يقول الحق سبحانه ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا )
ما أحوجنا اليوم إلى التعرف على سير رجال الدعوة الإسلامية الذين قدموا من أنفسهم فداء للدعوة. و قد قدمت جماعة الإخوان المسلمين على مدى الأعوام رجالا أفنوا أعمارهم في خدمة الدعوة الإسلامية و لم تزدهم المحن إلا عزيمة و إصرارا و من هؤلاء الداعية و المربي الفاضل الأستاذ مصطفى مشهور.
وإذا أردنا أن نقترب من الأستاذ مصطفى مشهور لنتعرف على مشهور الزوج و الأب و المربي و الداعية و المرشد فإن كتاب ( حياة مصطفى مشهور كما عاشتها أسرته ) و الذي كتبه أ.د محمد عبد الجواد و م. مشهور مصطفى مشهور ، يقدم لنا السيرة الحية لهذا الرجل و يلقي الضوء على الجوانب الخفية من شخصيته و التي عايشتها أسرته.
الميلاد و النشأة:
ولد مشهور في الخامس عشر من سبتمبر عام 1921 في قرية السعديين بمحافظة الشرقية و كان والده مهتما بحفظ القرآن الكريم حتى انه كان يتسابق مع أبناءه في الحفظ و كان مشهور منذ صباه يعشق المسجد و ملازما له حتى أن خادم المسجد كان يحمله نائما إلى البيت .
أتم مشهور دراسته الابتدائية ثم التحق بمدرسة الزقازيق الثانوية ثم مدرسة فؤاد الأول بالقاهرة و خلال هذه الفترة تعرف على الإخوان المسلمين عام 1936 فانضم للجماعة و لم يتجاوز عمره خمسة عشر عاما .
التحق بكلية العلوم و تخصص في علوم الفلك و تخرج منها عام 1943 ثم التحق بالعمل بمصلحة الأرصاد الجوية .
حياته الزوجية:
تزوج مشهور من ابنة عمه زبيدة مشهور و التي فاجئها حين تزوجها بقوله انه متزوج فقالت كيف ذلك ؟ و كان رده عليها أن زوجته الأولى هي دعوته و أنت الزوجة الثانية فقالت له و أنا خادمتها.
و عاش الزوجان حياة تسودها المودة و الرحمة و الشورى و التعاون و التآلف و التراحم و مراعاة الشعور و رزقهما الله من الأولاد مشهور و سلوى ووفاء و سمية.
المحنة الأولى:
تعرض مشهور للاعتقال في عام 1948 في حادثة السيارة الجيب و النظام الخاص و حكم عليه ثلاث سنوات و بعد الإفراج عنه عام 1952 استلم عمله بمصلحة الأرصاد الجوية ثم أبعد إلى مرسى مطروح و انتقلت معه أسرته حيث عاشوا في بيت خال إلا من بعض الحصير و البطاطين و برميل مياه و موقد جاز و كان مشهور يخرج للبحر لاصطياد السمك و عاشت الأسرة معزولة عن الأهل و كانت الأم صابرة و محتسبة.
المحنة الثانية :
اعتقل مشهور مرة أخرى في نوفمبر 1954 فعادت الأسرة مرة أخرى إلى محافظة الشرقية . أما مصطفى مشهور فقد تأقلم هو و إخوانه مع جو السجن حتى نقل عنه قوله : ( اعمل لسجنك كأنك تعيش فيه أبدا و اعمل لإفراجك كأنك تخرج غدا ) و قام مع إخوانه بزرع الأشجار حول الخيام مع ممارسة الرياضة و إقامة المباريات .و قد خرج من هذه المحنة في نوفمبر 1964 .
موقف الزوجة أثناء المحنة الثانية :
في أثناء هذه السنوات العشر عاش الأولاد تحت رعاية الوالدة والتي كانت حريصة على ربطهم بالوالد ولا تدع فرصة إلا وذكرتهم به وبمبادئه وكان الوالد يرسل لهم الرسائل فترفق الوالدة بها بعض الهدايا بها باعتبارها من الوالد لكي يظلوا على صلة روحية به وقد قامت على تنشئتهم ورعايتهم في بيت العائلة وكانت تهتم بمظهرهم في الثياب والنظافة مع المتابعة العلمية .ولتوفير تعليم أفضل لهم انتقلت الوالدة إلى مركز منيا القمح وكان الوالد يكتب لهم دائما رسائل مهربة من السجن يوصيهم فيها بالاهتمام بالدراسة والمواظبة على الصلاة وقراءة القرآن .
ما بين المحنة الثانية والثالثة :
مكث مصطفى مشهور قرابة تسعة اشهر محاولا تعويض أسرته عن بعض ما فاتهم من الحنان والرعاية فانتقل معهم إلى القاهرة واستلم عمله في مصلحة الأرصاد الجوية بكوبري القبة وكانت إقامته في هذه الفترة محددة وكان ممنوعا من الخروج حتى إلى الصلاة ومصرحا له بالخروج للعمل فقط فكانت هذه فرصة طيبة للأبناء حيث عرفوا الإسلام الصحيح من خلال شخصية والدهم فكان لهم معه يوم إسلامي ببرنامج محدد وشامل يبدأ بصلاة العصر جماعة ثم الجلوس للقراءة في كتاب السيرة النبوية ثم قراءة الأذكار وورد الرابطة ثم صلاة المغرب .
المحنة الثالثة ( أب من وراء الأسوار):
في عام 1965 صدر قرار الاعتقال مرة أخرى وكان الوالد ينتهز أي فرصة ليوجه أبنائه فيها من خلال رسائل تصلهم منه ومن هذه الرسائل لابنه مشهور وابنته سلوى رسالة يهنئهما بالنجاح ( وليكن في علمكما أن فرحي وسروري رغم كونه عظيما فانه صغير بجانب فرحي عندما يصلني نبأ آخر: صورة عن فهمكما للإسلام ولعقيدتكما وتصرفاتكما المتصفة بروح الإسلام ......) وحينما كانوا يزورونه في المعتقل كان يوصيهم بالمشاركة في الإذاعة المدرسية وكان يعد لهم بعض الكلمات والفقرات كما كان يجهز لهم ملخصات في المواد المختلفة وخاصة اللغة العربية والتربية الإسلامية و حينما سافر ابنه الأكبر للدراسة في ألمانيا لم تنقطع عنه رسائل الوالد التي تذكره دائما بتمسكه بدينه و من هذه الرسائل ( لأول مرة ستجد نفسك في بلاد مغايرة للبلاد التي نشأت فيها ...... و ستجد أماكن و مظاهر تدعو إلى الفساد و هنا تكون قوة شخصيتك في المحافظة على إيمانك و لا تترك نفسك تتميع و تذوب في هذا المجتمع الجديد ) كما كان يذكره بشرف انتسابه للإسلام ( أحب أن ألفت نظرك ألا تبهرك تلك المدنية أو التقدم بحيث تستصغر شأن عقيدة أمتك فهي مدنية أصلها مستمد من حضارة المسلمين ) وكان يؤكد على ضرورة حرصه على شعائر الإسلام ( و لا تنتظر من ينبهك إلى مواعيد الصلاة بل تكون أنت الذي تتحرى أوقاتها و تصليها في وقتها ) ومن خطاباته لزوجته ( ارجوا أن يستفيد الأولاد من وقتهم فيحفظون القرآن و يقرأوا كتبا وطبعا لسنا في حاجة إلى توصية بالنسبة للصلاة ......)
التكامل في التربية :
بعد الإفراج عن مصطفى مشهور عام 1971 حاول تعويض أبنائه عن بعض ما فاتهم في فترة غيابه فكان حريصا على تصحيح العبادة وحسن المعاملة للآخرين وصلة الأرحام وإتقان العمل المنزلي وخدمة الآخرين كما كان حريصا على أن يقوموا بالدعوة في احد مساجد الحي وكان يعلم البنات كيف يدرن البيت وكن يتناوبن مسئولية مصروف البيت لمدة شهر حيث كان يقسم المصروف إلى أربعة أقسام بعد فصل قيمة فاتورة الكهرباء و الماء و يضع كل جزء في مظروف و من كانت توفر جزء من المصروف يكون من نصيبها هذا المبلغ.كما كان يتابعهن حتى في طريقة إعداد الطعام و ترتيب البيت و أعمال الخياطة . أما عن صلته بالعائلة في القرية فكان يواظب على مشاركة الجميع أفراحهم و أتراحهم ويشارك في تشييع الجنازات وحضور المناسبات والأعياد وفض المنازعات .
ميلاد الصحوة الإسلامية:
لم يكتف مصطفى مشهور بتربية أبنائه بل بدأ في تكثيف نشاطه خاصة مع الشباب و كان بمثابة اليد اليمنى للأستاذ عمر التلمساني الذي كان لمنهجه الوسطي الأثر في أن تشق الدعوة طريقها من جديد و كان مشهور في تلك الفترة منوطا به الدعوة خارج مصر في أوروبا و أمريكا و العالم العربي و الإسلامي حتى عام 1986 .
مصطفى مشهور المرشد :
في يناير 1996 توفي المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ محمد حامد أبو النصر فأعلنت مبايعة الأستاذ مصطفى مشهور عقب دفن المرشد الراحل حتى أن البعض أطلق عليها بيعة المقابر .
مصطفى مشهور المرشد الزاهد:
رغم انتماء مصطفى مشهور لعائلة معروفة بالثراء إلا انه كان يميل للتقشف و الزهد فقد كان يحرص على عدم التبذير و البساطة ولا مجال لطعام يزيد عن الحاجة فما زاد من الأكل يوزع في علب صغيرة محكمة ليستفاد به في المرة القادمة و لا يفوته الدعاء المشهور عنه " تسلم الأيادي " و كان من وصاياه عدم أكل الفاكهة في أول موسمها أو آخره . و كان زهده في متاع الدنيا يوفر عليه الكثير مما يكون سببا في الاختلاف بين الناس بسبب ميراث أو بيع أو شراء .
أولويات المرحلة عند مصطفى مشهور:
من السهل التعرف على الأولويات عند مصطفى مشهور بمجرد ملازمته ليوم واحد فستجد مثالا للرجل القرآني المعلق قلبه بالمساجد و الذي لا يترك فرصة إلا و ينتهزها للدعوة حتى انه كان يقول إذا كان للإنسان العادي خمس حواس فان للأخ المسلم حاسة سادسة و هي الدعوة.
مصطفى مشهور و القرآن :
كان ورده اليومي ثلاثة أجزاء و ينتقي أوقات الورد بعد صلاة الفجر و بعد صلاة العصر و قبل النوم مباشرة .
مصطفى مشهور و الصلاة:
كان يستيقظ قبل الفجر فيصلي مع زوجته التهجد ثم يصلي الفجر في المسجد إماما و كان يعطي مواعيده مقرونة بالصلاة و كان رحمه الله لا ينام إلا بعد الاغتسال و صلاة ركعتين .
وفاته :
توفي الأستاذ مصطفى مشهور يوم الجمعة الموافق 15 / 11 / 2002 ودفن في مقابر المرشدين الذي كان له الفضل في بنائها و لقد روى الأستاذ محمد عبد القدوس انه قد شاهد أكثر من معجزة في جنازة الأستاذ مصطفى مشهور فقد توفي ليلة الجمعة بعد غيبوبة دامت ثمانية عشر يوما بدأت في شعبان لتنتهي أثناء رمضان ليتم دفنه في الشهر المبارك وقام بتشييع جنازته ألوف من البشر في يوم كان عطلة مما سهل تيسير الجنازة فلو كان توفي في اليوم التالي لحدثت مشكلة كبرى حيث كان الرئيس يلقي خطابه بمجلس الشعب والطرق مغلقة والمرور متوقف تماما كما انه رغم حرص الحكومة على إخفاء خبر موته عن الرأي العام إلا أن الألوف قد حضرت هذه الجنازة .
و في رثاء له كتب د / جابر قميحة:
و رأيته و هو المسجى ساكنـا
في صمته ملكا حواه سريـر
و سألت مـــات ؟ فلم يجـب
أحد و قد علت الوجوه كسور
كررت سؤالي:مات حقا؟ فلم أجد
إلا دموعا في العيون تــدور
مهما ذكرت محاسنـا و مآثـرا
فالشعر عجز شابه التقصيــر
يكفيك في التاريخ أنك مرشـد
يكفيك أنك مصطفى مشهــور