* مقدمة:
نظرا لأن عملية البحث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تعتبر حديثة نسبياً مقارنة بدراسات الإعجاز القرآني من الناحية البيانية أو البلاغية، فان هذه الورقة البحثية تعد من أوائل المحاولات لاستكشاف معالم طريق البحث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
إن هذه المحاولة البحثية تستند إلى ما ورد في العديد من الآيات القرآنية لتوضيح هذه المعالم، إلى جانب الخبرة البحثية التي توفرت لمقدم هذه الورقة في مجال دراسات وأبحاث الإعجاز العلمي، من أجل إرساء قواعد علم قرآني جديد يدخل تحت مظلة "علوم القرآن"، ونقصد به "الإعجاز العلمي".
أولا: مكانة العلم في القرآن الكريم:
1- أول ما نزل من القرآن الكريم هو قوله تعالى:
” اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم“
* ( اقرأ):هي أول كلمة نزلت من القرآن الكريم، لأنها هي مفتاح العلم والمعرفة.
* (خلق الإنسان من علق):وهذه تعتبر أول إشارة اعجازية نزلت في القرآن الكريم.
* (القلم):هو أداة ووسيلة التعلم الأساسية، وهو رمز لكل الوسائل التعليمية القديمة والمستحدثة.
2- القرآن الكريم يعلى من شأن العلم والعلماء:
* يقول تعالى: ” يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات“، (علو منزلة المؤمنين والذين أوتوا العلم).
* كما يقول تعالى: ” إنما يخشى الله من عباده العلماء“، (العلماء هم أكثر الناس خوفا من الله سبحانه وتعالى).
* كما يقول تعالى: ”شهد الله أنه لا اله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط“، (العلماء هم شهود الله في الأرض).
* ويقول تعالى: ” اتقوا الله ويعلمكم الله“، ( الربط مابين تقوى الله والتعلم).
3- الدلالات العلمية لأسماء بعض سور القرآن الكريم:
بالرغم من أن القرآن الكريم هو كتاب هداية للمتقين، مصداقا لقوله تعالى: ( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين)، فإننا ربما نندهش لو تأملنا أسماء سور القرآن الكريم، فمن القراءة الأولية لأسماء العديد من سور القرآن الكريم، يمكن أن يتضح لنا ما يلي:
أ- أسماء السور المرتبطة بالعلوم الكونية:
* وجود مجموعة من أسماء السور تشير إلى عالم الحيوان مثل سور: البقرة، الأنعام، العاديات (الخيول)، الفيل.
ثم تأتى العديد من الآيات القرآنية لتثير اهتمام المسلمين بعالم الحيوان، كقوله تعالى: ”أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت“.
* مجموعة أخرى من أسماء السور تشير إلى عالم الحشرات مثل سور: النحل والنمل والعنكبوت.
ثم تأتى العديد من الآيات القرآنية لتثير اهتمام المسلمين بعالم الحشرات، كقوله تعالى: ”وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون“.
* مجموعة من أسماء السور تشير إلى مواقع المدن وبعض المفردات المعمارية، مثل سور: الحجر وسبأ والأحقاف والبلد والكهف والحجرات والمائدة (الأثاث الداخلي).
ثم تأتى العديد من الآيات القرآنية لتثير تفكير المسلمين في شتى جوانب العمران والبنيان، كقوله تعالى:” وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه، ذلك من آيات الله“.
* مجموعة أخرى من أسماء السور تشير إلى عالم النجوم والكواكب والأبراج، مثل سور: المعارج والبروج والطارق (نجم الطارق) والشمس والنجم والقمر.
ثم تأتى العديد من الآيات القرآنية لتثير اهتمام المسلمين بهذه الكواكب والنجوم، كقوله تعالى:”ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج“، (ربط العبادات بالظواهر الفلكية).
* مجموعة أخرى من أسماء السور تشير إلى المواقيت والزمن، مثل سور: الفجر والليل والضحى والعصر والفلق والجمعة.
* سورتان تشيران إلى معالم الأرض ومعادنها، وهما سورتي: الطور (الجبل) والحديد.
وتثير بعض الآيات الكريمة انتباه المسلمين إلى المعادن كما في قوله تعالى: ”وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس“.
* اسم سورة واحدة تشير إلى أصل خلق الإنسان وهى سورة العلق.
* اسم سورة واحدة تشير إلى الزروع والثمار وهى سورة التين.
* اسم سورة واحدة تشير إلى الظواهر الجوية والمناخية، وهى سورة الرعد.
ب- أسماء السور المرتبطة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية:
* سورتان تشيران إلى الأعراق والأجناس البشرية، وهما سورتي قريش (رمز للجنس العربي) والروم (رمز للأعاجم).
* مجموعة سور تشير إلى أسماء الأنبياء والصالحين وقصصهم مع أقوامهم، وهو ما يمكن أن يدخل تحت مسمى علم السير والتراجم الشخصية، مثل سور: آل عمران ويونس وهود ويوسف وإبراهيم ومريم والأنبياء ولقمان ومحمد ونوح والقصص.
* اسم سورة واحدة "الشعراء".
* اسم سورة واحدة "القلم" أداة التعلم الأساسية.
ثانيا: موضوعات أبحاث الإعجاز العلمي:
من المعروف أن لكل علم مجالات وموضوعات معينة يهتم بها ويبحث فيها، فما هي موضوعات ومجالات أبحاث الإعجاز العلمي؟، وهل يوجد في القرآن الكريم ما يمكن أن نستنبط منه ذلك؟.
إن البحث والتدبر في بعض الآيات القرآنية قد أعاننا على تحديد موضوعات ومجالات أبحاث الإعجاز العلمي، وهو ما يوضح أحد جوانب عظمة القرآن الكريم الذي ينير دائما الطريق ويوضح معالمه لمن أراد أن يهتدي للحق الواضح المبين.
* يقول الله سبحانه وتعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (فصلت: 53).
* يقول الله سبحانه وتعالى: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } (الذاريات: 20-22).
* يقول الله سبحانه وتعالى:{ وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ}(الأنعام: 75).
من الآيات السابقة يمكن أن نستنبط بدقة متناهية موضوعات أبحاث الإعجاز العلمي، وهى:
1- الآفاق: ويقصد بها تحديدا الآيات الموجودة في الأرض والآيات الموجودة في السماوات، أي الكون الكبير.
2- الأنفس:ويقصد بها الإنسان (الكون الصغير)، سواء أكان ذلك يتعلق بالجسم البشرى أم كل ما يتعلق بالإنسان من العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ثالثا: مراحل اكتشاف الإشارة الاعجازية:
من جوانب عظمة القرآن الكريم أيضا أنه قد حدد بدقة المراحل التي يجب أن يسلكها الباحث في مجال الإعجاز العلمي، حتى يصل إلى اكتشاف ومعرفة الإشارة العلمية أو وجه الإعجاز في آيات القرآن الكريم أو أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ونستطيع أن نقول أن مراحل الطريق موضحة في آخر ثلاث آيات من سورة النمل،(الآيات من 91- 93)، ونفصلها فيما يلي:
1- { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ(91). (العبادة وإسلام الوجه لله)
2- وَأَنْ أَتْلُوَ ٱلْقُرْآنَ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ (92).(تلاوة القرآن (الآيات المسطورة).
3- وَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }(93).(رؤية ومعرفة الآيات المنظورة في الآفاق والأنفس).
إذن فالآيات الكريمة السابقة تحدد لنا بدقة متناهية ثلاث مراحل، يقطعها الباحث من أجل اكتشاف الإشارة الاعجازية في القرآن الكريم (أو السنة النبوية)، وهذه المراحل هي:
أ- العبادة وإسلام الوجه لله.
ب- تلاوة القرآن الكريم بتدبر وفهم.
ج- مرحلة رؤية ومعرفة الآيات في الآفاق والأنفس.
رابعا: من عوائق الرؤية والمعرفة (الصرف عن الآيات):
ومن عظمة القرآن الكريم أيضا أنه يبين لمن أراد أن يرى ويعرف آيات الله في الآفاق والأنفس، أنه من الممكن أن تتواجد أشياء إن فعلها لحالت بينه وبين رؤية الآيات وبالتالي معرفتها واكتشافها، وهو ما يتضح في قوله تعالى:
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } (الأعراف: 146).
وقيل أن ”الصرف“ هنا يقصد به: عدم فهم القرآن (الآيات المسطورة)، أو عدم التفكر فيخـلق السموات والأرض (الآيات المنظورة).
إن الآية الكريمة توضح أن "التكبر في الأرض بغير الحق" هو المانع الأساسي من رؤية الآيات، كما أن "التكذيب بالآيات" يؤدى إلى نفس النتيجة، وبالطبع فان "الغفلة عن الآيات" لا تجعل الإنسان ينتفع برؤيتها وبالاعتبار بها.
وهذا يعنى أن القرآن الكريم كما وضح مراحل طريق الوصول لرؤية الآيات ومعرفتها، فقد حذر أيضا من بعض الأفعال والسلوكيات (التكبر-التكذيب-الغفلة) التي تؤدى إلى حجب الرؤية وبالتالي المعرفة.
خامسا: سمات الباحث في مجال الإعجاز العلمي:
بصفة عامة فان الباحث العلمي يجب أن تتوفر فيه بعض الصفات، كالأمانة العلمية والمثابرة على البحث، وعدم استباق النتائج، إتباع منهج علمي واضح..وغيرها.
ونظرا إلى خصوصية وعلو منزلة البحث في مجال الإعجاز العلمي لارتباطه بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فلقد أوضح القرآن الكريم في بعض من آياته سمتين أساسيتين يجب توفرهما في الباحث في مجال الإعجاز العلمي، يمكن أن نستنبطهما من قوله تعالى: “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار“ (آل عمران:190، 191).
فيلاحظ أن الآيات الكريمة قد بدأت بمجال أو موضوعات البحث والتفكر، وهى هنا "خلق السماوات والأرض" أو "الآفاق"، ثم وصفت المهتمين والمتفكرين بتدبر هذه الآيات الكونية بأنهم "أولو الألباب"، وأخيراً حددت صفتين أساسيتين يتميز بهما "أولو الألباب"، ويجب أن يتوافرا أيضا في الباحث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وهما: الذكر (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم)، والفكر (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض).
أما بالنسبة للذكر فهو لا يقتصر على الأقوال فقط بل يدخل فيه أيضاً تلاوة القرآن لأنه أفضل الذكر، كما يدخل فيه الأفعال أي ذكر الله باللسان وبكل الجوارح الأخرى، وهذا بلا شك يحتاج إلى علم شرعي أو على الأقل خلفية شرعية صحيحة، لأنه لا فائدة من العمل بلا نية أو علم.
وأما بالنسبة للفكر والتفكر في الآيات الكونية فيحتاج إلى خلفية علمية، حتى يمكن فهم ما يرى على الوجه السليم والصحيح، واكتشاف ما فيه من جوانب عظمة الخلق والخالق.
وهذا يعنى أن الباحث تحديدا في مجال الإعجاز العلمي يمكن تشبيهه بالطائر، الذي له جناحان، الجناح الأول هو الذكر (خلفية بالعلوم الشرعية)، والجناح الثاني الفكر (خلفية بالعلوم الكونية) كل بحسب تخصصه.
ويضاف إلى كل ما سبق أن الباحث في مجال الإعجاز العلمي يجب أن يلتزم بالعديد من الضوابط، التي وضعها العديد من العلماء والخبراء في هذا المجال، وهى متاحة ومتوفرة في الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة لمن أراد أن يطلع عليها، في صورة أبحاث وكتب منشورة أو على الموقع الإلكتروني الخاص بالهيئة[1].