بتـــــاريخ : 2/7/2009 5:26:30 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 2288 0


    الإعجاز في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د . منصور رحمانـي | المصدر : www.55a.net

    كلمات مفتاحية  :

    دأب المسلمون منذ مدة على البحث في إعجاز القرآن الكريم في مختلف الميادين التي تطرق إليها الكتاب الكريم، فكان هناك بحوث في الإعجاز البياني، والعلمي، والتشريعي، والغيبي، والنفسي ...وفي الجوانب المتعلقة بالنبي _ صلى الله عليه وسلم _ تناولت البحوث الأقوال النبوية الشريفة وما تضمنته من حقائق كشف عنها العلم الحديث، مثل أقواله في الصحة، وإخباره عن بعض الغيبيات، وحتى كتاب السيرة المطهرة لم يجاوزوا في أحسن الأحوال الإفادة من الأحكام الفقهية التي تضمنتها أحداث السيرة، في حين اكتفى الكثير منهم برواية الأحداث وتنقيحها، وهذه الجهود يشكر عليها أصحابها لما تكشف عنه من أحكام معتبرة للدين قد لا نجدها في صريح القرآن والسنة.

        فسيرته صلى الله عليه وسلم يستقي منها الدعاة أساليب الدعوة ومراحلها، ويتعرفون على ذلك الجهد الكبير الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيف التصرف أمام العقبات والصعوبات والموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن.

    - ويستقي منها المربُّون طرق التربية ووسائلها.

    - ويستقي منها القادة نظام القيادة ومنهجها.

    - ويستقي منها الزهَّاد معنى الزهد ومقاصده.

    - ويستقي منها التجَّار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها.

    - ويستقي منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات وتقوى عزائمهم على السير على منهجه والثقة التامة بالله عز وجل بأن العاقبة للمتقين.

    - ويستقي منها العلماء ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى، ويحصلون فيها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وأسباب النـزول وغيرها وغيرها من المعارف والعلوم.

    - وتستقي منها الأمة جميعاً الآداب والأخلاق والشمائل الحميدة[1].

      وإذا كان المسلمون قد أفادوا من السيرة المطهرة في دينهم فإنهم بحاجة أيضا للإفادة منها في دنياهم ، فلا تقل حاجتهم إلى دنياهم اليوم عن حاجتهم إلى الدين ، وهم في زمن سيطر فيه أعداؤهم على الدنيا وأصبحت مبادؤهم وقيمهم، ومقدساتهم مهددة.

       إن هذا العصر الذي تحول فيه العالم كله إلى مجرد قرية كونية بما وفرته وسائل الاتصالات الحديثة وما ترتب عن ذلك من ظهور ما يسمى بالعولمة التي فتحت كل شيء أمام كل شيء، وتنافست السلع والأفكار تعرض نفسها على المجتمع البشري، ليس لنا نحن المسلمين سلعة نعتز بها وننافس بها غيرنا، وإنما عندنا دين قويم ونبي عظيم هو كل ما نملك، فعلينا أن نعرف العالم بنبينا وعظمة نبينا مستغلين ما توفره لنا العولمة، خصوصا وأن العديد من عقلاء الغرب الحديث قد أشاروا إلى فضله على بقية الخلق كما هو الشأن مع صاحب كتاب الخالدون مائة الذي قال : وكان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ على خلاف عيسى عليه السلام رجلا دنيويا فكان زوجا وأبا وكان يعمل في التجارة ويرعى الغنم، وكان يحارب ويصاب في الحروب ويمرض ... ثم مات ..

       ولما كان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ قوة جبارة ، فيمكن أن يقال أنه أيضا أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ.

       وإذا استعرضنا التاريخ .. فإننا نجد أحداثا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين .. مثلا : كان من الممكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن اسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل سيمون بوليفار .. هذا ممكن جدا . على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل.

       ولكن يستحيل أن يقال ذلك عن البدو .. وعن العرب عموما وعن إمبراطوريتهم الواسعة، دون أن يكون هناك محمد – صلى الله عليه وسلم - .. فلم يعرف العالم كله رجلا بهذه العظمة قبل ذلك ..[2]

       وقبل الخوض في موضوع هذا الإعجاز لابد من بيان معنى الإعجاز والمعجزة والفرق بينهما ، والوجوه التي نبحثها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع التفريق بين المعجزة والكرامة وما لا يعد كذلك .

       مفهوم المعجزة :

         أمر خارق للعادة يظهر على يدي مدّعي النبوة ، مقرون بالتحدي ، سالم عن المعارضة بالمِثْل.

    وكلمة أمر خارق للعادة : معناها ليس من عادة البشر فعل هذا الشيء كتفجّر الماء من يدي رسول الله . مقرون بالتحدي : معناها أي يتحدى بها النبي على نبوّته .

    سالم من المعارضة بالمثل : معناها لا أحد يستطيع أن يأتي بمثلها. كالذي حصل مع سيدنا موسى لم  يستطع سحرة فرعون أن يأتوا بمثل ما أتى به موسى .

    يظهر على يدي مدّعي النبوة : معناها فما كان خارقا للعادة لكنه لم يقترن بدعوى النبوة كالخوارق التي تظهر على أيدي الأولياء أتباع الأنبياء فإنه ليس بمعجزة بل يسمى كرامة ولكن تسمى معجزة للنبي الذي يَتَّبِعْه هذا الولي لأنه لولم يسلك طريق هذا النبي لم يصل إلى هذه الكرامة .

        ونصل مما تقدم إلى أن المعجزات خاصة بالأنبياء عليهم السلام، وما دام أن قائمة الأنبياء قد ختمت منذ خمسة عشرة قرنا فلا سبيل إلى ظهور معجزات على أيدي غيرهم مهما بلغوا من الورع والصلاح، فإذا شفي مريض بلمسة من شخص آخر فليس ذلك بمعجزة ، وإذا نجا شخص من موقف عادة ما يكون فيه الموت مؤكدا فليس ذلك بمعجزة أيضا .

       وأما الإعجاز في حياته - صلى الله عليه وسلم - فنعني به أنه حقق بجانبه البشري في وقت وجيز ما عجز عنه غيره من البشر سواء كانوا أنبياء أو قادة أو زعماء ، وهذا يشير بوضوح إلى تفضله على غيره، وأنه الأولى بالتقليد والإتباع، وهذا الجانب لا نستدل به على صدقه بقدر ما نستدل به على عظمته، وهذه العظمة تقود فئات من الناس إلى اتباعه في كل أقواله مطمئنين إلى أنه أفضل قدوة، وأفضل من يتبع ، فأقواله هي أصح وأصدق الأقوال، وأفعاله وأحكامه هي أعدل الأحكام ، وتشريعه أفضل تشريع، ودينه أفضل الأديان، ومن جانب آخر فإن الغرض من هذا البحث هو استخلاص المعاني التي تمنح صاحبها التفوق والنجاح في التغيير.

        صحيح أن الرسل قد أيدهم ربهم بالوحي والمعجزات، وربهم واحد، ودينهم واحد، ورسول الوحي إليهم واحد، لكنهم يختلفون في جوانبهم البشرية، ولعل هذه الجوانب هي التي تفسر اختلافهم في درجات الاستحواذ على عقول الناس، فنجد منهم من أوصل رسالته إلى الآفاق البعيدة وامتدت في طول الزمان وعرضه كما هو الشأن بالنسبة لصاحب المقام المحمود - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من ظلت شريعته محصورة على نطاق ضيق، فقد يزود القادة في معاركهم بنفس العدد والعدة ولكن النصر لا يكون حليف الجميع.

       وتحفل السيرة النبوية الشريفة بأنواع كثيرة من الأحداث والمعاني التي يمكن اعتبارها المفاتيح الحقيقية للتغيير، ولكن السؤال الذي تصعب الإجابة عنه هو، ما هي تلك المعاني ؟ خصوصا وأن حياته - صلى الله عليه وسلم - مفعمة بالحيوية والنشاط، وهو يتصرف في حياته تارة باعتباره نبيا، وأخرى باعتباره حاكما قاضيا، وتارة ثالثة باعتباره إنسانا عاديا، ثم من أين تؤخذ المعاني التي نفتش عنها، هل تؤخذ من لباسه وهيئته، أو من أقواله وتصرفاته، والناس يختلفون اليوم في ذلك اختلافا كبيرا كما اختلف بعض الصحابة - رضي الله عنهم - في فهم السبب الموجب للجنة، عندما قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فبعضهم كان يركز على هيئته الحسنة، وبعضهم الآخر على قيامه ليلا، وبعض ثالث على الصيام، وغير هؤلاء فكروا  في أمور أخرى، ولكن الحقيقة شيء آخر. عن أنس بن مالك قال : كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :  يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة ، فطلع رجل من الأنصار ، تنظف لحيته من وضوئه ، قد علق نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى ، فلما كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضا ، فطلع ذلك الرجل مثل حالته الأولى .

       فلما قام النبي ، تبعه عبد الله بن عمرو فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت ! قال : نعم .

       قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك  الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئا ، غير أنه إذا تعار - تقلب في فراشه - ذكر الله عز وجل حتى ينهض لصلاة الفجر قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا .

       فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله . قلت : يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة . ولكني سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات : يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة ، فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن آوي إليك ، فأنظر ما عملك فأقتدي بك ، فلم أرك عملت كبير عمل !! فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت . قال عبد الله : فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه . فقال عبد الله : هذه التي بلغت بك !![3] .

         أقوال المنصفين المحدثين في النبي – صلى الله عليه وسلم -

       أحب أن أشير في هذا المقام إلى المكانة التي يحتلها النبي _ صلى الله عليه وسلم _ في عقول المنصفين من غير المسلمين حتى نعرف أن إنجازاته تستحق التعريف بها والدعوة من خلالها :

    1 – مهاتما غاندي :

       أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر

     

    صورة للزعيم والفيلسوف الهندي غاندي

     ... لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته و صدقه في الوعود و تفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه و رسالته هذه الصفات هي التي مهدت الطريق و تخطت له المصاعب و ليس السيف، بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي آسفا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة .

       2 – راما كريشناراو :

           لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها . ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة . فهناك محمد النبي ، ومحمد المحارب ، ومحمد رجل الأعمال ، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء ، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا.

        3 – المفكر الفرنسي لامارتين :  

     

    صورة للمفكر الفرنسي لامارتين

       إذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة لذلك رغم قلة الوسيلة ، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – في عبقريته ؟ فهؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة وسنوا القوانين وأقاموا الإمبراطوريات ، فلم يجنوا إلا أمجادا بالية لم تلبث أن تحطمت بين ظهرانيهم ، لكن هذا الرجل لم يقد الجيوش ويسن التشريعات ويقيم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروض الحكام فقط ، وإنما قاد الملايين من الناس فيما كان يعد ثلث العالم حينئذ . ليس هذا فقط ، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة...

        هذا هو محمد – صلى الله عليه وسلم – الفيلسوف ، الخطيب ، النبي ، المشرع، المحارب ، قاهر الأهواء، مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة ، بلا أنصاب ولا أزلام، هو المؤسس لعشرين امبراطورية في الأرض، وإمبراطورية روحانية واحدة، هذا هو محمد– صلى الله عليه وسلم .

        بالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل : هل هناك من هو أعظم من النبي محمد– صلى الله عليه وسلم – ؟ . 

       4 – مونتجومري :

        إن استعداد هذا الرجل لتحمل الاضطهاد من أجل معتقداته، والطبيعة الأخلاقية السامية لمن آمنوا به واتبعوه واعتبروه سيدا وقائدا لهم، إلى جانب عظمة إنجازاته المطلقة ، كل ذلك يدل على العدالة والنزاهة المتأصلة في شخصه ، فافتراض أن محمدا مدع افتراض يثير مشاكل أكثر ولا يحلها، بل إنه لاتوجد شخصية من عظماء التاريخ الغربيين لم تنل التقدير اللائق بها مثل ما فعل بمحمد .

       5 – الدكتور زويمر :

       إن محمدا كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين ، ويصدق عليه القول أيضا بأنه كان مصلحا قديرا وبليغا فصيحا وجريئا مغوارا ، ومفكرا عظيما ، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات ، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء .

       6 – برنارد شو :

        إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد ، هذا النبي الذي وضع دينه دائما موضع الاحترام والإجلال فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالدا خلود الأبد، وإني أرى كثيرا من بني قومي قد دخ

     

    صورة للفيلسوف  البريطاني برنارد شو

    لوا هذا الدين على بينة ، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوربا) .

       إن رجال الدين في القرون الوسطى ، ونتيجة للجهل أو التعصب قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة ، لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية ، لكني اطلعت على أمر هذ الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوا للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية ، وفي رأيي أنه لوتولى أمر العالم اليوم ، لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها .

       7 – تولستوي :

        يكفي محمد فخرا أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة ، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم ، وأن شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة[4].

          هذه نماذج من أقوال المنصفين الغربيين في النبي محمد – صلى الله عليه وسلم –

     وقبل البحث في أسباب الإعجاز في حياته - صلى الله عليه وسلم - لا بد من الحديث أولا عن مظاهر ذلك الإعجاز، فبها يمكن أن نضع أيدينا على العوامل الحقيقية والأسباب التي أعجز بها النبي - صلى الله عليه وسلم - غيره من الناس.

       مظاهر الإعجاز في حياته - صلى الله عليه وسلم - :       

        لو أجملنا لقلنا إنه حول العرب من النقيض إلى النقيض في زمن قصير وبأقل التكاليف ، كانوا أعداء فأصبحوا إخوانا ، كانوا يعبدون آلهة كثيرة فأصبحوا يعبدون إلها واحدا خالقا ، كانوا أميين فأصبحوا متعلمين ، كانوا قبائل كثيرة متحاربة فأصبحوا دولة واحدة ،كانوا متخلفين عن الأمم المجاورة لهم فأصبحوا متقدمين عنها .

    وأمَّة العُرب كم كانت مخلفة     والفرس والروم في ملك وفي حشَم

    ما كان يخطر بالألباب يومئذ     أن المـوازين قد تهـوي  وتنهدم

    ليصبح البدو في مجد وفي بذخ     والروم والفرس في وحل وفي أكَم

       ولو أردنا تفصيل تلك الدلائل فسنكتفي بهذه النماذج وفي الإشارة ما يغني عن العبارة :

    1 – نقل العرب من الفرقة والعداوة إلى الوحدة والمحبة : كانت بلاد العرب قبل الإسلام قبائل متنافرة متناحرة تتبع بأنعامها مواطن الكلإ والماء، يأكل قويها ضعيفها، ويغزو بعضها بعضا، وقامت بسبب ذلك حروب كثيرة عرفت بأيام العرب، على غرار حرب البسوس وحرب داحس والغبراء وحرب الفجار وغيرها .. وكانت دولة الفرس في الشمال ودولة الروم في الغرب وحتى الأحباش في الجنوب يستغلون هذا الوضع لإحكام سيطرتهم، وفرض الضرائب على العرب، ولم يكن الفكر العربي في تلك المرحلة يرقى إلى مستوى التفكير في إقامة دولة أو مجتمع أو حضارة كما هو الشأن عند الأمم الأخرى، ولم يمض من عمر الإسلام أكثر من عشر سنوات حتى أعلن النبي – صلى الله عليه وسلم – قيام المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ليعرف العرب عندها أول دستور في حياتهم، وانتقلت العاصمة إلى يثرب، ولم يكن قيام هذه الدولة هدفا في حد ذاته، بل كان هدف مؤسس هذه الدولة أبعد من ذلك بكثير، لقد كان هدفه تكوين حضارة جديدة تمتد في طول الزمان وعرضه، تقوم على كلمة التوحيد والمباديء الإنسانية السامية، ووجود أجناس مختلفة، وألوان مختلفة ضمن أفرادها الأوائل وما تضمنته نصوص الوحي من عبارات تأمر بالمساواة بين الجميع إشارة صريحة إلى ذلك .

       ولم تكن هذه الوحدة مجرد شعارات ظاهرية ، أو نظاما مفروضا على الناس وهم له كارهون ، بل إنها امتدت عمقا لتعانق شغاف القلوب ، وذابت في ثناياها جميع الانتماءات العرقية والقبلية وتبدلت الكثير من المفاهيم التي كانت سائدة ، فلا فرق بين أبيض وأسود ، ولا بين فقير وغني ، ولا بين أمير ومأمور ، ولا بين شريف النسب ووضيعه ، وترك أمر الأفضلية للعمل الصالح فحسب ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )[5].

    – نقل العرب من الجاهلية والأمية إلى الحلم والتعلم :كانت العرب أمة أمية لا تعرف في عمومها القراءة والكتابة بشهادة القرآن الكريم ، كما كانت الجاهلية تتحكم في تصرفاتها ، وتغذي فيها معاني الثأر والظلم والتعسف على نحو قول عمرو بن كلثوم :

    ألا لا يجهلن أحـــد علينا      فنجهل فوق جهل الجاهلينا

    ونشرب إن وردنا الماء صفوا      ويشرب غيرنا كدرا وطينا

    وبعد فترة وجيزة من مجيء الاسلام وما صاحبه من إصرار محمدي على التعلم ببيان فضل المتعلمين، واعتبار التعلم فريضة دينية على كل مسلم لا تقل عن فريضة الصلاة و الصيام و ما فعله في غزوة بدر مع أسرى قريش و هي حادثة لم يعرف التاريخ لها مثيلا لا قبل ذلك و لا بعده، هاهي القراءة و الكتابة تنتشر فيهم و استطاعوا حل كل المشكلات التي أعيت سابقيهم فوضعوا النقاط على الحروف و استحدثوا الشكل و وضعوا علم العروض وعلم النحو و كل ذلك في فترة وجيزة، و من جهة ثانية حلت محل صفات الجاهلية أخلاق الحلم و الأناة و التدبر و انتشر بينهم التسامح و الإحسان على نحو قيس بن عاصم يخاطب امرأته :

    إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له   أكيلا فإني لست بآكله وحدي

    أخا طارقا أو جار بيت فإنني     أخاف ملامات الحديث من بعدي

    و سئل الأحنف بن قيس : ممن تعلمت الحلم ؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري رأيته قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه حتى أتى رجل مكتوف و رجل مقتول فقيل له : هذا ابن أخيك قتل ابنك ؟ فوالله ما حل حبوته و لا قطع كلامه ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي أثمت بربك و رميت نفسك بسهمك و قتلت ابن عمك ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوار أخاك و حل كتاف ابن عمك و سق إلى أمه مائة ناقة دية ابنها إنها غريبة ..و قال الأحنف : لست حليما لكنني أتحالم [6] . 

    3ـ من التبعية و الرعي إلى القيادة والإدارة : كان العرب قبل الإسلام متوزعين في تبعيتهم بين الفرس و الروم عدا قلة منهم كانت تعيش على الرعي والتجارة والغزو ، ولم يكن يخطر ببال أحد منهم أن يتحولوا إلى قادة فتوح وأساطين سياسة تنقل أقوالهم وأفعالهم كتب التاريخ في مشارق الأرض ومغاربها ، وحال عمر بن الخطاب قبل الإسلام وبعده خير شاهد على ذلك، ولقد استطاع النبي الكريم أن يحول جميع أصحابه إلى فاعلين في المجتمع من الخليفة إلى التاجر مرورا بالقادة والجنود، وبالتعبير المعاصر فإن الوعي السياسي كان سائدا فيهم ، كلهم يعرف المصلحة العليا ويراعيها في تصرفاته .

    لقد أحسن النبي إدارة الصراع مع قريش في مكة يوم كانوا ضعافا وفي المدينة عندما تحولوا إلى قوة ، وتمكن من تفادي ما كان يمكن أن ينتج عن الهجرة من أزمات ، وكذلك نجح أصحابه من بعده في حل العديد من المشاكل كما هو الحال في حرب المرتدين ، والفتوحات الإسلامية ، وما تمخض عنها من ظهور معاملات جديدة مع الأمم التي دخلت في الإسلام ، وكان ذلك كله بفضل القواعد التي تركها لهم النبي والتي لخصها غذاة وفاته في نقطتين هما كتاب الله وسنته – صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أصاب المسلمين ما أصابهم بعد ذلك بسبب التخلي عن الالتزام الصارم بتلك القواعد الذهبية .

    4 – أنه حقق كل تلك الأعمال العظيمة بأقل التكاليف : لقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم – كل ذلك في وقت قياسي وبأقل التكاليف ، على خلاف التحولات المعاصرة التي تكلف الكثير من الأنفس والأموال دون أن تتمخض عنها نتائج محترمة ، فإذا كان التحول سلميا فإنه يكلف المبالغ الخيالية من الأموال ، وأما إذا كان غير ذلك فإنه لا يتم إلا بإزهاق أرواح كثيرة ، أما النبي فقد كان أحرص الناس على حقن الدماء وعلى التيسير والأخذ بالأيسر، ولم تكلف عملية التحول الناجحة التي امتدت على مدى ثلاثة وعشرين عاما أكثر من ألف وثمانين قتيلا من المسلمين وأعدائهم على الرغم من أنه خاض ضد أعدائه ثمان وعشرين غزوة، والسر في ذلك أنه جعل حفظ الأنفس واحدة من أهم أولوياته ، فهو قد قبل بصلح الحديبية على ما قد يبدو فيه من جور، وقبل الفدية يوم بدر ممن ناصبوه العداء، وآذوه وجاؤا لقتاله، ومن مظاهر حرصه على الدماء ما حدث في فتح مكة، فهو قد حرص على عدم إعلام قريش حينما أراد الفتح لئلا تتجهز لذلك ويذهب في المعارك قتلى كثيرون، فقد خرج من المدينة ولا يعلم من أصحابه وجهته إلا امرأته عائشة وصاحبه أبو بكر الذي أمره بإخفاء الأمر ، فكان من يظن أنه يريد الشام، وظان يظن ثقيفا، وظان يظن هوازن ، وبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبا قتادة ابن ربعي في ثمانية نفر إلى بطن إضم[7] ليظن ظان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار[8] .

    وقد كان حامل لواء كتيبة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في طريق الفتح سعد بن عبادة فلما رأى أبا سفيان نادى : يا أبا سفيان ! اليوم يوم الملحمة ! اليوم تستحل الحرمة ! اليوم أذل الله قريشا ! فأقبل رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حتى حاذى أبا سفيان ناداه : يا رسول الله أمرت بقتل قومك ؟ سعد حين مر بنا قال : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ! اليوم تستحل الحرمة ! اليوم أذل الله قريشا ! و إني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس و أرحم الناس و أوصل الناس قال عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان : يا رسول الله ما نأمن سعدا أنه يكون منه في قريش صولة فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اليوم يوم المرحمة ! اليوم أعز الله فيه قريشا ! قال : و أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلى سعد فعزله وجعل اللواء إلى قيس بن سعد[9] .

    أسباب الإعجاز في حياة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ

    1ـ تحقيق الاستقامة في نفسه وإلزامها بما يلزم بها غيره : فقد كان قبل الإسلام يعرف بالصادق الأمين شهادة يشهد بها أعداؤه وأصحابه على حد سواء كما كان معروفا بالوفاء و السعي في مصالح غيره فعندما نزل عليه الوحي و شكا حاله لخديجة قالت : و الله لن يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، و تكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، و تعين على نوائب الحق[10] ، و عندما سأل هرقل أبا سفيان هل يغدر؟ قال أبو سفيان : لا[11] و لا شك أن هذه الأوصاف تسبق التعاليم إلى فتح القلوب فتحبه أو تحترمه و تكون مستعدة لأن تلتزم أمره وتجتنب نهيه فإذا أضيف إليها مشاركته الناس في الالتزام أمرا ونهيا في سرائهم و ضرائهم فهي إشارة أخرى لقيمة العمل في التغيير ، لقد حاصر المشركون المسلمين في شعاب مكة و منعوا عنهم الطعام و اللباس و الزواج وعرض بعض المشركين على النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بعض المزايا و لكنه أبى ذلك أشد الإباء، فأين هذا اليوم من حكام وملوك تطحن الأزمات شعوبهم و هم يعيشون في عالم آخر من البذح و الرفاهية وأين هذا من حكام وضعوا قوانين على الناس و استثنوا أنفسهم بالحصانة.

    لقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثالا صادقا للرجل العملي يأمر أصحابه أن يصدقوا القول بالعمل حتى قال : "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها يخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان جبة خردل"[12] ، وعندما أمر أصحابه بالصبر فإنه كان مثلهم الأعلى ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأكرمهم على الله لم يتنزل عليه نصر الله بسُنّة خارقة، بل كُذِّب وأُوذي واتُّهم بالسحر والجنون وشُجّ رأسه وكُسرت رباعيته وتألب عليه الأحزاب. ولكنه ظل صابراً محتسبا .ً

    وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على هذه الحقيقة، فها هو ذا خباب بن الأرث رضي الله عنه يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا"، ومع أنه طلب أمراً مشروعاً وهو الاستنصار والدعاء، إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قعد وهو مُحمرٌ وجهه، وقال: " قد كان من كان قبلكم لتُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه ...ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه ..وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله عزو جل والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون[13] .

    2ـ الحرص على تطبيق قوانين المصلحة العامة والالتزام با لحق مهما كانت النتائج : فلم يكن يقبل العفو في الحدود كالسرقة و القذف و غيرها حتى قال : تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب[14] ، و أما في الأمور الخاصة فكان يفضل العفو و أفضل مثال عن ذلك عفوه عن مشركي مكة يوم الفتح حين قال لهم : إذهبوا فأنتم الطلقاء ، و عفوه عن اليهودية التي وضعت له السم في الطعام ، و عفوه عن المنافقين الذين آذوه، ويغضب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ من أية محاولة لانتهاك هذه القاعدة ففي حديث المرأة المخزومية التي سرقت و كبر على أهلها قطع يدها توسط لهم عند رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أسامة بن زيد حب النبي ، فغضب النبي حتى احمر وجهه و قال : يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب فقال :إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها[15].

    كما كان – صلى الله عليه وسلم – حريصا كل الحرص على الالتزام بالحق مهما كان ذلك مكلفا، سواء كان ذلك متعلقا بالأفعال كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو بالأقوال كالشهادات ونحوها ، وهو بذلك يربي أصحابه على الصدق والخقيقة ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".[16] و عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم".[17]

    3ـ تنويع الخطاب حسب حال المخاطبين: حيث كانت كلماته و أحاديثه بمثابة الدواء و لذلك كان يصف لكل واحد منهم ما يناسبه فقد يكون ما يصلح للواحد منهم لا يصلح للآخر فعندما سأله رجل أي الأعمال أفضل قال : الصلاة على وقتها[18] وقال لآخر: إيمان بالله ورسوله[19] ، و لكن عندما سأله آخر أي الناس أفضل؟ قال :مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله[20]. و عندما حاول فضالة قتله مرتين وضع يده على قلبه فتحول إلى حبه، وعفا عن معاوية وعكرمة و أبى العفو عنه هبار بن الأسود و يدل هذا التنويع على فهمه للنفسيات و ما يصلح لكل منها ، كما يدل ذلك على أنه صاحب فراسة صادقة .

    4 – أعطى مفهوما جديدا للسلطة والحكم : فهو قد علم أصحابه أن المسؤولية أمانة ثقيلة لا تسند إلى من سألها ، لأن ذلك يعني أحد أمرين ، فإما أن سائلها لا يعرف حقيقتها و متطلباتها و إما أنه يعرف ذلك و هو يريد استغلالها ، و في كلتا الحالتين لا يصلح لتوليها فعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يارسول الله ألا تستعملني ؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال : يا أبا ذر ، إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها[21] ، و عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال : دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أمرنا عن بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال : إنا والله لا نولي هذا العمل أخدا سأله أو أحدا حرص عليه[22].

    ويترجم حقيقة الحكم كما جاء به الإسلام ما روي عن الربيع بن زيادة الحارثي أنه وفد على عمر بن الخطاب فأنس إليه عمر و أعجبته هيئته فشكا إليه عمر طعاما غليظا أكله فقال الربيع : ياأمير المؤمنين إن أحق اناس بطعام لين و ملبس لين لأنت ، فرفع عمر جريدة معه فضرب بها رأسه، و قال :أما و الله ما أراك أردت الله بمقالتك، ما أردت إلا مقاربتي ! ويحك هل تدري ما مثلي و مثل هؤلاء ـ جماهير الناس ـ ؟

    قال الربيع : ما مثلك و مثلهم ؟ قال عمر : مثل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم و قالوا له : أنفق علينا ! فهل يحل له أن يستأثر منها بشيء ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين قال : فكذلك مثلي و مثلهم ...

    ثم قال عمر : إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم و ليشتموا أعراضكم و يأخذوا أموالكم ! و لكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم و سنة نبيكم .

    فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي ليرفعها إلي حتى أقصه منه ! فقال عمرو بن العاص : أرأيت إن أدب أمير رجلا من رعيته أتقصه منه ؟ فقال عمر : و مالي لا أقصه منه و قد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقص من نفسه ؟ ، و كتب عمر إلى أمراء الأجناد : لا تضربوا المسلمين فتذلوهم! ولا تحرموهم فتكفروهم ! ولا تجمروهم[23] فتفتنوهم ! ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم ![24] .

    وهذا المفهوم الذي أعطاه النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ للسلطة و الحكم لا يوجد له نظير في العالم قديمه و حديثه و إنما ساءت أحوال المسلمين بعد ذلك حين أصبحت المسؤولية غنيمة يتوارتها الناس ...

    5 – إسناد المهمات إلى أصحاب الكفاءة: بمعنى أنه يستفيد من جميع الإمكانيات والطاقات المتاحة، فلقد ولى خالد بن الوليد قيادة في الجيش على حداثة عهده بالإسلام، وكلف معاوية بن أبي سفيان بكتابة الوحي، وأبوه كان من أشد المناوئين له، واليوم لا تسند المهمات السياسية والعسكرية إلا لأصحاب أقدميات معلومة، واتجاهات محددة، فلا يكون توزيع الوظائف على أساس الكفاءة والأهلية بمقدار ما يكون ذلك على أساس الولاء والانتماء، والكثير ممن يتحكمون اليوم في رقاب المسلمين وأموالهم ويلحقون بهم الهزيمة تلو الأخرى في شتى الميادين إنما جاؤا إلى مهامهم ومسؤولياتهم بطرق ملتوية، وعلى أساس حزبي أو جهوي أو مصلحي لا علاقة له بالكفاءة ، وفي الوقت ذاته أوصدت الأبواب الحديدية أمام أهل الكفاءة .

    7 – فتح القلوب قبل فتح البلدان : فلقد عرضت عليه السيادة و الملك و من شأن ذلك أن يختصر له الطريق لتبليغ الدعوة و لكنه أدرك بحصيف رأيه أن الوصول إلى حكم الناس بطريق مريب و إن فتح الكثير من السبل لنشر الدعوة إلا أنه لا يكون مؤهلا لفتح القلوب و لذلك فإنه جاء إلى التغيير من أبوابه فصابر معهم ، وأعطى للبشرية دروسا مثالية في كيفية التعامل مع الآخرين والتأثير عليهم أيضا، وما أرى علم التنمية البشرية الحديث إلا مأخوذا من سنته – صلى الله عبيه وسلم _ وهو القائل : إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم، وهو القائل لمعاذ عندما أرسله إلى اليمن : إياك وكرائم أموالهم ، وهو القائل : لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق.

     

    الملخص :

    لقد أصبح العالم اليوم مجرد قرية كونية صغيرة بفعل ما توفره وسائل الاتصال والإعلام الحديثة ، واكتسحت فكرة العولمة كل الحدود وتفتحت أمامها جميع الأبواب المغلقة ، وأصبح كل شيء مفتوحا أمام أي شيء ، سلعا وأفكارا وأديانا وتصورات ، والواجب على المسلمين اليوم أن يستغلوا كل ذلك في إيصال دينهم ومبادئهم إلى كل مكان أداء لواجب التبليغ.

    ويساعدهم في ذلك العلم الحديث وما صاحبته من نظريات اجتماعية ونفسية في الكشف للعالم عن عظمة وصحة المعلومات والمباديء التي جاء بها الإسلام ممثلة في القرآن الكريم والسنة الشريفة ، فطفق المسلمون يبحثون في الموافقات التي توصل إليها العلم الحديث مع نصوص الشريعة الغراء تحت مسمى الإعجاز العلمي ، ولقد أسلم بفعل ذلك الكثير من أرباب الفكر والنظر ، في الشرق والغرب، ومع ازدياد الكشوفات الحديثة المطابقة لما ورد في القرآن والسنة تنوع البحث في وجوه الإعجاز، إلى إعجاز علمي وآخر غيبي، وثالث نفسي وتشريعي وغير ذلك.

    وموازاة مع ذلك ظهرت دراسات محدثة تتناول سنن التغيير الاجتماعي وما يشترط لنجاحها ، وما تتطلبه عملية التغيير من نفقات وتضحيات ، وظهرت أقوال حتى عند غير المسلمين تؤكد أن فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك لا يمكن أن يقوم به غيره.

    وإذا كان الشيوعيون قد استطاعوا أن يصدِّروا أفكار وتخاريف ماركس ولينين وستالين على تواضعها ، واعتنقها رغم ذلك ملايين البشر ولا يزالون ، فإن البحث في موضوع التغيير في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – وما تميز به من خصائص في قلة التكاليف من جهة وعظمة النتائج من جهة ثانية ، بما يعني الإعجاز في فعله أثناء حياته ، وسيلة فعَّالة في التعريف بعظمة الإسلام ، وعظمة نبي الإسلام ، ومن شأن ذلك أن يدفع الكثير من الباحثين والمتأملين في سنن التغيير الاجتماعي إلى الإسلام ، إضافة إلى ما يوفره ذلك للمسلمين من تفقه في سبل الخروج من الحفرة التي هم فيها.

    وتعالج هذه المداخلة بعض المنجزات المعجزة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في الارتقاء بالبشرية ، وأسباب ذلك، ولا يزال الموضوع في حاجة ماسة إلى أبحاث أخرى تبحث في مظاهر التبدل في حياة العرب والمسلمين بعد الإسلام ، وأيضا في البحث عن الأسباب الكامنة وراء ذلك.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()