كان في مقتبل العمر وأول الشباب إلى لطافة وظرف وحسن هيئة وتأنق عند المدعو، فإذا به يعجب بهذا، وينسى ذلك الهدف الذي كان أساس تلك الصلة، ويلحق بذلك عدم قوة التربية في الداعية بمعنى أنه ليس عنده التربية التي تجعله يضبط عواطفه، ويعرف كيف يقوم ويسوس الأمور.
رابعاً: النواحي المادية الصرفة وهذا أمر لابد أن نعرفه بوضوح وجلاء؛ فإن بعض التعلق قد يكون لما عند ذلك المدعو من مال أو جاه، أو كذلك لما عنده من هيئة حسنة، ولا نعجب من ذلك؛ فإن سلف الأمة قد تكلموا في مسائل قد نعجب منها، أو يراها البعض بعيدة عن التصور، وقد يظنها البعض منطوية على بعض التشدد، وإنما هو معرفتهم الصحيحة بطبيعة النفس البشربة. عندما كان العلماء يتحدثون على سبيل المثال عن الاختلاط أو النظر للأمرد، أو كيف يكون مجلسه و مكانه في مجلس العلم أو غير ذلك مما ورد عن بعض الآثار في شأن وتصرفات سلف الأمة وبعض العلماء، يدل على أن الناحية المادية في الشكل والمعنى والمضمون لها أثرها، فينبغي للمرء أن لا يغفل عن هذا، وقد يسأل الشاب ويقول كيف أميز علاقتي بالمدعو حتى أعرف إن كانت في المسار أو خرجت عن الإطار؟ فأقول هناك بعض الملامح لعلك إن سألت نفسك عنها وصارحت نفسك بها، وجدت الحل الذي يجعلك تنتبه إن كنت قد وقعت في بعض الخطأ:
أولاً: مدى لزوم استمرار الصلة. ما مدى ما في نفسك من لزوم استمرار الصلة؟ هل أنت ترى من أنه لا بد ألا يمر يوم إلا وتراه، وألا تمر ساعة إلا وتتصل به، وألا يكون لك غرض في أن تذهب إلى مكان إلا وتصطحبه وترافقه، إذا كان هذا متأصل وبقوة، فاعلم أن هذا مظهر من المظاهر التي قد تعطي مؤشراً للتنبيه من الخطأ.
ثانياً: عدم النصح في الأخطاء، وهذا معلم بارز عندما يخطئ هذا المدعو فالأصل أنك تنصحه. لا أقول لك أغلظ له في القول، لا أقول لك كن عنيفاً معه، لكن إذا لم تنصح لا تصريحاً ولا تلميحاً ولا بالحكمة ولا بالأسلوب الحسن، بل كان همك أو ديدنك غض الطرف، فاعلم أنك قد وافقته في هواه، وأنك قد تغلغل بعض الحب في قلبك، فلم تعد تريد أن تغضبه، أو أن تكسر خاطره، أو أن تجرح مشاعره، أو تخالفه في رأي أو قول، فإذا أردت أن تذهب للنزهة في مكان واختار هو مكاناً آخر قد يكون فيه ما فيه؛ فإنك لا تعارضه في ذلك.
ثالثاً: التبرير لكل خطأ أو لكل نقد قد تسمعه من غيرك. لا تكتفي بمجرد إقرارك بأخطائه، بل يقولون لك: إن فلان فيه اعتداد بنفسه أو غرور فتقول: لا إن الله جميل يحب الجمال، يقولون لك: إنه يفعل كذا وكذا، فتقول: إن طبيعة بيئته أو ظرفه كذا وكذا إذاً فأنت هنا أيضاً تبرر أموراً كثيرة لا بأس أن تلتمس لأخيك الأعذار لكن كثرة التبرير ودوامه مؤشرٌ من هذه المؤشرات.
رابعاً: التأثر بالغيرة من الآخرين؛ فإنك إن رأيته صحب فلان انقبضت نفسك وإن رأيته كان متأثراً أو معجباً أو مشيداً ومادحاً في فلان لعلمه أو لحسن بلاغته، أو لقوة تأثيره أو كذا رأيت أن ذلك يشعرك ببعض الضيق أو التبرم، فاعلم أن هذه المؤشرات والصور كلها دلالات على أن المسار قد خرج عن الإطار المطلوب فاضبط عاطفتك بضابط الشرع، ونضمها وقومها بالعقل الذي تخطط فيه هذه الدعوة مع هذا المدعو فتحكم الأمر وتقول سأفعل معه كذا وسأعطيه كذا وسأسأله عن كذا وسأعالج فيه أمر كذا من خلال كذا وكذا ولا تترك الأمر هكذا عبثاً ومجالس فيها حك وكلام ينتج عنها مثل هذه المواقف.
الجانب الثاني أو العاطفة الثانية وهي ذات خطب عظيم وكبير وهي عاطفة الحماسة وقد سلف لنا في حديث الجمعة الماضية أيضاً في حديث الهجرة وواقع الدعوة كلام يمس هذا الجانب في إطاره العام؛ فإن الحماس عاطفة طيبة، وهي عاطفة الغيرة الإيمانية التي امتدحها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (أتعجبون من غيرة سعد فوالله إني لأغير منه) وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - لا يغضب لشيء إلا أن تنتهك محارم الله - عز وجل - فلا يقوم لغضبه قائم.
هذه العاطفة؛ من النصرة للمسلمين والغيرة على هذا الدين، والحمية ضد أعداء الإسلام والمسلمين، عاطفة عظيمة جداً هي أساس من أساسيات وصور وقوة إيمان المسلم، ولكن هذه الحماسة قد تندفع فتطغى ويأتي من وراءها كثير من الأمور والمخاطر، وقد يقول قائل أيضاً في جانب آخر: لابد أن نضبط العاطفة الحماسية ولابد أن نقيدها، ولابد أن نروضها، ويبالغ في هذا حتى يئدها ويقتلها.
نحن لا نريد للجمرة أن تنطفئ، لكننا نريد أن يبقى فيها بقية الجمر حتى إذا تدحرجت في الوقت المناسب أشعلت تلك الأوراق والأخشاب أو الهشيم أو الحصير الذي تلامسه فتشعله فيؤدي ذلك الاشتعال إلى المطلوب، لكن تلك الحكمة التي يزعمها بعض الناس، ويريدون أن يطفئوا بها جذوة الحماسة، وأن يجعلوا أجيال الإسلام، وشباب الدعوة راكنين إلى الدنيا، مطمئنين إلى ملذاتها، يشربون بارد الشراب، ويأكلون طيب الطعام، ولا تتغير نفوسهم غيرةً ولا غضباً، ولا حميةً لدين الله، لا في كلمة حماسية، ولا في غيرةإيمانية، ولا في إنكار منكر، هذا ليس مطلوباً!
وفي الجانب الآخر ليس مطلوباً ذلك الاندفاع الذي يؤدي بالدعوة إلى المخاطر والمهاوي فيما يتعلق بمواجهة الأعداء، أو بظروف الضغط والاضطهاد والتعذيب والمطاردة والملاحقة للدعوة والدعاة؛ فإن للمسلم أمور كثيرة أولها: أنه منضبط بضابط الشرع فليس هو متصرف بردود الأفعال وليعلم ما قاله الصحابة في بيعة العقبة للنبي - عليه الصلاة والسلام -: لو شئت أن نميل على أهل الوادي لفعلنا. فقال: (كلا! فإنا لم نؤمر بذلك).
وليعلم كيف روض النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك العاطفة المتدفقة في عمر - رضي الله عنه - يوم الحديبية لما جاء وقال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! عاطفة صادقة لم ينكرها - صلى الله عليه وسلم - ولم يعبها على عمر، ولكنه قال: إني رسول الله وإنه لن يضيعني. فذهب إلى أبي بكر ليرى رجاحة العقل، واستقرار النفس، وقال له ما قاله للنبي - عليه الصلاة والسلام - فقال أبو بكر: الزم غرزه فإنه رسول الله، ذلك هو الفرق بين رجاحة العقل وسكون النفس عند أبي بكر، فلم تجمح به العاطفة ولو في إطارها المقبول، وتلك العاطفة المتدفقة من عمر - رضي الله عنه - لم تنطلق من إسارها، بل رجعت على أعقابها بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا قد وقع في نفوس الصحابة يوم الحديبية، ولست في صدد ذكر الأحداث، ولكن لما جاء أبو جندل يرسف في قيوده، والمسلمون على بعد خطوات منه، وهو يستنجد بهم ويصرخ، ويريد أن يلحق بهم ويخرج من هذا الاضطهاد، وهم الذين خاضوا المعارك، وضحوا بالشهداء، ويرون هذا المنظر أمام أعينهم، ولكنهم ينضبطون ويلتزمون حكم النبي - عليه الصلاة والسلام - ويقع في نفوسهم أيضاً أنهم عندما أمرهم - عليه الصلاة والسلام - أن يحلقوا رؤوسهم، ويتحللوا من عمرتهم، فلم يستجيبوا في أول الأمر، لما كان قد خالط القلوب والنفوس من هم وغم وكرب وضيق، فلما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشورة أم سلمة فحلق، ابتدروا يحلقون حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً، وحتى سالت دماء بعضهم - رضوان الله عليهم أجمعين -.
إذاً لابد من هذه العاطفة المتأججة في الشباب أن لا تستفز، وأن نعلم أن أعداء الدعوة يريدون لها أن تستفز، وأن تخرج عن إطارها، ليشوهوا صورة الدعاة، ويروا الناس أنهم متهورون، وأن تصرفاتهم هوجاء، وليست الحماسة المندفعة في التصرفات، بل في الكلمات، فأنت تسمع من الكلمات ما قد يكون أفتك وأخطر وأكثر هولاً من الأفعال، لأن الكلمات فيها أحكام، ولنا مع الكلمة جولة - إن شاء الله - كما سأذكر في آخر الحديث ما أسباب تلك الحماسة التي قد تندفع وتخرج عن الإطار:
الأسباب الدافعة للحماسة:
أولاً: الدافع النفسي؛ إذ في النفوس حمية وطبيعة لقطف الثمرة، وتحقيق الفكرة إذا اقتنعت بفكرة؛ فإنني أحب أن تتحقق الفكرة الآن قبل أي وقت آخر، وهذا طبع بشري.
ثانياً: الحرارة الإيمانية؛ الإيمان الذي يذكي حماسة القلب والنفس ويريد لها أن تندفع ولكن إذا تمعن فليعلم قول الله - عز وجل - {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} ليس المسلم الذي يستجيب للعاطفة دون هذا الضبط أيضاً هناك واقع أعداء الدعوة الذين يحكمون قبضتهم على كثير من مقدرات المسلمين، ليس في بلاد الكفر، بل في بلاد الإسلام والمسلمين، فأنت ترى القبضة محكمة في إطار الحكم والسياسة، وفي إطار التربية والتعليم، وفي إطار الدعاية والإعلام، فقلّ أن تجد في كثير من بلاد الإسلام نصرةً للدين والدعوة، بل على العكس تجد في كثير من ممارساتها حرباً على الدين والدعوة، وهذا يستفز المشاعر أيما استفزاز، كيف نكون في بلد إسلامي وإذا بصحف في تلك البلاد أو مشاهد في إعلامها تعلن الكفر الصريح، دون أن يسمح لمعترض أن يعترض، أو لمنكر أن ينكر، إن ذلك قد يكون أحياناً أكبر مما تحتمله بعض النفوس التي لم تروض ولم ترب التربية الكافية.
وأيضاً من الأسباب؛ الجهل بأساليب الكيف الذي يخطط لها الأعداء ويمارسونها لهم أساليب ملتوية وخبيثة يريدون من خلالها الدعاة والشباب منهم على وجه الخصوص فيما لا تحمد عقباه.
ثالثاً: كثرة المنكرات التي تواجه الشباب في كثير من الوقائع العملية سماعاً ونظراً وقراءةً وفي كل الصور.
رابعاً: ضعف النفوس عن طول الطريق؛ فإن الطاقات تختلف، فلو تصورت الدعوة عبارة عن حمل ثقيل، فهناك أصحاب أجسام قوية، وعضلات فتية، يمكن أن يحمل ويسير ما شاء الله له أن يسير ولا يتعب، ومنهم من يمشي بعض خطوات أو قليل من الطريق ثم يقول: لابد أن أتخفف، وأن أنطلق لأبلغ المراد من غير هذا الطريق.
خامساً: أمر في غاية الأهمية وهو: عدم وجود القدر الكافي من التخطيط الدعوي الذي يستوعب طاقات الشباب، فلا يولد حماسة، ولا يجعلهم يبردون ويسكنون، وتموت نفوسهم وهممهم، كما أنه يجعلهم ينفسّون هذه الطاقة في ميادين عملية، تحقق إيجابيات للدعوة ولهذا الدين، ويدركون خلالها أن جولتهم مع الباطل يمكن أن تكون طويلة المدى، وأن تحقق بعض النجاح في جانب، ثم في آخر، ثم في ثالث، وإذا بالجولة بعد ذلك تتكامل انتصاراتها، وتؤدي ثمرة من الثمار المرجوة.
سادساً: عدم الخبرة الكافية والتجربة والنظر في التجارب الواقعية في الحياة الإسلامية هناك في سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - دروس كثيرة، وعبر لكن في الواقع الدعوي المعاصر دروس كثيرة لمجرد الحماس غير المتزن بضابط الشرع، ولا بنظر المصلحة على الدعوة والدعاة، ومن ذلك أيضاً الغفلة عن سنن الله - عز وجل - في طبيعة التدرج، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل، وكما يقولون: ينتصر الباطل في جولة وجولة، ولكن الجولة الأخيرة فينبغي أن يكون يقيننا أنها للحق وأن العاقبة للمتقين وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق لابد أن ندرك أن الأمر في ختامه لهذا الدين وأن النصر له والبشارات في ذلك معروفة مأثورة مذكورة، فينبغي أن لا نخرج عن إطارها.
سابعاً: - وهو الذي أختم به -؛ وهو سبب عدم الفقه في الدين، علماً بالشرع وتنزيلاً له على الواقع؛ فإن بعض الشباب يأخذ النص وينزله إنزالاً بعيداً عن ما فهمه أهل العلم بل ما فهمه الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن جاء بعدهم من العلماء الذين عرفوا أن للأحكام تغيراً بتغير الظروف والأحوال والأشخاص، وأن هناك مراتب للأحكام وهناك واجبات، وهناك سنن ومندوبات، وهناك محرمات ودونها مكروهات، فلا ينبغي التسوية هكذا بين الأمور على عجلة دون روية، وهذه أيضاً مشكلة من المشكلات.
والثالثة التي نختم بها حديثنا: مسألة الغيرة بعد المحبة، وهذه للأسف أيضاً مشكلاتها كثيرة، وأعني بالغيرة غيرة التنافس في ميادين الدعوة؛ فإذا ببعض الدعاة يغار أو يغضب من إخوة له يحبون الخير، ويسعون له، ويسيرون في طريقه، ويضربون الناس فيه، لكن باجتهاد يخالف اجتهادهم، فإذا رأى الناس أقبلوا عليهم دونه، أو اقتنعوا بفكرتهم وأسلوبهم دونه، إذا به تستعر في نفسه غيرة هي عاطفة في الأصل قد تكون محمودة إذا أخذناها على غرار قول الله - عز وجل -: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، وإذا أخذناها على أنها تكامل لا تصادم، وتعاون لا تراشق، وقد أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك بقوله: (إن الشيطان يئيس أن يعبد في أرضكم هذه ولكن في التحريش بينكم)، فإذا بهذه الغيرة تتحول إلى نوع من البغضاء أو الشحناء، وتؤدي إلى صور كثيرة نراها في صور من الواقع الدعوي، لا تخطئها العين.
من هذه الصور: التنافر والبعد؛ فنحن نعلم أن المسلم أخو المسلم، وينبغي أن تربط بين المسلمين أخوة الإيمان، فإذا كان أولئك المسلمون دعاة فأمر أخوتهم ومحبتهم ينبغي أن يكون آكد وأقوى، فما بالنا نرى عوام الناس من كبار السن من آبائنا وإخواننا الكبار أو أجدادنا وأمهاتنا والعجائز في قلوبهم من الصفاء والنقاء والألفة والمحبة ما نفتقده بين شباب نذروا أنفسهم للدعوة، أو نصبوا أنفسهم للدعوة، أو رفعوا راية الدعوة، أمر لا يمكن أن يكون مقبولاً في ميزان الشرع ولا في منطق العقل.
والصورة الثانية: مرحلة أخرى وهي التحذير والتشويه؛ فلا يكتفي من أن ينفر منهم، بل يحذر الآخرين منهم، ويشوه صورتهم، وهذا لا شك أنه فساد في الطوية، واختلال في النية، وسأذكر بعض الأسباب أيضاً التي تبين هذا، لكن هو يشكل صورة لنفسية مريضة لم تتغذى بغذاء الإيمان، ولم تتطهر بطهارة الإسلام.
والثالثة - وهي أخطر منهما -: تجاوز الحدود الشرعية في أمر ذلك التحذير أو النفرة أو التعامل عموماً، فإذا به يستخدم التورية كما يزعم ليصرف الناس عن من يقولون: إنه على باطل ثم إذا بالتورية تغدو كذباً صريحاً، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى إحكام الكيد، وتدبير المؤامرات، وتلمس العيب، وتتبع الأخطاء، وتجاوزات شرعية، ليس لها آخر - كما يقولون - وأذكر في هذا الصدد الأسباب التي تؤدي إلى هذه الظاهرة:
الأسباب المؤدية إلى جنوح عاطفة الغيرة:
أول هذه الأسباب التي تجنح بهذه العاطفة - أي عاطفة الغيرة -: ـ عدم قوة ورسوخ التربية الإيمانية إذ المؤمن الذي يتربى على خلال الإسلام، وآداب هذا الدين، يعلم أن آصرة الأخوة، وأن أمر المحبة في الله - عز وجل - يقضي بألا يكون هناك هذا التنافر، وتلك البغضاء، وقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا ) وبدأ في هذا الحديث بقوله (إن الظن أكذب الحديث) أي بمجرد الظن السيئ الذي تسيء إلى أخيك به؛ فإن هذا الظن يورث في النفس نوعاً من النفرة ويزرع بذرة من بذور البغض ليس هذا محلها ولا مكانها.
الأمر الثاني: ـ عدم استحضار طبيعة الواقع الدعوي انظر إلى المجتمعات الإسلامية كم ترى فيها من الملتزمين شرع الله، كم ترى فيها من الدعاة، كم ترى فيها من العلماء، ترى قلة وأنت تريد أن تجعل هذه القلة بصنيعك أقل من القليل، فتفرق صفها، وتشيع الفرقة بينها وتشوه صورتها لينفر الناس عنها ومنها، وإذا بك في حقيقة الأمر تسيء إلى الدعوة، ولا تستحضر أمر المواجهة والكيد الذي يحاك، ويوجه للدعوة والدعاة، على اختلاف اجتهاداتهم وتصوراتهم، إن واقع العصر اليوم يدلنا على أن المسلم يعادى ويكاد له ويضطهد لمجرد كونه مسلماً ولو كان مسلماً بالاسم فكيف إذا كان مسلماً يعرف إسلامه، ويلتزم شرع الله - عز وجل - ويدعو إليه ويريد أن يحي موات هذه الأمة، وأن يرفع راية الجهاد فيها؛ فإذا كان هؤلاء الدعاة على هذا القدم، فإنهم ألد الأعداء، وأعظم الخصوم، بالنسبة لمن يحاربون هذا الدين، فإذا كنت أنت بهذه الغيرة المنحرفة تساهم في ضربهم أو تشويههم؛ فإنك كأنما أخذت معول الأعداء لتريحهم من بعض العناء، كما ورد عن بعض السلف أنه سمع أحدهم يجرح أخاً له فقال: هل قاتلت الترك؟ قال: لا، قال: هل قاتلت الروم؟ قال: لا، قال: هل قاتلت الهند؟ قال: لا، قال: أفيسلم منك أهل الروم والترك والهند ولا يسلم منك أخوك المسلم؟ عجباً لأولئك القوم، لم يسلم المسلمون من ألسنتهم، ولم يسلموا أيضاً من التخطيط الذي يبدعون فيه ويبذلون فيه جهدهم لحرب إخوانهم وهم ليس لهم في مواجهة الأعداء أي جهد يذكر، وبالتالي فهم في هذا يساهمون في هذه الخطورة العظمى.
ثالثاً: ـ الأمراض النفسية من الكبر أو حب الذات والأنا أو الغرور؛ فإن بعضاً من أولئك فيه علل مستعصية، وأمراض سرطانية تحتاج إلى استئصال، وما لم تستأصل؛ فإن نفسه تدفعه وتقوده وتدعوه إلى مثل ذلك السلوك، ومن ذلك أيضاً - وهو سبب مشترك كما سبق أن أشرت - عدم الفقه أو العلم، يقول: الحق أحق أن يتبع، ويقول: لا بد أن أهجره في الله، ويقول: لا بد أن يكون هناك مفاصلة، عجباً كيف توقع الأمور في غير موقعها، وتنزل النصوص في غير ما هي مخاطبة به أو منطبقة عليه؛ فإنك تجد أن مجرد اختلافه مع أخيه في رأي واحد، أو في مسألة واحدة، تجعله يبدعه أو يفسقه، ويرى أن من الواجب الشرعي أن يهجره، بل من الواجب الشرعي أن يحاربه، هذا فقه سقيم، وجهل مركب - كما يقال - فهذه بعض تلك الأسباب لانحراف الغيرة عن واقعها الصحيح، وبالجملة؛ فإن هذا الانحراف العاطفي واقع في صفوف الدعوة وشبابها، وإحكامه يكون بالتربية الإسلامية والعلم الشرعي، والإدراك الواقعي، والقيادة الراشدة، وليعلم العلماء والدعاة والخطباء أن مسئوليتهم مضاعفة، فينبغي ألا يكونوا سبباً في توسيع شقة الخلاف أو إذكاء نار التباغض أو التحاسد أو غير ذلك، وينبغي أن يعلم كل مسموع الكلمة أن كلمته يطيرها عنه المطيرون، وينقلها عنه الناقلون، ويفهمها عنه الفاهمون وغير الفاهمين وهو في آخر الأمر يدرك مثل هذا، لكنه للأسف لا يلقي له بالا، فإذا كان هناك شباب صغار؛ فإن لهم كبار، ولو توقعنا أنهم أخطأوا، فلنا أن نغض الطرف عنهم، أو أن نعتذر لهم بجهلهم، لكنهم إن رجعوا إلى من يستشيرونه أو يقتدون به، فوافقهم على خطأهم، أو شجعهم عليه، عرفنا أن تركيبة عقولهم، وأن صيغة تربيتهم مبنية على أساس خاطئ، ويكون الأمر حينئذً أكبر وأخطر، فالصغير أو الجاهل يغتفر منه ما لا يغتفر من غيره، فهذه بعض المعالم والملامح المتعلقة بأمر العاطفة والدعوة، وأسأل الله - عز وجل - أن يعصمنا من الزلل، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.