بتـــــاريخ : 2/19/2009 6:19:23 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 873 0


    فقه تغيير المنكر

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد توفيق | المصدر : www.qudwa1.com

    كلمات مفتاحية  :
    فقه تغيير المنكر

    إن وجود المنكر في المجتمع أمر طبيعي ، لا يخلو منه مجتمع في أي حقبة من حقب الحياة ، ولكن الذي ليس من الطبيعي أن يرى أبناء المجتمع المنكر ،فلا يسعون إلى تغييره (!) ، وفي التغيير بقاءُ الحياة على النحو الذي يحبه الله عز وعلا .

    ولما كانت غاية تغيير المنكر عظيمة ، وكان فريضةً وضرورة حياة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين منهاج التغيير وآلياته ووسائله ، والضوابط والآداب ، حتى لا تضل الأمة في قيامها بتلك الفريضة ، فتسلك بها غير السبيل القويم ، أو تتخذ وسيلة غير التي تكون لها .

    وبيان النبوة لوسائل (( تغيير المنكر )) وضوابطه ، يقيم الأمة على المحجة البيضاء ولا يبقي لها عذراً في التقاعس أو التكاسل عن القيام بهذه الفريضة ، فكان البيان شافياً شاملاً ، لا يكاد يفلت منه واحد من الأمة ، مهما كان موقعه في الحياة ، ومهما كانت قدرته واستطاعته ، مما يدل على أن منزلة (( تغيير المنكر )) ، من مقومات شخصية المسلم ، الذي به قيام الأمة المسلمة .

    بيان النبوة وسائل التغيير

    (( عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )) ( رواه مسلم ) (1) .

    الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه (( مسلم )) والأربعة وأحمد (2) قد بين السبل ، التي يسلكها المرء إلى التغيير ، فصدّوه بقوله : (( من رأى منكم منكراً فليغيره )) ثم بين آلات التغيير وسبله من بعد ذلك ، ناظماً لها نظماً أولياً ، فلا يتخلى المرء عن سبيل ، إلى الذي بعده ، إلاّ إذا أعذر نفسه ، وأيقن أن ليس في طوقه القيام بالتغيير من خلال السبيل الذي ترك .

    ولبيان ما هدى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً مفصلاً يجلّي الدقائق ويحرر القول ويفصل المشتجرات حتى لا يبقى عذر لمعتذر ، سيكون بياننا على النحو التالي :

    · بيـان المنكر : حقيـقتـه وشـروطه .

    · بيـان التغـير: حقيـقتـه وشـروطه .

    · بيـان المغَيَّـر : شــروطه وآدابه .

    · بيـان ذي المـنكـر وشــــروطه .

    · بيـان وسائل التغيير : شروطها وآدابها .

    بيان المنكر الواجب تغييره : الحقيقة والشروط

    كلمة ( منكر ) بضم الميم وسكون النون ، وفتح الكاف ( مُفْعَل ) مثل ( مُكرم ) اسم مفعول من ( أُنكرِ ) المبني لما لم يسم فاعله ، أي جُهِل ولم يعرف .

    وقد اختلفت عبارة أهل العلم في بيان حقيقة المنكر ، فمنهم من عرَّفه بما هو أعلى صوره ، ومنهم من عرفه ببعض صوره ، فلم تكن التعاريف كاشفة عن حقيقة وماهية المنكر الواجب تغييره .

    ذهب (( أبو العالية )) إلى أن المنكر عبادة الأوثان ن وهذا أعلى أنواع المنكر ، ولا يتصور أنه يقصر حقيقته عليه ، فإنه من العلم والحكمة بمكان عظيم .

    ومساق الحديث من رواية (( أبي سعيد )) ، دالُُ على أن المنكر الذي قام رجل لتغييره ، ليس من عبادة الأوثان ، وإنما هو تقديم خطبة العيد على الصلاة (3) .

    ولذلك قال (( الفخر الرازي )) : رأس المنكر الكفر . فجعله رأس المنكر ، وما عداه من الكبائر دونه وداخل في المنكر .

    وقال الجصَّاص في (( أحكام القرآن )) : المنكر هو ما نهى الله عنه .

    وقال الألوسي : المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع .

    وقال علي القاري : المنكر ما أنكره الشرع وكرهه ولم يرض به .

    وقال الراغب الأصفهاني : (( المنكر كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه ، أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول ، فتحكم بقبحه الشريعة )) .

    والذي نذهب إليه أن (( المنكر )) الذي يجب على الأمة تغييره ، هو ما خالف الشرع كتاباً وسنة مخالفة قاطعة .

    وسواء في هذا ، أن تكون المخالفة لما أمر به الشرع إيجاباً أو لما نهى عنه تحريماً ، وسواء كانت المخالفة تركاً بالكلية ، لما أمر به الشرع أو زيادة عليه بغير نص ، أو نقصاً منه بغير عذر ، أو تغييراً فيه ، أو تبديلاً في ذاته ، أو فيما يتعلق به زماناً أو مكاناً أو كيفية أو وسيلة . فكل مغايرة ذاتية أو عريضة فيما أمر به الشرع هي منكر ، ومثل ذلك تماماً المخالفة بالفعل لما نهى عنه ، مخالفة كلية أو غير كلية 000 إلخ .

    وسواء في هذا ـ أيضاً ـ أن يكون الأمر أو النهي تصريحاً ، أو تلويحاً ، تفصيلاً أو إجمالاً .

    تلك حقيقة المنكر الذي يجب على الأمة تغييره ، وهو يشترط فيه شروط أهمها : *أن يكون المنكر متفقاً على إنكاره (4) لثبوته بالكتاب أو السنة ، بحيث لا يكون إنكاره محل خلاف بين أهل العلم الموثوق بهم من ذوي الاختصاص والتقوى فإن كان محل اجتهاد واختلاف ، فليس مما يجب على الأمة تغييره ، بل يكون لمن ذهب إلى أنه منكر على الراجح عنده وأن يدعو إلى تركه من باب النصيحة إلى ما هو الأعلى والأليق بالمسلم .

    وغير قليل من أحكام الشريعة المستمدة من الكتاب والسنة بغير طريق العبارة والمنطوق ، هو مناط اختلاف بين أهل العلم .

    وكل ما أدى إلى منكر محقق هو نفسه منكر ، يجب تغييره ، فمن تيقن أن هذا العنب لا يزرع إلا ليصنع خمراً ، كانت زراعة العنب بهذا الغرض منكراً فوجب تغييره ، ومن تعلم الطب ليؤذي المسلمين ، أو يكشف عورات نسائهم ، كان تعلمه الطب منكراً ، يجب تغييره 000 إلخ

    وتحقيق هذا الشرط من الأمور المهمة ، التي قد يتساهل فيها بعض الناس ، فإن تحقيقه على الوجه الصحيح ، لا يكون إلاّ ممن جمع بين العلم والحكمة ، إذ العلم يحقق له الوقوف على وجوه الدلالة في النصوص ، ووجوه اصطفاءات الأئمة ، والوقوف على دقائق العلم .

    والحكمة تحقق له سعة الأفق ، ونفاذ البصيرة ، إلى عقبى الأحداث ، فلا يغتر برأي فطير ، عليه مسحة من زخرف القول ، أو وهج الحماسة ، واندفاع الشبيبة ، بل يكون له من الحكمة والروية ، ما يجعله يقف على حقائق الأشياء .

    وإذا ما كان تحقيق الوقوف على ما اتفق عليه أئمة أهل العلم ، وما اختلفوا فيه من الكدى التي لا يكاد يجتازها إلاّ الخاصة فكيف بتحقيق الحكمة مع ذلك ؟ إنَّ غير قليل ممن استطاع التفوق في فقه الدين ، فقه تصور ، ليفتقر إلى كثير من الحكمة في توظيف هذا الفقه ، توظيفاً مثمراً متناغياً مع الفطرة الصافية ، وحركة الحياة المسلمة .

    · أن يكون المنكر موجوداً متيقناً ، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغيره )) فقوله ( رأى ) دال على وجوب العلم بوقوع المنكر ، علماً محققاً ، أو بإقدام صاحبه عليه لا محالة ، كأن يتيقن أنه يدبّر لقتل آخر أو لشرب خمر 000 إلخ . وأن الشواهد والقرائن قاطعة بعزمه على إيقاعه ،فإن من المنكر ما يكون تغييره بمنعه منه ، قبل وقوعه ، بأي سبيل من سبل المنع المشروعة ، وهو في هذا يكون أقرب إلى النهي عن المنكر ، منه إلى تغييره ، فإن النهي أعم من التغيير .

    ويستوي في المنكر الواجب على الأمة تغييره ، أن يكون مما يتعلق بحق الله تعالى ، أو بحق أحد من عباده ، ويستوي ـ أيضاً ـ أن يكون ذلك المنكر قولاً أو فعلاً ، كبيراً أو صغيراً ، فكل ما أنكره الشرع يجب تغييره ، وإن اختلفت وسائل التغيير .

    وقد جاء لفظ المنكر في الحديث نكرة ، ليكون عاماً ، فإنَّ النكرة في سياق الشرط تعم ، مثلما تعم ، في سياق النفي ـ كما هو معلوم عند أهل العلم .

    ويستوي في هذا أن يكون هذا المنكر واقعاً من كبير أو من صغير ، ذكر أو أنثى ، فلو أن صغيراً أراد أن يقتل ، أو يشرب خمراً ، أو أن يحرق ماله ، فإنه يجب منعه ، وإن كان غير مكلف ، وكذلك المجنون ، لو أقدم على منكر ، منع منه ولا سيما منكراً يتعلق بحقوق الآخرين . فلا عبرة بمن يقع منه المنكر ، بل العبرة بالمنكر نفسه ، وتحقق أنه منكر لا رخصة لمن يفعله فيه . ولذا جاء المفعول الثاني للفعل ( رأى ) محذوفاً ، ليدل على العموم ، فكأنه قيل : من رأى منكم منكراً واقعاً من أحد من الناس .

    ذلك ما يهدي إليه النصح لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدبراً وتأويلاً ، وليس صحيحاً ما ذهب إليه بعض الناظرين في الحديث من أنه مقيد بالنفس ، ومن له عليه ولاية ، فيكون التقدير من رأى منكم منكراً من نفسه ، أو أهله ، فيغيره ، فيكون التغيير محصوراً جوازه في منكر واقع من نفس المغيّر أو أهله ، الذين له عليهم ولاية ، كما يذهب إليه مؤلفو كتاب (( مواجهة الفكر المتطرف في الإسلام )) فذلك غير صحيح (5) ومن ورائه شر مستطير ، إذا أنه يفتح الباب لمن ليس لأحد عليهم ولاية ، كالسلطان الأعلى وبطانته ، أن يقترفوا من المنكر ما شاءوا ، فليس لأحد ـ بناء على اجتهاد أولئك المؤلفين ـ أن يغير منكرهم . وتلك التي لا يقول بها عاقل .

    · أن يكون المنكر بواحاً ظاهراً ، لا يحتاج اليقين بعلمه إلى تفتيش وتجسس ، وسواء في هذا أن يكون ظهوره بذاته ، أو بما اقترن به ، من صوت ، أو لون ، أو رائحة 000 إلخ . فكل منكر دلت عليه آياته ولوازمه ، هو من المنكر الظاهر، الذي يجب تغييره .

    أما إن كان المنكر خفيَّاً ، يقترف سراً ، فلا يستقيم التفتيش عنه .

    (( عن أبي برزة الأسلمي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ،ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من اتَّبع عوراتهم ، يتَّبع الله عورته ومن يتَّبع الله عورته يفضحه في بيته )) (6) .

    يقول (( الماوردي )) : (( ليس للمحتسب ، أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فإن غلب على الظنَّ استسوار قوم بها ، لأمارة وآثار ظهرت ، فذلك ضربان :

    أحدهما : أن يكون ذلك في انتهاك حرمة ، يفوت استدراكها ، مثل أن يخبره من يثق بصدقه ، أن رجلاً خلا برجل ليقتله ، أو بامرأة ليزني بها ، فيجوز له في مثل هذا الحال ، أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك 00000

    الضرب الثاني : ما قصر عن هذه الرتبة ، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه ، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة ، من دارٍ ، أنكرها خارج الدار ، ولم يهجم عليها بالدخول ، لأن المنكر ظاهر فليس عليه أن يكشف عن الباطن )) (7).

    وثمَّ منكرات أعظم أثراً في الأمة من غيرها كمنكر إشاعة الفتنة في الأمة لتقويض هيبة السلطان المسلم ، والخروج عليه ، وكمنكر استراق أسرار الدولة وأخبارها لنقلها للعدو ، وكمنكر التآمر على إفساد اقتصاد الأمة ، وثقافتها وعقيدتها ، وصحة أبنائها ، والتآمر على إشاعة الفاحشة في الأمة وتغييب عقول أبنائها ، وتزوير ، إرادة الأمة في اختيار ممثليها في المجالس النيابية ، وغيرها ، من المنكرات ، ذات الأثر الجسيم المبير .فمثل هذه المنكرات يجب اتخاذ السبيل إلى تغييرها ومنعها من قبل وقوعها ، وهو مما يبيت له بليلٍ ، ولا يكون مجاهرة .

    فالتجسس والتفتيش منهي عنه في المنكرات ذات الآثار الفردية الشخصية التي لا يكاد يتعدى أثرها الفادح إلى كثير من الآخرين ، أما ما كان من المنكرات مبيراً ماحقاً عزة الأمة وقوتها ، فذلك يجب اتخاذ السبل إلى تغييرها ومنعها من قبل وقوعها ، فعموم قوله تعالى : (( ولا تجسسوا ) ( الحجرات : 12 ) ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (( إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخواناً )) (8) إنما هو عموم نهي عن التجسس مخصص بما كان من المنكرات التي يكون أثرها فادحاً ومقوضاً لهيبة الأمة وعزتها ، وسلامتها ، بحيث يكون ذلك المنكر أعظم جرماً من التجسس .

    تلك أهم شرائط المنكر الذي يجب على الأمة تغييره .

    بيان التغيير : حقيقته وشروطه

    التغيير يقال على وجهين : ( أحدهما ) لتغيير صورة الشيء دون ذاته ( والثاني ) لتبديله بغيره ، نحو غيرت غلامي ودابتي ، إذا أبدلت بهما غيرهما .

    قاله الراغب في المفردات .

    فالأصل في التغيير استبدال شيء مرغوب فيه ، بشيء مرغوب عنه ، فهو ليس تركاً وإزالة فحسب ، بل يتبعهما إقامة غيره مقامه ، فيكون التغيير أخصّ من الإزالة ، وأخصّ من النهي عن الشيء .

    والحديث قد جاء بالأمر بتغيير المنكر ( فليغيره ) ، وهو أقرب إلى معنى الإزالة إن كان موجوداً قائماً ، وإلى المنع منه ، إن شارف على الوقوع ، وليس ظاهر الحديث آمراً بإزالة المنكر ، وإقامة معروف مقامه ، وإن كان يغلب تعاقب أحدهما الأخر ، فحيث غاب المنكر ، كان المعروف ، وحيث غاب المعروف ، كان المنكر .

    وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال : ( فليغيره ) ، يهدي إلى أن تمام الفريضة وكمالها بإقامة معروف مقام ما يزال من المنكر ، حتى لا ندع للمنكر مجالاً للعود ، فهو لم يقل: من رأى منكم منكراً فليزله ،أو فليمنعه ، وإنما فليغيره.

    وإذا نظرنا فيما تعلق بهذا الفعل من وسائله وآلاته ( بيده ، بلسانه ، بقلبه ) ألفينا دلالة التغيير ، تتجدد بتجدد ما تعلق بها فغير خفي ، أن التغيير باليد ليس هو التغيير باللسان ، فاللسان ليس بآلة إزالة ومنع ، بل هو سبب له ، وكذلك (القلب) ، ولكن ( اليد ) قد تكون آلة إزالة وتغيير حقيقي 00 فحقيقة تغيير المنكر ، تختلف باختلاف وسيلته ، وباختلاف المنكر الذي يقع عليه ذلك التغيير ، وباختلاف من يقوم بذلك التغيير .

    وللتغيير شرائط وآداب نذكر منها :

    · أن يكون التغيير إيماناً واحتساباً وابتغاءً لمرضاة الله عز وعلا ، في تحقيق الوجود المتمكن للأمة المسلمة الفاعلة الرائدة ، وليس تغييراً لعصبية قومية ، أو وطنية ، أو لغوية ، أو حزبية، أو تحقيقاً لهوى في النفس ، أو موافقة لما تحب .

    فهذه غايات قد يقع تغيير المنكر من أجلها ، فيكون هذا التغيير في نفسه منكراً يحتاج إلى تغيير .

    أما التغيير الذي هو عبادة ، فإنما هو الخاص لوجه الله تعالى ، لا يبتغى به غيره ( وما أُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حُنَفاء َ ) ( البينة : 5 ) ، والله سبحانه وتعالى ، قد بين لعباده غناهُ عن الشركاء في حديثه القدسي :

    (( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )) (9) .

    وحين يكون هذا التغيير احتساباً ، يُعينُ الله القائم لهذا التغيير ، على الاستعداد له ، استعداد قلبياً وعقلياً ونفسياً وجسدياً ومالياً ، لأن لهذا التغيير تبعات جساماً وابتلاءات عظاماً ، لو لم يكن القائم له محتسباً وجه الله تعالى ، لنكص على عقبيه أو تقاعس عن إنفاذ ما بدأ ، وهذا ما يهدي إليه قوله تعالى في بعض وجوه دلالته المتكاثرة : (( يأيُها الَّذينَ آمنوا عليكم أنفُسكم لا يضركم من ضلَّ إِذا اهتديتُم ) (المائدة : : 105) فإن من الاهتداء المشروط لانتفاء أضرار الضالين من يقوم بالتغيير أن يكون عملهم مخلصاً لله تعالى ن بل ذلك رأس الاهتداء .

    · أن يكون التغيير موافقاً هدي الكتاب والسنة . ذلك أن كل عمل صالح أساسه أمران : إخلاص النية وموافقة الشرع .

    (( ولهذا كان أئمة السلف ـ رحمهم الله ـ يجمعون هذين الأصلين ، كقول (( الفضيل بن عياض )) في قول تعالى : ( لِيَبْلُوكُم أيُّكُم أَحْسَنُ عَمَلاً ) ( الملك : 2 ) قال : أخلصه ، وأصوبه . فقيل : يا أبا علي ، ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال : إِنَّ العمل إِذا كان صواباً ، ولم يكن خالصاً ، لم يقبل ،وإذا كان خالصاً ولم يكن صواباً ، لم يقبل ، حتى يكون خالصاً صواباً . والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة .

    وقد روى (( ابن شاهين )) واللالكائي ، عن سعيد بن جبير قال : لا يقبل قول وعمل إِلاّ بنية ، ولا يقبل قول وعمل ونّية إِلا بموافقة السنة )) (10) .

    وموافقة الشرع ، لا تكون إِلاّ عن علم ومعرفة ، وإذا كنّا قد ذكرنا ضرورة العلم بحقيقة المنكر المراد تغييره ، فإن الشرط هنا معرفة كيفية التغيير ، وفقاً لهدي الشريعة ، وهذا يستوجب معرفة أسباب المنكر المراد تغييره معرفة كاشفة ، ومعرفة آثاره العاجلة والآجلة في الأمة .

    ومعرفة ما يحيط بوجود المنكر ، وانتشاره في الأمة من ملابسات ، وما يعين على بقائه أو تجدده ، أو إغراء الناس بالانشغال به ، أو التلبس والتردي فيه ، أو السكوت على أهله ، أو إجلالهم ، أو الخوف من تغييره أو إنكاره .

    ويستوجب معرفة ما يترتب على تغييره ، بأي سبيل من آثار إيجابية ، أو سلبية ، والموازنة بين هذه الآثار ، فيما يحسن اختيار المنهج ، والزمان ، والمكان والمقدار ، الذي هو أنفع للأمة ، عنده تغييره .

    ويستوجب معرفة السبيل القويم ، إلى تغيير هذا المنكر ، تغييراً نافعاً ، فيختار ما هو أكثر نفعاً ، وأقل ضرراً على الأمة ، وما هو أقدر على القيام به ، وأصبر على إنفاذه .

    ويستوجب معرفة منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر ، وفقاً لطبيعة هذا المنكر ومنزلته في الاعتداء على حق الله تعالى ، أو حق عباده ، ووفقاً لحال من يتلبس به ، وأسباب تلبسه ، وغايته من ذلك التلبس 000

    إن القصور في معرفة شيء من ذلك ، تكون آثاره فادحة ، وإتقان معرفته تعين على حسن على القيام به .

    وهذه المعرفة عمل جماعي ، يتركز على الصبر والمصابرة ، والتواصي بالحق والنصيحة ، وحسن العزيمة ، والرغبة الجموح في إتقان العمل .

    إن الجهد الفردي جهد قاصر في هذا ، وهو إن لم يك عقيماً ، إِلاّ أن ثمرته غير نافعةٍ النفع المرجو من مثلها ، ولذلك دعا الله عز وجل الأمة إلى الاعتصام بحبله جميعاً ، ونهي عن التفرق في تحقيق هذا الاعتصام : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) ( آل عمران : 103 ) فهو ما أمر بأن يعتصم كل فرد منا بحبل الله على حياله ، دون اجتماع مع الآخرين . وقوله : ( ولا تفرقوا ) معناه : (ولا تعتصموا بحبله متفرقين ) ، فهو من عطف جملة على جملة ، وليس عطف فعل على فعل .

    وقد دعا عباده إلى التعاون على البر والتقوى : (( وتعانوا على البرْ والتقوى ) ( المائدة : 2) ودعاهم إلى التواصي بالحق وبالصبر : ( والعصر * إن الإنسان لفي خُسر* إِلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصّبر )

    ( العصر 1 ـ 3 ) .

    روي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : (( لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم )) ، وهو كما قال ، فإن الله أخبر فيها أن جميع الناس خاسرون ، إِلاّ من كان في نفسه مؤمناً صالحاً ، ومع غيره موصياً بالحق موصياً بالصبر )) (11) .

    ولم يرض الله أن يكون المسلم صادقاً فحسب ، بل دعاه إلى أن يكون مع الصادقين ( يأيَّها الَّذين آمنوا اتَّقوا اللهَ وكُونُوا مع الصادقين ) ( التوبة : 119 ) .

    هذه المعية المنبعثة من الصدق مع الله تعالى ، ومن اتَّقائه ، هي السبيل إلى القيام بتحقيق الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، وهي التي لا ترضي الطغاة والمفسدين في الأرض ، لأنّ فيها الوقاء من كيدهم ومكرهم .

    · أن يسلك بالتغيير منهج التدرج والحكمة والحلم والرفق ، ليكون ذلك أنجح وأنجع(12).

    وأول تلك المراحل تعريف صاحب المنكر بحكم فعله وآثاره وعواقبه في الدنيا والآخرة ، كل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة .

    إن أو ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم هو تعليم الناس الخير ، والسبيل إليه ، والشر والسبيل إلى الاعتصام منه ، وحث على ذلك التعلم وحمده . فإن كثيراً من العامة يقدمون على المنكر ، ويتردون فيه جهالة به وظنَّا أنه مما لا بأس به ، فإذا ما عُلَّم بالحكمة ، ووعظ بالحسنى ، كان أبعد عن المنكر وأنفر منه : ( وَمَنْ أحسن قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنَّني من المُسلمين ) ( فصلت : 33 ) . وقد أمر الله عز وعلا أن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة : ( ادعُ إلى سبيلِ ربَّك بالحكمة والموعظة الحسنة ) ( النحل : 125 ) .

    ومن الدعوة إلى سبيله ، تغيير المنكر . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رؤوفاً رحيماً بأمته ، يشفق على الطائع والعاصي ، وهو القائل : (( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعلَّمكم 00 )) (13) ، وفي قصته مع الأعرابي الذي بال في مسجده القدوة والأسوة في حسن تعليم الجاهل ، حين يقع في منكر .

    عن أنس بن مالك قال (( بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد ن فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَهْ مَهْ .

    قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تُزْرِمُوه . دعوه )) ، فتركوه حتى بال . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه ، فقال له : (( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ، ولا القذر ، إنما هي لذكر الله عز وجل ـ والصلاة وقراءة القرآن )) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قال : فأمر رجلاً من القوم ، فجاء بدلو من ماء فشَنَّه عليه )) (14) .

    وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عندما زجروا الأعرابي : (( فإنما بعثتم مُيسَّرين ، ولم تُبعثوا مُعسَّرين )) (15) .

    ولذلك لما تفقه الأعرابي ، بما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال واصفاً حلم النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه : (( فقام إلي ـ بأبي وأمي ـ فلم يؤنّب ولم يَسُب )) (16) .

    ما اقترفه الأعرابي منكر لا شك فيه ، من وجوه كثيرة ، أعلاها حرمة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ،وحضرته ذلك الفعل .

    وما اقترفه الأعرابي لا يحتاج العلم بأنه منكر ، إلى معرفة خاصة ، فالفطرة تأباه ، وبرغم من ذلك ، ما أنَّبه النبي صلى الله عليه وسلم ، وما سبَّه ، بل وما غضب ، بل كان الرفيق الرحيم ، وقد علَّم أصحابه والأمة ، وهداها بهذا وبقوله : ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه )) (17) .

    وقد قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، حين غضبت من قولة اليهود له صلى الله عليه وسلم : السَّامُ عليكم : فقالت : وعليكم السَّامُ واللعنةُ ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مهلاً يا عائشة ، إن الله يحب الرفق في الأمر كلَّه )) ، فقلت : يا رسول الله ، أولم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قد قلت : وعليكم )) (18) .

    وعن أبي أمامة قال :إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي في الزنا . فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مَهْ ، مَهْ . فقال : (( ادنه )) ، فدنا منه قريباً ، قال : فجلس ، قال : (( أتحبه لأمك ؟ )) قال : لا ، والله ، جعلني الله فداءك .

    قال : (( ولا الناس يحبونه لأمهاتهم )) .

    قال : (( أتحبه لابنتك ؟ )) قال : لا ، والله ، يا رسول الله جعلني الله فداءك .

    قال : (( ولا الناس يحبونه لبناتهم )) .

    قال : (( أتحبه لأختك ؟ )) قال : لا ، والله ، جعلني الله فداءاك .

    قال : (( ولا الناس يحبونه لأخواتهم )) .

    قال : (( أفتحبه لعمتك ؟ )) قال : لا ، والله ، جعلني الله فداءاك .

    قال : (( ولا الناس يحبونه لعماتهم )) .

    قال : (( أفتحبه لخالتك ؟ )) قال : لا، والله ، جعلني الله فداءاك .

    قال : (( ولا الناس يحبونه لخالاتهم )) .

    قال : فوضع يده عليه ، وقال : (( اللهم اغفر ذنبه ، وطهَّر قلبه ، وحصَّن فرجه )) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلفت إلى شيء (19) .

    أي منكر هذا الذي يستأذن فيه الفتى ؟ وأي منكر يكون ذلك الاستئذان من سيد الأنبياء ؟ إنه لمنكر جدَّ عظيم ، لا يملك أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم إزاءه ذرة من حلم ورفق ، ولكنه صلى الله عليه وسلم الرؤوف الرحيم ، الذي بلغ في موقفه هذا وكثير غيره ، حد الإعجاز لكل ما عداه من الخلق ، أن يبلغ ما بلغ في هذا الحلم والصبر الجميل .

    وليس الرفق والحلم في تغيير المنكر ، بذاهب بصاحبه إلى المداهنة والمصانعة حين يعتدى بذلك عمداً على حق من حقوق الله تعالى ، أو حقوق عباده ، بل يكون ذلك حينذاك الحزم والحسم والغضبة لله رب العالمين .

    (( عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ـ زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم : أن قريشاً أهمّهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أُسامة بن زيد ، حبُّ رسول الله عليه وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد ، فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال (( أتشفع في حدَّ من حدود الله ؟ )) فقال له أسامة : استغفر لي يا رسول الله . فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال :

    أما بعد ، فإنما أهلك الذين من قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ . وإني ـ والذي نفسي بيده ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )) ، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت ، فقطعت يدها .

    قال يونس : قال ابن شهاب ، قال عروة : قالت عائشة : (( فحسنت توبتها بعد ، وتزوجت ، وكانت تأتيني بعد ذلك ، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، متفق عليه ، والنص لمسلم (20) .

    كذلك الرفق ، وكذلك الحزم في تغيير المنكر ، كلُُ في موضعه الذي هو به أليق وأكرم وأجدى وأنفع .

    ومما يدخل في باب الرفق والحكمة في هذا ، ألا يكون ذلك مواجهة ومصارحة في ملأٍ من الناس ، فإنها حينذاك تشهير لا تذكير . يقول الإمام الشافعي : من وعظ أخاه سرَّاً فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه (21) .

    وقد جعل الله من عقوبة من عَيَّرَه أخاه بذنب ، أن يقع فيه : (( من عَيَّرَ أخاه بذنب لم يَمُتْ حتى يعمله )) (23) ، وذلك إذا لم يكن صاحب المنكر مجاهراً مفتخراً ، به متخذاً فعله رسالة حياته ، كمثل الماسونيين والعلمانيين والماركسيين وغيرهم من المرجفين المحاربين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن كان كذلك فقد وجب تغيير منكره ، ودفعه علانية ، وفضح أمره وأفاعيله وصنائعه السوء والإرجاف وإشاعة الفاحشة والسُّوأى ، فإن الله عز وعلا حَرَمَ المجاهرين عفوه :

    (( عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كُلً أُمَّتي معافى إلا المجاهرين ، وإنَّ المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول : يا فلان ، عملت البارحة كذا ، وكذا ،وقد بات يستره ربه ، ويصبح يكشف ستر الله عنه )) (24) .

    فإذا ما كان هذا حال من جاهر على هذا النحو ، فكيف بحال من لا يفعلها بليل ، بل يفعلها جهاراً نهاراً ، ويتخذها فخاراً ومنهج حياة؟ أولئك أولى بالحرمان من عفو الله ، وأولى بفضح أمرهم للناس ، حتى يعرف الناس صنيعهم فيحذروا وينكروا .

    فالحكمة في تغيير منكر مثل هؤلاء المجاهرين بالمنكر المفاخرين بفعله ،والدعوة إليه ، الغلظة في وجوههم ، والتصريح بأسمائهم وأوصافهم وأفعالهم ، وبمن يناصرهم ، أو يسكت عن باطلهم ، حتى يكشف حالهم ، فلا يخدع الناس بمكرهم ، وزائف فكرهم ، وزخرف قولهم ، وباطل مذهبهم .

    وهم ـ خداعاً وزوراً ـ ينعقون في محافلهم العامة ، ومناشيرهم السيارة ، أنهم مسلمون موحدون ملتزمون بصحيح الإسلام ، وأنِّ من خالفهم إنما هو الذي يدعو الناس إلى عبادة الله بآراء خلقه ، لا بهدي كتابه ، كذلك يزعمون ، وينادون أن الإسلام قد عصم دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، بلا إله إلا الله ، وأنهم يقولونها ، فلا تحل دماؤهم وأعراضهم .

    ذلك ديدن المنافقين من الماسونيين والعلمانيين والماركسيين ، فذلك دعامة (( السَّلولية )) التي اتخذوها عقيدة من دون الإسلام . فإذا ما تخفَّى أولئك تحت ادعاء قول (( لا إله إلا الله )) فإن هذه ليست كلمات تقال فحسب ، وإلا لما قاتلت (( قريش )) النبي صلى الله عليه وسلم ، حين طالبهم بها، إنما هي منهاج حياة ورسالة وجود ، لها مقتضياتها وحقوقها ، وواجباتها . وفي حياة كل قائل لها آيات ظاهرة على تمكنها من قلبه واستقرارها فيه ، فيكون المسلم المعصوم بها دمه وماله وعرضه ، أو يكون في حياته ناقضاتُُ لمعنى (( لا إله إلا الله )) ومنهجها ورسالتها ، فتكون تلك الآيات القاطعات بأنه ليس الذي يعصم بها دمه وماله وعرضه .

    كل قائل (( لا إله إلا الله )) عليه أن يعرض نفسه ومنهج حياته وحركته في الأرض على مقتضيات تمكن (( لا إله إلا الله )) من قلبه أو ناقضاتها .

    هل يعصم قول : (( لا إله إلا الله )) من يطعن في كتاب الله ، ومن يدعو إلى التحرر من سلطة القرآن ، بل من سلطان الله ، ومن لا يرضيه أن تكون علاقته بالله علاقة عبد بسيده لأنه لا يحب الإذعان ؟ وهل يعصم قول : (( لا إله إلا الله)) من يستهزئون بالرسول والسنة والصحابة ، كمن يستهزئ من التيمم بالتراب عند نقض الوضوء لذي عذر ، ويستهزئ بالوضوء بغسل اليدين والوجه 000 إلخ لمن خرج منه ريح ، ويتساءل ما علاقة ذلك بوجهه ويديه ، ألا يكفي غسل محل خروج الريح ؟

    وهل يعصم قول : (( لا إله إلا الله )) ، دم وعرض ومال من يزعم أنَّ بعض أحكام الشريعة الثابتة بالكتاب والسنة ، إنما هي رجعية وعادات بدوية لا تليق بالحياة المعاصرة ، وأنَّ القرآن والسنة لا يصلحان في القرن العشرين أن يحتكم إليهما في حياتنا السياسية والاجتماعية ؟

    وهل يعصم قول : (( لا إله إلا الله )) ، دم وعرض ومال من يعلن صراحة أنَّه ضد الحكم بما أنزل الله ؟

    أيتفق ادَّعاء الإسلام ، مع كل هذه الناقضات معنى (( لا إله إلا الله )) ، من قلوب أصحاب هذه الأقاويل والدعاوى ؟

    ويتعلق أولئك المرجفون في المدينة بحديث سيدنا (( أسامة بن زيد )) الذي رواه الإمام (( مسلم )) الذي يقول فيه سيدنا (( أسامة )) :

    (( بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبّحنا الحُرُقات~ من جهينة، فأدركت رجلاً : فقال : لا إله إلا الله ، فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أقال لا إله إلا الله وقتلته ؟ )) .

    قال : قلت يا رسول ، إنما قالها خوفاً من السلاح .

    قال : (( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ )) .

    فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ )) (25) .

    وإذا كان أولئك لا يتعلقون بالسنة إلا حين يرون فيها ما ينفعهم في تنفيذ مخططهم (( السَّلُولي )) فإن تعلقهم بحديث (( أسامة )) غير نافع لهم .

    وكل عاقل يقرأ الحديث قراءة مسلمة ، يجد أن حالهم لا يتفق مع حال الرجل الذي طعنه (( أسامة )) فقتله .

    الرجل الذي قتله (( أسامة )) بعد قول (( لا أله إلا الله )) لم يظهر منه لسيدنا (( أسامة )) بعد قولها ما ينقضها ، من قول أو عمل ، فكان على سيدنا (( أسامة )) أن يعصم دمه بها ، حتى يقع منه ما ينقضها قولاً أو فعلاً ، ولذلك قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ )) ، أي أقالها خوفاً من السلاح ، وما يزال على ما كان عليه قبلها ، أم قالها اعتقاداً جازماً ، فلو أنه بدا من الرجل ما يجعل أسامة يوقن أنه قالها خوفاً ، ما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قتله بعد قوله : (( لا إله إلا الله )) ، لأنها ستكون مقالة خادعة .

    والماسونيون والماركسيون والعلمانيون ، وكل المرجفين في المدينة ، لا يكفون عن قول وفعل ما ينقض قولهم : (( لا إله إلا الله )) نقضاً لا يبقي ولا يذر ، فجميع أحوالهم التي يعيثون بها في الأرض فساداً ، تنادي صباح مساء أنهم إنما يقولون : (( لا إله إلا الله )) تقية وخديعة ، وأن هم في هذا كمثل الذين قال الله تعالى فيهم : ( وإذا لقوا الَّذِينَ آمنوا قالوا آمنَّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إِنَّا معكم إنما نحن مستهزءون ) ( البقرة : 14 ) .

    ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) ( آل عمران : 72 ) .

    فمثل أولئك ، الحكمة كل الحكمة في تغيير منكرهم ، كشف أقاويلهم وأفاعيلهم مقرونة بها أسماؤهم وأوصافهم ومواقعهم في الحياة الثقافية والقيادية ، وبيان أباطيلهم ، وما يرمون به إليه من إفساد في الأرض ، وحب لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ، حتى يعرف الناس حقيقتهم ، فلا يخدعون بمعسول قولهم وزخرفهم ، فإن لكثير منهم فصاحة لسان تسبي قلوب وعقول الدهماء ، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من أمثالهم .

    عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن أخوف ما أخاف على أُمتي كلُّ منافق عليمُ اللسان ) (26) .

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من تعلَّم صرف الكلام ليَسْبيَ قلوب الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً )) (27) .

    وإن من ألزم ما يحمله أهل العلم وطلابه من فرائض ، الوقوف على حقيقة مذاهب العلمانيين والماسونيين ، والماركسيين ،ومن شايعهم ، والاجتهاد في فحصها وسبر أغوارها ودفائنها ، وخبئ مراميها ، ونقض ما فيها من دعاوى باطلة وأقاويل فاسقة .

    إن حسن الظن بأمثالهم يردي في مهاويهم ، فالمؤمن كَيِّسُُ فَطِنٌُ ، لا يُلدَغ من جُحْرٍ مرتين .

    وإن الحكمة في أمثالهم ، الاستماع إلى قول الشاعر :

    والجَهْلُ إنْ تَلْقَهُ بالحلم ضقت به

    ذَرْعاً وإنْ تلقَهُ بالجَهْل يَنْحَسِمِ

    بيان المغِّير المنكر : شروطه وآدابه

     

     

    إذا ما كان تغيير المنكر ، عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى ، فإنه يشترك مع بقية العبادات في بعض الفرائض :

    · أن يكون القائم بالتغيير مكلفاً ، وأساس التكليف : العقل والبلوغ ، فمن جنَّ عقله ، أو أصابه فيه داء ، فقد أعفي من فريضة التغيير ، ما بقي الجنون أو الداء ، ومن لم يبلغ الحلم ، لا يجب عليه التغيير لمنكر رآه ، فإن كان مميزاً عارفاً بالمنكر قادراً على تغييره صحَّ له أن يغيره ، ولا يجوز منعه من ذلك

    كما لا يجوز حمله على التغيير ، إلاّ على سبيل تدريبه على الطاعات من قبل وجوبها عليه ، على أن يكون ذلك تحت إمرة وليه .

    · أن يكون مسلماً ، فإنَّ أي عبادة لا تقبل بغير إسلام ، ولا تفرض من قبل الدخول فيه ، فلا يتصور أن تفرض على غير المسلم ، أن يغير ما تنكره شريعة هو لا يؤمن بها ، وإن كان ذلك منكراً في شريعته ، التي يؤمن بها أيضاً ، فنحن غير مكلفين بحمل غير المسلمين على التمسك بشرائع عباداتهم ، التي يتفق بعضها مع بعض ما في الإسلام ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحمل يهود المدينة على ترك الربا ،وهو المحرم في توراة موسى عليه السلام ، مثلما هو محرم في الإسلام ، إلا إذا تحاكموا إلى المسلمين ، فيحملون على حكم الإسلام وحده ، لأنهم تحاكموا إليه طواعية .

    فإذا أعان غير المسلم على تغيير المنكر ، أثيب على إعانته تلك ، بما يليق بها من نعم الدنيا ، ولا يصح منعه من أن يعين على ذلك إلاّ إذا خرق شروط التغيير وآدابه .

    · ولا يشترط مع الإسلام العدالة ، فكل مسلم يجب عليه تغيير المنكر على الوجه الذي هو أهل له ، وليس بلازم أن يكون غير مرتكب للمنكرات . ذلك ما عليه أهل العلم (28) فإن للفاسق بل عليه أن يغير المنكر ، إلاّ إذا كان لا يقيم الصلوات المكتوبات استهانة أو استهزاء أو إنكاراً لفرضيتها ، فإنه يكون بذلك غير مسلم البتة ، بل هو مرتد ، وهو أدنى منزلة من أهل الكتاب ، فإن استتيب وتاب والتزم ، وجبت إعانته وإكرامه وتأليف قلبه .

    أما إن كان فاسقاً يؤدي الصلاة أو يتركها كسلاً لا استهانة ـ عند بعض أهل العلم ـ فإنه لا يُسقط عنه فريضة تغيير المنكر بسقوطه هو فيه ، فإن الفسق لا يرفع التكليف ، مثلما ترفعه الردّة ،وهذا الفاسق يكون على أحد أمرين :

    - أن يكو مرتكباً منكراً غير الذي يراه من غيره .

    - أن يكون مرتكباً منكراً من جنس ما يراه من غيره .

    إن كان الأول ، فإن تغيير منكر غيره فرض عليه ، ما تحققت فيه بقية شرائط التغيير . فلا يتأثر بوقوعه هو في منكر آخر ، فالواقع في منكر الغيبة مثلاً ، عليه أن يغير منكر سرقة واقع من غيره . فإِننا لو اشترطنا أن يكون القائم بالتغيير خالياً من كل منكر ، فإنا نكاد لا نجد من يتحقق في ذلك ، ولا سيما في عصرنا والعصور القادمة .

    يقول سعيد بن جبير : (( إن لم يأمر بمعروف ولم ينه عن المنكر ، إلاّ من لا يكون فيه شيء ، لم يأمر أحد بشيء )) فأعجب مالكاً ذلك من سعيد بن جبير )) (29) .

    وإن كان الآخر أي المغيِّر ، واقعاً في منكر من جنس ما يراه من غيره ، فإن له حالين : أن يكون غيره عليماً بوقوعه فيه أو لا يكون .

    إن كان عليماً بوقوعه فيه فالأولى تغيير منكر نفسه أولاً ، ولا سيما إذا ما كان التغيير باللسان ، حتى لا يكون السعي إلى التغيير حينئذٍ عقيماً أو عقباه أكثر ضرراً .

    وإن كان غير عليم بوقوعه فيه ، لم يتوقف تغييره منكر غيره على تقديم تغييره منكر نفسه ، بل يفعلهما معاً أيَّاً كان سبيل التغيير وآلته ، فلا ينتظر الفراغ من تمام تغيير منكر نفسه ، ولا سيما إذا ما كان المغير ذا ولاية عامة أو خاصة على من يريد تغيير منكره .

    فإن كان من العامة ومن حوله من يمكن أن يقوم بالتغيير دونه ، فعليه الاشتغال بتغيير منكر نفسه أولاً ، ويدع غيره يقوم بتغيير هذا المنكر متى كانوا قادرين وصالحين لتغييره .

    (( يروى أن رجلاً جاء سيدنا عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال يا ابن عباس ، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال : أبلغت ذلك ، قال : أرجو ، قال : إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله ، فافعل .

    قال : وما هنَّ ؟

    قال : قوله تعالى : ( أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالِبرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) ، أحكمت هذه ؟ قال لا .

    قال : فالحرف الثاني ؟ قال : قوله تعالى : ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعلُونَ )، أحكمت هذه ؟ قال : لا ، فالحرف الثالث ؟

    قال : قولُ العبد الصالح (( شعيب )) عليه السلام : ( وَمَا أُريدُ أنْ أُخَالفكُم إِلى ما أنْهَاكُمُ عَنه إِن أريدُ إِلاّ الإصلاح ) ، أحكمت هذه ؟ قال : لا . قال : فابدأ بنفسك )) (30) .

    في هذا الموقوف على (( ابن عباس )) إن صح سنداً ، دلالة على أنَّ المرء أن يكون أهلاً للقيام بفريضة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، حتى يكون قياماً مثمراً ، فإن لم يك أهلاً فعليه أن يبدأ بنفسه ، ويدع غيره لمن هو قادر علي هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيؤديهما أداء غير عقيم .

    على أنه ينبغي أن نكون على وعي ، بأنَّ ما قاله ابن عباس لهذا الرجل إنما هو مخصوص بحال ما إذا كان مِنْ حول الرجل مَنْ هو أقدر على القيام بفريضة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فيترك ذلك لمن هو أقدر على نحو ما كان في زمان (( ابن عباس )) ، إذ كان جمهور الصحابة والتابعين كثير .

    أما إن كان مثل ذلك الرجل في مجتمع ليس فيه من هو أقدر منه على ذلك أو كان فيه ، ولكن عجز عن الوفاء بكل الفريضة ، أو شغله المال والأهلون ، فلا ريب في أن مثل هذا الرجل ، وإن لم تتحقق فيه الآيات الثلاث المذكورات ، يجب عليه القيام بفريضة التغيير لمنكر غيره ، في الوقت الذي يسعى فيه جاهداً الىتحقيق هذه الآيات الثلاث على الوجه القويم .

    ومما ينبغي وعيه هنا أن الرجل كان يرمي إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس إلى تغيير منكر يراه ، وفرقُُ غير خفي بين فريضة تغيير منكر وقع ورآه المرء ، وفريضة أمر بمعروف ونهي عن منكر ، وإن لم يقع 00 فالتغيير ، بعض النهي ، وليس كله .

    على أن قوله تعالى : ( أَتَأمُرُونَ النَّاسَ 000 الآية ) وقوله تعالى : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعلُونَ ) لا يؤخذ منه أن مرتكب المنكر لا يغير منكر غيره ، فقد جاء هذا القول في سياق ذم النهي عن المنكر وإتيانه ، أو الأمر بالبر ، وترك فعله في الوقت نفسه ، ولا يلزم من ذلك منع النهي عن المنكر ممن هذه حاله ، أو منع الأمر بالبر ممن هذه حاله ، بل هو دعوةِ إلى ترك المنكر ، لا ترك تغييره في غيره ، حتى يتركه هو 00 فهو قول سيق للنهي عن ارتكاب هذه الأفعال ، وإبراز شناعة إتيانها مع العلم بأنها منكر ،ومع دعوة الآخرين إلى تركها .

    ومثل هذا أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : (( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلقُ أقتابُ بطنه ، فيدور كما يدور الحمار بالرحى ، فيجتمع إليه أهل النار ، فيقولون : يا فلان ، مالك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول : بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه ) ( متفق عليه ، والنص لمسلم ) (31) .

    فذلك الحديث غير مسوقٍ إلى النهي ، عن القيام بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ممن لم يفعل المعروف ، ويمتنع عن المنكر ، بل هو مسوق إلى الإبلاغ في بيان شناعة إتيان المنكر مع النهي عنه ، وترك المعروف وأمر الآخرين به .

    يقول الغزالي في قوله تعالى : ( أتأمرون النَّاس بالبر ِ ) ونحوه : (( هو إنكارُُ عليهم من حيث تركهم المعروف ، لا من حيث أمرهم ، ولكنَّ أمرهم دلَّ على قوة علمهم ، وعقاب العالم أشد ، لأنه لا عذر له مع قوة علمه )) (32) .

    · ويبقى شرط إذن الولي الأعلى ، أو من ينيبه ، لمن يقوم بتغيير المنكر :

    يذهب جماعة من أهل العلم إلى اشتراط إذن ولي الأمر الأعلى ، لمن يقوم بالتغيير ، ويذهب آخرون إلى عدم اشتراطه .

    وتحقيق ذلك متوقف على أشياء ثلاثة : حال ولي الأمر ، وحال المغيرِ ، وحال وسيلة التغيير ، والكيفية التي يتم بها التغيير .

    أمَّا حال ولي الأمر ، فإما أن يكون حاكماً بما أنزل الله تعالى ، وإما أن يكون غير ذلك :

    إن كان مقيماً لشرع الله تعالى ، لا يحكم بغيره عمداً ، ولا يخلط به غيره ، فإن كان المغيِر من العامة ، فإن تغيير المنكر في نفسه ، ومن له عليهم ولاية خاصة كالأهل ، لا يحتاج إلى إذن ، إذا ما غير بلسانه أو بيده في بعض صور التغيير باليد ،وإن تكن بعض صور التغيير باليد حينئذ تحتاج إلى إذن ، كأن يترتب على التغيير باليد إيذاء بالغ في نفس مرتكب المنكر كأن يضربه ضرباً مهلكاً أو مبرحاً

    أما ما رُوي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ أعمى كانت له أُم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه ، فينهاها فلا تنتهي ، ويزجرها فلا تنزجر . قال : فلما كانت ذات ليلة ، جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه ، فأخذ المِغْوَلَ (33) فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها ، فوقع بين رجليها طفل ، فلطخت ما هناك بالدم ، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجمع الناس فقال : (( أنشد الله رجلاً فعل ما فعل ، لي عليه حق إلاّ قام )) ، قال : فقام الأعمى يتخطى الناس ،وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أنا صاحبها ، كانت تشتمك ، وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي ، وأزجرها فلا تنزجر و لي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ، وكانت لي رفيقة ، فلما كان البارحة ، جعلت تشتمك وتقع فيك ، فأخذت المغول ، فوضعته في بطنها ، واتكأت عليها حتى قتلتها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ألا اشهدوا أنَّ دمها هدر )) (34) .

    إن المنكر الذي وقعت فيه هذه المرأة ،إنما هو كفر صراح ، وقد زجرت عنه مراراً ، ومثل هذا يستباح به الدم ، فإن شتم النبي صلى الله عليه وسلم ، والجهر بذلك ، والإصرار عليه ، بعد الزجر ، مما لا تحتمله نفس من في قلبه ذرة من إيمان ، وكذلك الاستهزاء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والجهر بذلك ، والإصرار عليه .

    والصحابي قد أعلن بقوله : ( ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ، وكانت لي رفيقة ) أنه ما قتلها لأمر به متعلق ، وإنما احتساباً لوجه الله ، وغضبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

    أما إن كان المنكر في غير أهله، وفي من ليس له عليهم ولاية خاصة ، فإن تغيير المنكر باليد ، يحتاج إلى إذن ولي الأمر المقيم شرع الله تعالى ، وتغييره باللسان إن كان أهلاً له لا يحتاج وله أن يتركه لمن هو أعلم به منه ، إن علم أنَّ غيره هذا قائم بذلك ، والأولى السعي إلى من يظن أنه أعلم ، وأقدر ، وأولى ، فيخبره ليغير ما رآه من منكر ، إن كان ذلك المنكر ، مما يحتمل تأخير تغييره قليلاً ، فيكون بسعيه إلى من هو أقدر وأعلم بالتغيير قائماً بتغيير المنكر أيضاَ ، ويبقى من بعد ذلك عليه مؤازرة أهل العلم والاحتساب ،وتكثير سوادهم ، وحمايتهم ، والدفع عنهم ورعايتهم في أهلهم ، إن أضيروا ، والدعاء لهم 00 فكل ذلك من صور التغيير .

    أما إن كان المغيِّر من أهل العلم ، والإمامة ، المشهود لهم في هذا من الصالحين ، وكان ولي الأمر الأعلى مقيماً شرع الله تعالى ، فإنَّ تغييره المنكر في غير أهله بيده يحتاج إلى إذن من ولي الأمر ، إذا ما كان هذا التغيير مرتباً عليه إيذاء في نفس صاحب المنكر ، أما إن كان الضرر واقعاً على ما هو خارج عن نفسه فللعالم الثقة أن يغير المنكر في غيره أهله ، دون إذن خاص من ولي الأمر ، لأن ولي الأمر المقيم شرع الله تعالى ، يأذن ضمناً للعالم الثقة ، أن يغير المنكر بيده فيما لا يتعلق بالأنفس ، وكذلك تغييره المنكر بلسانه ، لا يحتاج فيه العالم من ولي الأمر ، المقيم شرع الله ، إذناً خاصاً ، لأن علمه وإمامته والشهادة له بذلك من أقرانه من أهل العلم ، إذنُُ عامُُ ، بأن يغير المنكر بلسانه ، بل هو أول من يفرض عليه ذلك التغيير ،وليس لأحد أن يمنعه من ذلك ، متى حقق آداب التغيير باللسان.

     

    أما تغييره بالقلب ، فذلك ما لا يستأذن فيه أحدُُ من أحد أبداً ، فهو فريضة لا تسقط إلا بسقوط التكليف .

    وإن كان ولي الأمر الأعلى لا يحكم بشرع الله تعالى ، أو يخلط به ما يشرعه لنفسه ، فيأخذ ببعض الشرع في أبواب ، ويتركه في أبواب أخرى ، فإن الأمر يختلف :

    إن كان المُغَيِّرُ من العامة ، فله أن يغير المنكر بلسانه ، حين يكون قادراً عليه سواء كان المنكر واقعاً من أهله ، ومن له عليهم ولاية ، أم من غيرهم ، شريطة الالتزام بآداب التغيير باللسان .

    ولا يحتاج إلى إذن ولي الأمر ، الذي لا يقيم شرع الله تعالى ، فإن منعه امتنع متى كان في الأمة من يقوم به سواه . ويبقى عليه مؤازرة أهل العلم في هذا ومناصرتهم ، والدعاء بنصر الحق وأهله .

    وله أن يغير المنكر بيده حين يكون قادراً عليه ملتزماً بشروطه وآدابه ، فيما لا يتعلق بالأنفس . والأعلى والأحب إلينا ، أن يكون ذلك منه في صحبة مغير من أهل العلم . أو يسعى إلى من هو أقدر وأولى فيخبره ، ويؤازره ، ويشد من عضده ، لتكون لأهل العلم المحققين شوكة في وجه ولي الأمر ، الذي لا يقيم شرع الله تعالى ، فإنه إذا رأى لهم شوكة ، خضع للحق ، الذي يدعون إليه .

    وإن كان المغير من أهل العلم المشهود له به فإن تغيير المنكر بلسانه لا يحتاج إلى إذن من ولي الأمر الذي لا يقيم شرع الله تعالى ، وإن منعه ولي الأمر فله ألا يمتنع ، بل يصابر ويجالد ، لأنَّ هذا حق الله عز وجل كلَّف به أهل العلم وليس لولي الأمر ، أن يمنعهم من أداء حق الله تعالى : (( إنما الطَّاعة في معروف )) (35) .

    وما يفعله بعض الولاة من إيجاب استئذان العالم في الدعوة إلى الله في بيوت الله ، إنما هو بغي وعدوان على حق أهل العلم، فإنَّ من تحققت فيه آيات العلم والصدق ، كان في تكليف الله له بالبيان ، إذناً إلهياً ، لا يصادره أحد متى التزم بأدب الدعوة إلى الله تعالى وقال كلمة الحق احتساباً .

    أما تغيير العالم المنكر بيده ،فيما لا يتعلق بالأنفس ، فلا يحتاج إلى إذن من ولي الأمر ، الذي لا يقيم شرع الله ، لأنه بالضرورة لن يأذن لأحد ، وهو حين أعرض عن شرع الله تعالى ، فلم يحكم به رعيته ، قد أسقط حقَّ نفسه عليهم في طاعتهم له . فللعالم تغيير المنكر بيده ، فيما دون الأنفس ، دون إذن هذا الولي إذا ما حقق آداب وشروط التغيير باليد.

    وللعالم أيضاً أن يأمر غيره ممن هو قادر عليه ، أن يغير المنكر بيده ، تحت رايته

    وعلى العامة مناصرة العلماء في هذا والوقوف معهم والدفع عنهم ، والدعاء لهم.

    وكل ما قلناه في تغيير المنكر باليد ، إنما هو حين يعلم به ولي الأمر ، أو من ينوب عنه ، ثمَّ لا يقوم بالتغيير ، أو لا يأمر أحداً بتغييره من ولاته ، فإن كان ممن يقوم هو بتغييره أو يأمر من يغيره إذا ما بلغه ذلك ، وتحقق منه فليس لأحد أن يتجاوز إذنه في تغيير المنكر باليد ، لأن ذلك حق ولي الأمر، لا يسقط منه ولا يتجاوز إذنه ، إلا إذا تركه وأسقطه بالتغافل عنه أو الزعم بأن هذا من الحرية الشخصية ، التي لا يسمح لنفسه الاعتداء عليها . في الوقت الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها إذا مسَّه أحد بما يكره ، من قول أو فعل . وصدق الشاعر قائلاً :

    يقاد للسجن من سَبَّ الزعيم ومن

    سَب الإله فإن الناس أحراراً

    · ويشترط في المغير شروط أخرى ، منها ما سبقت الإشارة إليه تحقق العلم بنكارة ما يريد إنكاره ، عند جمهور العلماء ، فإن لم يتحقق ، وعلم أنَّ فيه اختلافاً ، ممن يوثق باختلافهم ، ويعتد به ، فإنه لا يجب عليه التغيير ، بل يكتفي بالدعوة إلى ما هو الأسمى والأرجح ، مبيناً لمن شاء وجه رجحان ما يدعو إليه .

    ويشترط فيه العلم بطرائق التغيير ، وأحكامها ، وآدابها ، ومن جهل شيئاً من هذا وجب عليه أن يسعى إلى من يعلمه ، ثم يقوم بالتغيير ، ولا يستكين إلى أنه لا يعلم ، فعليه أن يغير جهله بذلك ، إلى العلم به ، متى كان في قومه من يعلمه ، وقد تيسر العلم في زماننا لمن شاء .

    ويشترط في المغير أيضاً ، أن يكون قادراً على التغيير ، فإن عجز عن طريق ، انتقل إلى ما دونه وسعى إلى أن يرفع عن نفسه أسباب عجزه ، عن القيام بالطريق الأعلى . فإن المسلم لا يليق به أن يرضى بالدنية ، فيما يتعلق بشؤون دينه وآخرته ، وليكن حرصه على الأعلى في هذا ، لا يقل عن حرصه عليه في شؤون دنياه .

    ولا يشترط في المغير أن يتيقن أن تغييره المنكر مفض إلى أثر ، فيمن يغير منكره ، فليس عليه أن ينظر تقبل وعظه ، أو الاستجابة لأمره ونهيه ، فإن الله عز وعلا ما كلفنا أن يكون لدعوتنا أثر في الآخرين : ( فإن أَعْرضُوا َفمَا أَرْسَلنَاكَ عَلَيهمْ حفيِظاً إن عَلَيْك إلاّ البَلاغ ُ ) ( الشورى : 48 ) .

    وقد كان النبي في الأمم الغابرة ، يقيم في قومه ، فلا يستجيبُ له إلا قليل ، أولا يستجيب له أحد . (( عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عُرضت عليَّ الأمم ، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط ، والنبي ليس معه أحد )) (36) .

    بيان الواقع في المنكر : شروطه وأحواله

    لما كان التغيير ، إنما هو واقع على منكر محقق ، يقوم به واحد من الناس ، فإنَّ ذلك الواقع في هذا المنكر لا يشترط لتغييره أن يكون مكلفاً ( عاقلاً ، بالغاً ) ، بل كل منكر يقع من أحد ، يكون ذلك الفعل منكراً في حقه ، أو حق من هو مثله ممن ليس له فيه رخصة ، فإنه يجب تغييره.

    المجنون يمنع من إتلاف ماله ، أو مال غيره ، وكذلك الصبي ، وإن كان كلاهما غير مكلف .

    والكافر البالغ العاقل ، يرجع تغيير منكره الواقع منه ، إلى نوع ذلك المنكر ومحله.

    إن كان منكره مما ليس منكراً في دينه ، ولا يتعلق به حق مسلم ، فلا يجب على أحد تغيير هذا المنكر ، لأن كفره هو نفسه أعلى المنكرات ، ولا يجب على أحد أن يمنعه منه ، بل ولا يصلح لأحد أن يكرهه على تركه .

    وإن كان منكره مما هو منكر في دينه ـ أيضاً ـ وإن تعلق به حق غير مسلم فلا يجب على أحد أن يغيره ، إلا إذا تحاكم إلينا ، فيحمل على ما يحكم به الإسلام الذي احتكم إليه .

    فإن تعلق بحق مسلم ، وجب منعه منه ، وإنزاله على ما يقضي به الإسلام ، حفاظاً على حق المسلم ، أو حق الأمة والدعوة .

    وإن كان صاحب المنكر مسلماً مكلفاً ، فيشترط فيه التيقن أنَّ ذلك الفعل منكر في حقه عند جمهور أهل العلم ، فإن كان فيه خلاف ، وهو على ما كان مرجوحاً ، فلا يجب على أحد تغييره ، بل ينصح إلى الأعلى بالحكمة .

    والمسائل في هذا الباب كثيرة ، مما يستوجب على القائم لتغيير منكر ما ، أن يعلم موقعه من باب ما اختلف الأئمة في حكمه .

    وقد يكون ما فعل منكراً في نفسه عند جميع العلماء ، إلا أنه في حقه خاصة ليس منكراً ، لوجود رخصة له ، ترفع عنه نكارة هذا الفعل ، كمن أفطر في رمضان لعذر ، أو غطى رأسه في الطواف لعذر 000 إلخ .

    فإن كان فعله ما حَرُم ، لضرورة شرعية ، فإنه يُسعى إلى رفع الضرورة عنه لا أن يمنع من ذلك المحرم ، فإن أزيلت أسباب الضرورة ، وبقي على منكره غُيّر عليه بالسُبل التي حددها الإسلام 00 فكان فقه حال ذي المنكر ، من ركائز شخصية المغيِر ، وركناً ركيناً من مسؤوليته

    كلمات مفتاحية  :
    فقه تغيير المنكر

    تعليقات الزوار ()