أعظم أسباب السعادة وأهمها على الإطلاق الإيمان بالله تعالى.. يقول ربنا جل في علاه : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيِنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ } [ النحل: 97 ].. فذاك وعده - سبحانه وتعالى- لمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة الهانئة السعيدة في الدنيا وكذلك الجزاء الحسن في الآخرة .
بعيد عن الصراع
المؤمن وحده هو الذي يعيش في سلام.. سلام مع كل مَن حوله.. فالإنسان إذا ما آمن سُكِبت السكينة في قلبه.. وأشرق النور في وجهه.. وأُلهم الرضا عن قدره.. فهو يكتسب وحدانية نفسه.. فغيره يعيش موزعًا ممزقًا.. في صراعٍ دائم.. صراعٍ بين الروح والجسد.. بين العقل والقلب.. بين الدنيا والآخرة.. بين المثل والواقع.. صراع.. حيرة.. قلق.. إلى أين يتجه أإلى اليمين أم إلى اليسار؟!.. يفعل أم يترك..!! إنها الحيرة والقلق .
أما المؤمن فهو بعيد عن كل هذا.. إنه حيث جنة الإيمان .
عجبًا لأمره !!
إن حياته كلها خير.. كلها سعادة وهناءة.. مع قليل من المنغِّصات الظاهرة.. إنها حياةٌ مليئةٌ بالرضا.. انظر إلى الأحداث السعيدة في حياته يعيشها.. يبتهج بها.. يحمد ربه عليها.. أما الأحداث التعيسة قرينة الهمّ والغمّ.. فيلقاها بالصبر الجميل.. باليقين بأن هذا خيرُه قسَمَه ربُّه له.. محتسبًا أجرَه ومثوبتَه عند خالقه.. كل هذا مصداقُ قوله صلى الله عليه وسلم : ( عجبًا لأمر المؤمن.. إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن.. إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له.. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ) [ رواه مسلم ] .
الموازين تتبدل
فحينما تُشرق القلوب بنور الإيمان تتغير المحبوبات، وتتذوق الأرواح حلاوة الإيمان، فتأنس بربها عما سواه.. واللذة تابعة للمحبة.. فكلما كانت المحبة أتمَّ كانت اللذة أكمل.. [ مجالس الإيمان للدكتور علاء محرم ]
انظر معي إلى هذا العجب :
محمد بن النضر يجلس وحيدًا منفردًا.. يدخل عليه رجلٌ يجده هكذا فيسأله: أما تستوحش؟!.. فرد عليه قائلاً : كيف أستوحش والله سبحانه تعالى يقول: ( أنا جليس من ذكرني ) ؟!
الموازين تغيَّرت يا سادة.. فالخلوة التي تصيبنا بالملل والخوف.. صارت تجلب له السعادة والأنس.. فاللهم ارزقنا ما رزقتَ عبدَك محمد بن النضر .
وهذا الفضل يقول: " من كان أنسُه بالله لم تقطع عليه أكدار الحياة أنسَه "..
أين كدر الدنيا؟!.. أين الهم؟!.. أين..؟!.. أين.. ؟!.. كل هذا أيها الكريم ينقطع عند ما يمتلئ القلب بأُنس ربه.. فيصغر كل شيء أمام هذه اللذة.. وأما هؤلاء الذين يعيشون بعيدًا عن هذا..
فتجد أحدهم يحسُّ بوحشةٍ في نفسه.. يشكو ضيقًا.. فينصحه أصحابه من أهل الدنيا بالسفر وتغيير الجوّ.. أو سماع الموسيقى الهادئة.. أو كذا أو كذا.. فيفعل.. ولكن حالته لا تتحسَّن [ المصدر السابق ]
أتعرف لماذا لا يجد تحسُّنًا؟! لأنه وببساطة شديدة بعيد عن جنة الإيمان .
لكن.. لماذا نفتقدها ؟!
لماذا نفتقد مثل هذه الحلاوة في حياتنا ؟!
لماذا لا نشعر بحلاوة الإيمان في قلوبنا ؟!
أيها الحبيب.. إن أي شيء صعب في بدايته.. انظر معي في حياتك.. أتذكر كيف كانت بدايتك وأنت تتعلم قيادة السيارة ؟!
أو كيف كانت محاولاتك الأولى مع جهاز الحاسوب؟! أظنك تذكَّرت أن الأمرَ في بدايته صعب عسير.. ولكن مع مرور الأيام وتكرار المحاولات تجد نفسك تجيد الأمر.. بل والاستماع به.. وهكذا الحال مع العبادة.. ففي البداية تعب وإرهاق.. وبمرور الأيام تدخل اللذة القلوب حتى يغيب الإحساس بالألم والتعب.. بل إن الألم يصير في البعد عن العبادة .
تجربة عشناها ..
هيا نتذكر تجربتَنا الأولى مع صلاة الفجر.. حيث التكاسل في الاستيقاظ.. والذهاب إلى المسجد بصعوبة وثقل.. ثم ما حالنا الآن؟!.. أُحس بما تريد قوله أيها القريب من القلب.. إنها لذة صلاة الفجر يا سيدي.. هذه اللذة التي صارت تملأ القلب والوجدان.. هذه اللذة التي تجعلك تستيقظ بهمة ونشاط.. بل إن الأيام التي لا نصلي فيها الفجر تكون أيام إرهاق وتعب في الجسد وكدر في القلب .
اقرأ.. تدبر.. اعمل
قال تعالى : { الَّذِيْنَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد: 28 ]
وقال : { الَّذِيْنَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُوْنَ } [ الأنعام: 82 ]
وقال : { إِنَّ الَّذِيْنَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ الأحقاف: 13]
وقال صلى الله عليه وسلم : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً ) [ رواه مسلم ]
أخاطبك على قدر عقلك
يُحكى أن امرأةً من العابدات عثرت.. فانقطعت إصبعها.. فضحكت.. فقال لها من معها: أتضحكين وقد انقطعت إصبعك ؟!.. فقالت: أخاطبك على قدر عقلك.. حلاوة أجره أنستني مرارة ذكره . [ تهذيب مدارج السالكين للإمام ابن القيم الجوزية ] .
وهنا أسجِّل اعترافي.. إنني أعجز عن إيجاد كلمات أعبِّر بها عما أجده في نفسي الآن ..
هذا الذي نوَّر الله قلبه
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تمنطق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( انظروا إلى هذا الذي نوَّر الله قلبه.. لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب.. فدعاه حبُّ الله إلى ما ترون ) [ العبادة في الإسلام لفضيلة الشيخ/ محمد عبد الله الخطيب ] .
وهنا السؤال :
ما الذي أخذ بقلب مصعب الخير وصرفه عما شبَّ عليه؟!
ما الذي زهَّده في الدنيا كل هذا الزهد ؟!
ما هذه اللذة التي جعلته يفارق كل لذات حياته من طعام طيب، وملبس فاخر، وطيب فوَّاح، ونساء تحت إمرته، وأم تحبه حبًّا جمًّا ؟!
ما الذي يجعل الممثل- والشهرة تلاحقه والأضواء تُسلط عليه والأموال تنهال عليه- يترك كل هذا ويذهب بعيدًا؛ حيث ذهب مصعب الخير، بعيدًا إلى جنة الإيمان؛ حيث لذة الروح.. وقرة الفؤاد.. ونور الوجه.. وبشاشة القلب.. إلى الأُنس بالله؛ حيث السلام.. السكينة.. السعادة.. الرضا.. اليقين.. الحب الطاهر.. الأمن.. الأمان ..
أسأل الله أن نكون جميعًا من أهل كل هذا ..
-------
* إمام وخطيب بوزارة الأوقاف – بمصر .
ومدير تحرير موقع أولادنا نت للأطفال .