الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
أخي الحبيب: كلنا ذوو ذنب، وكلنا ذوو خطيئة، وكلنا ذوو معصية، قال : { كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون }، والإنسان بطبعه ضعيف الإرادة وقد تغلبه نفسه ويضعف أمام الشهوات والمغريات ويميل إلى المعصية، فإذا رأيت أخي الحبيب من نفسك شيئاً من هذا الضعف ورأيت منها ميلاً إلى المعصية فتذكر قبل ارتكاب المعصية أن الله يراك ومُطلع عليك فهو العليم الخبير وهو السميع البصير قال تعالى: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة:77] ويسمع كلامك ويرى مكانك ويعلم سرك ونجواك، فهو سبحانه معك بعلمه واطلاعه فاحذر كل الحذر أن تجعل الله أهون الناظرين إليك
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً *** ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
واحذر أيضاً أن تكون ممن يراقبون العباد وينسون رب العباد، يخشون الناس وينسون رب الناس قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ [النساء:108] يستعظمون نظر المخلوق على هوانه ويستخفون ينظر الخالق مع علو شأنه.
فيا من تعصي الله، أي أرض تقلك وأي سماء تظلك إلا أرض الله وسماؤه، وأي مكان يحميك من أن يراك الله ويطلع عليك وينظر إليك فهو تعالى يراك، فاجعل له في قلبك وقاراً، وإذا حدثتك نفسك بالمعصية أياً كانت هذه المعصية فقل لها: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].
أخي الحبيب: قبل أن تعصي الله تذكر من أنت؟! من أنت أيها المسكين حتى تعصي إله الأولين والآخرين ورب العالمين؟! من أنت أيها الضعيف الذي لا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً ولا حولاً ولا طولاً حتى تعصي القوي العزيز الذي خضع له كل شيء، وملأت كل شيء عظمته، وقهر كل شيء ملكه، وأحاطت بكل شيء قدرته، تذكر من أنت ومن هو العظيم الذي تعصيه وأنت فقير محتاج إليه؟! وبقدر ما يعظم قدر الله في قلبك يعظم مكانك عنده قال تعالى: وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ [الحج:30].
أخي الحبيب: قبل أن تعصي الله تذكر نعمه الكثيرة عليك: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]خلقك الله من عدم، وشفاك من سقم، وأسبغ عليك وافر النعم، أطعمك من جوع وكساك من عُري، وأرواك من ظمأ قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34] فكيف يا عبد الله تبدل نعمة الله كفراً؟! وفضله وجوده عليك جحوداً ونكراً؟! كيف تقابل الإحسان بالنكران؟! والعطايا بالخطايا؟! كيف تعصي الله وأنت تتقلب في نعمه؟ وهل تعصيه إلا بنعمه فبأي وجه تلقى الله وقد أعطاك ومنحك وأكرمك ووهبك هذه النعم ثم تأتي وتعصيه بها؟! أما تخاف من عقابه؟ وتجزع من عذابه؟ وهو القادر على أن يسلبها منك كيفما شاء ومتى شاء، فكم من نعمة أسبغها الله على صاحبها فيدلها كفراً وأعقبها نكراً فكانت نهاية صاحبها خسراً، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17].
أخي الحبيب: يا من تعصي الله تذكر أنك تعصي الله في ملكه وفوق أرضه وتحت سمائه، فهل ترضى أنت أن تُعصى في بيتك وملكك وسلطانك؟! أما تخاف أن يطردك الله من رحمته ويحرمك من مغفرته بعد أن بارزته في مُلكه بمخالفته أوامره وارتكاب محارمه؟ أما تخاف أن يكون الرب المنتقم قد غضب عليك عندما تطاولت على حدوده وقدمت مرادك على مراده وقال: إذهب فبعزتي وجلالي لا أغفر لك أبداً. تأكل وتشرب وتضحك وتفرح وتمرح والله من فوق سماواته وعرشه غاضب منك ساخط عليك؛ فويل لمن كان له الويل وهو لايشعر!!
أخي الحبيب: تذكر أن الله شديد العقاب، وأنه عزيز ذو انتقام، ولا يُرد بأسه عن القوم المجرمين، وأنه يغار إذا انتهكت محارمه، وما أهلك الأمم السابقة إلا أنهم تعدوا حدود الله وانتهكوا حرماته وبارزوه بالمعاصي، وما من مصيبة تُلم بالعبد ولا عقوبة تقع عليه إلا بسبب بعض ذنوبه ومعاصيه ولو يؤاخذ الله العبد بكل سيئاته مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ [النحل:61] ولكنه سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة.. وما أكثر أولئك الذين اعتمدوا على رحمة الله تعالى وعفوه وكرمه وجوده فضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه، ونسوا أنه أيضاً شديد العقاب، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند، لأن حسن الظن بالله ورجاء العفو والمغفرة تنفع من تاب وندم وأقلع عن الذنب وبدل السيئة بالحسنة، أما من يرجو رحمة الله وهو لا يطيعه ولا يمتثل أمره فهذا من الخذلان والحمق.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس
وإن من أعظم الاغترار طلب دار المتقين المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، ويستحيل في حق الله العادل أن يساوي بين البَر والفاجر وبين المُحسن والمسيء قال تعالى: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28].
أخي الحبيب: تذكر يوم تشهد عليك الشهود وتفضحك فيه الجوارح والجلود! فأين يكون مهربك وإلى أين يكون الملجأ؟ والشهود منك والشهادة عليك، فتأمل يا مسكين!! تعصي الله بها ومن أجلها وتذود عنها، ثم تأتي يوم القيامة تشهد عليك! وتذكر أيضاً المكان الذي عصيت الله فيه يأتي يوم القيامة شاهداً عليك، وتذكر أن الزمان شاهدٌ عليك! وتذكر أن الله أرصد لك وبك ملائكة كراماً يرونك من حيث لا تراهم ويعملون ما تقول وما تفعل، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:12] ويوم القيامة يشهدون عليك، فأين المهرب من كل هؤلاء الشهود؟!
أخي الحبيب: تذكر الإحصاء والكتابة عندما يذوب قلبك كمداً وحزناً وينحرق أسفاً ولوعة عندما تُنشر صُحفك المطوية بأعمالك المخزية، أنت نسيتها ولكن الديان لا ينسى قال تعالى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].
لم ينسه الملكان حين نسيته *** بل سجلاه وأنت لاه تلعب
سترى هذه الأعمال حين تأتي ساعة الندم، حينما تذهب اللذات وتبقى الحسرات! حينما تذهب الشهوات وتبقى التبعات!
فتذكر كتاباً يبسط ويُنشر بين يديك وكل ما فيه لك أو عليك وتذكر أن كل لفظ تقوله وكل فعل تفعله وكل حركة تُصدرها مسجلة عليك وستراها يوم القيامة أمام ناظريك، فاعمل وقل ما يسرك أن تراه يوم أن تلقى الله يوم القيامة.
أخي الحبيب: تذكر الاستدراج من الله وأنه سبحانه يمهل ولا يهمل، فاحذر أن تكون من أولئك الذين أمدهم الله بالصحة والنعم وهم مقيمون على المعاصي والزلل ويحسبون أن لهم كرامة ومنزلة عنده وهم سقطوا من عينه وهانوا عليه، قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:56،55] فلا يغررك من الله طول حلمه عليك وستره إياك، فربما كان إمهاله لك مكراً بك واستدراجاً لك حتى تزداد بالإمهال إثماً فيزداد عذابك، واحذر أن يكون الله قد مكر بك في إحسانه لك فتناسيت، وأمهلك في غيّك فتماديت، وسقطت من عينه فما دريت ولا باليت.
تذكر الموت وسكرته، والقبر وظلمته، والميزان ودقته، والصراط وزلته، والحشر وأهواله، تذكر يوم القيامة يوم الحسرة والندامة الذي تكون دعوى الأنبياء وهو الأنبياء في ذلك اليوم ( نفسي نفسي لا أسألك إلا نفسي، اللهم سلم سلم )، فأي حال يكون حالك أنت؟ وأي مقال يكون مقالك في تلك اللحظات الرهيبة التي تأتي فيها وتحمل وزرك الذي بارزت الله به ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً، إنه موقف الذل والخزي، فبأي وجه تلقى الله وأنت قد خالفت أوامره وانتهكت حدوده، فهل أعددت الحجة وجهزت الجواب للسؤال.
أخي الحبيب: يا من تعصي الله، إن الله خلقك لغاية عظيمة ومهمة جسيمة، ولم يخلقك عبثاً، ولن يتركك سدى، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقد منحك الله الوقت، وأمهلك حتى تتزود فيه من الطاعات، فإذا بك ويا للأسف تنقلب على وجهك وتنكص على عقبيك فتبارزه بالذنوب والمعاصي وكلما طالت أيامك زادت آثامك وعظمت ذنوبك والديان لا ينسى، فاحذر أخي من أن تستمر في غيّك ولهوك وإعراضك إلى أن ينقضي زمن المهلة ويأتي زمن النقلة ولا تصحو إلا على صائح الموت يحدو، وهناك في موضع الندم ومكان الحسرة والألم عندما يهجم عليك الموت فينكشف عنك الغطاء وتقبل على الآخرة بما فيها من الأهوال العظيمة وتسكب العبرات ترجو الرجوع ولا رجوع، قال تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] فيا قبح الحال ويا بئس المآل.
أخي الحبيب: تذكر أنك عندما عصيت الله كأنك قد انهزمت في المعركة وخسرت الجولة مع أعدى أعاديك، ذلك العدو الذي لا يألوا جهداً في أن يرديك في الهاوية، قال تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:83،82]، فهل تريد أنت أن تكون من عباد الرحمن المخلصين فتنعم ببرد الطاعة ورضا الرب وتقاد إلى دار الجنان والسعادة والأمان؟ أم ترغب في أن تكون من أتباع الشيطان فتعيش في ظلمة المعصية وتُساق إلى دار العذاب والهوان والنيران؟
أخي الحبيب: إن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وهو عقبة كؤود ومرتقى صعب لا يتجاوزه إلا كل مخف من الذنوب والسيئات، فهل تريد الجنة وما فيها من النعيم وأنت على المعاصي مقيم؟ وهل تريد سعادة الدنيا والآخرة وأنت متنقل من معصية إلى معصية؟
تصل الذنوب إلى الذنوب وترجي *** درج الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدم *** منها إلى الدنيا بذنب واحد
أخي الحبيب: قد آن لك الآن أن تقلع وتتوب من كل الذنوب وأن تلتزم بالطاعة التي يُعزك الله بها والتي فيها سعادتك في الدنيا والآخرة أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16].
بلى والله قد آن.... قد آن.... قد آن....