بسم الله الرحمن الرحيم
إخواني في الله:
أن تتصور حال الموتى فهذا نوع من التذكر المحمود لموتٍ موعود، كما قرر ذلك ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في صيد الخاطر حين قال: من أظرف الأشياء إفاقة المحتظر عند موته، فإنه ينتبه إنتباهاً لا يوصف، ويقلق قلقاً لا يحد، ويتلهف على زمانه الماضي، ويود لو تُرك كي يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف، ولو وجد ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل له كل مقصود من العمل بالتقوى، فالعاقل من مثّل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك، فإن لم يتهيأ له تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته، فإنه يكف الهوى ويبعث على الجد؛ لنعش لحظات مع هذا التذكر على منهج ابن الجوزي - رحمه الله - لحقيقة الموت في وقفات تسع.
- الوقفة الأولى: يا ليت قومي يعلمون.
- الوقفة الثانية: جار غير عزيز.
- الوقفة الثالثة: ولقد جئتمونا فرادى.
- الوقفة الرابعة: رفيقة الدرب.
- الوقفة الخامسة: ذبول وردة.
- الوقفة السادسة: في الاستراحة.
- الوقفة السابعة: ألا لله الدين الخالص.
- الوقفة الثامنة: هذه أموالي تقسم.
- الوقفة التاسعة: معالم النجاة.
تصور لو أن أهل القبور خرجوا من قبورهم، خرجوا بأكفان بالية، ووجوه مغبرة، خرجوا من سكون القبور وظلمتها إلى ضجيج الأرض وأضوائها، فركوا عيونهم، عركوا آذانهم، ثم انطلقوا في أنحاء المدينة أشباحاً مهيبة ليحدثونا عن هول ما رأوا، فماذا عساهم أن يقولوا بعد هول المطلع، وسؤال منكر ونكير، وحساب عسير، وكيف يا ترى سيكون حديث الأموات للأحياء.
الوقفة الأول: يا ليت والدي يعلم.
هذا فتى مات في ريعان شبابه، اختطفه الموت وهو أوسع الناس أملاً في العيش، وأكثرهم رجاءً في متاع الحياة الدنيا، مات على إسراف منه بالمعاصي، فماذا عساه أن يقول لأبيه المفرّط في تربيته لو لقيه في هذه الدنيا لعله أن يقول:
يا أبت لقد رأيت ثمار ذنوبي وهي آثار تربيتك، رأيت هذه الثمار ناراً تلظى، وجحيماً لا يطاق، يا أبت لقد كنت في حياتي تُعنى كثيراً بلباسي ومأكلي ومشربي ولكنك لم تكن تُعنى بقلبي وروحي، لقد أهملتني في بداية مراهقتي فلم توجهني إلى أصدقاء صالحين، لم تكن تهتم بمن أصاحب من أقاربي وجيراني وزملاء دراستي، لقد كانت فترة التأثير المثالي هي ما بين سن السابعة إلى سن الخامسة عشر، وكنت تعلم وقتها يا أبت أن هذه المرحلة هي مرحلة تصويب الولد نحو الهدف الصحيح، كنتُ أنا السهم وكنتَ أنت اليد والقوس والوتر، في هذه المرحلة كنا يا أبت نتلقن كل شيء، ونحب كل شيء، ونستطلع كل شيء، في هذه المرحلة كنا نقلب أنواع الأصدقاء في معرض الدنيا العريض، أيهم ننتقي، وأيهم نقتني، وأيهم نصاحب، كنا في هذه المرحلة العجيبة عجينةً غضةً طيـّعة تستطيع توجيهنا الوجهة الصالحة، يا أبت لكنك كنت وقتها تقضي أكثر أيام أسبوعك في الاستراحة مع الأصدقاء أو مع الزملاء أو مع الأقارب، وفي مرات كنت تتابع تجاراتك التي لم تزد من سعادتك بل أحالت وجهك البشوش إلى صحراء من العبوس والغبرة والتشاؤم، لم تكن يا أبت تهتم باهتمامات مباحة، لذلك كُنت أبحث عنها عند أيّ أحد مهما كان مقصده في توفيرها لي، ثم إنك جعلت علاقتي بك كعلاقة مدير مؤسسة فاشل بمرؤوسيه، كانت علاقة الغطرسة والرسمية حتى أصاب علاقتي معك جفافاً وجفاءً وفجوة فلم أعد أقبل منك توجيهاً ولا نصيحة بسبب هذا الجفاء، ياأبت لو أنك جعلتني صديقاً من أصدقائك لكان تأثيرك فيّ أكبر، ولكنك كنت تعتبر هذه الصداقة مع أولادك ضرباً من التنازل الذي لا يليق برئيس مؤسسة محترمةٍ على حد زعمك، يا أبت لو كنت أستطيع أن أقول غفر الله لك إهمالك في تربيتي لفعلت، ولكنني حينما فارقت هذه الدنيا بذنوب ثقيلة فإنني لا أملك أن أستغفر لنفسي من ذنب واحد من ذنوبي فكيف بذنوب غيري، ولكنك أنت الذي لازلت في دار المُهلة وتستطيع أن تستغفر لي ولنفسك، يا أبت: إن تسببك في انحرافي لن يخفف عني شيئاً من العذاب الذي لقيته، ولكنني أدعوك إلى التوبة من إهمالك لي، وأدعوك إلى أن تتدارك الأمر مع بقية أخوتي قبل فوات الأوان، يا أبت تدارك نفسك بالتوبة، وتدارك إخواني بحسن التربية، فلعل صلاحهم أن يكون سبباً في نجاتي يوم الدين.
الوقفة الثانية: جار غير عزيز:
ولعل رجلاً من أهل هذه القبور أخذ يتهادى حتى وقف بباب جاره فلعله أن يعاتبه فيقول: جاري العزيز لقد كنت تطرق بابي فزعاً إذا رأيت الماء قد تسرب من الخزان العلوي حرصاً منك على مصلحتي، ولكنك لم تكن تنبهني على بعض أصدقاء السوء الذين يخالطون أبنائي، لم تكن تذكرني بإهمالي لصلاة الجماعة، لم تكن تنبهني على إدخالي لأجهزة الفساد إلى منزلي، لقد كان حقيّ عليك أكثر من حقوق سائر الناس عليك، فلو علمت يا جاري العزيز أن احتفاظك لنفسك بالصلاح لا ينجيك يوم الدين لمَا أهملتني، ولو علمت أن استثقالي لنصيحتك لا يسوّغ لك ترك نصيحتي، ولبادرت إلى هذه النصيحة.
الوقفة الثالثة: ولقد جئتمونا فرادى
وهذا رجل تقلّب في مناصب مؤسسة خاصة أو عامة، كان في هذه الدائرة ملئ السمع والبصر، امتلأت ردهاتها بآماله العراض بل كادت لا تتسع لتلك الآمال، ولقد فاجئه الموت وهو أوسع الناس أملاً وحرصاً ومزاحمة، كان يدخل دائرته التي اعتاد الدخول إليها كل صباح بنفس متوثبة متفائلة متطلعة إلى مستقبل وظيفي أكبر، لم يكن حين ذاك يفكر بالموت ولا ما بعده من هولٍ وعذاب، فلو دخل دائرته بعد خروجه من قبره وتذكر وهو يلملم أكفانه المغبرة كم كان في دنياه في غرور، وكم كانت الأماني تضرب به في كل واد دون أن يفكر في حفرة القبر التي أودع فيها رهين عمله، لقد كان يتبختر في هذه الممرات بثيابٍ جديدة جميلة، لو وقعت عليها خردلة من غبار لنفضها بسبابته، وهو الآن يلملم أكفاناً بالية بلغ الغبار والنتن منها كـل مبلغ، ولعله لو مرّ بقسم الترقيات في دائرته لتذكر كم كانت تزهق النفوس، وتشرأب الأعناق للحصول على مرتبةٍ أو علاوة، بل ربما بذل دينه ومروءته من أجل ترقيةٍ أو علاوة، وقد أيقن الآن ولكن بعد فوات الأوان أن رفعة الدرجات إنما هي عند الله وحده، وأن علو مقام المرء إنما هو في قربه من الله وتمام عبوديته له، أما العبودية للدنيا فلا تزيده إلا حسرة وندامة وتشتتاً، ولعله لو مر بغرفة بعض موظفيه لوجد هذا الموظف على عادته في الوشاية بزملائه ووضع العراقيل أمام أعمالهم ومشاريعهم حتى لا يظهر لهم نجم، ولا يعلو لهم شأن، ولا يعم لهم نفع، وحتى لا يسبقوه بحسن رأي، ولا جودة عمل، فماذا عساه أن يقول لهذا الموظف لو رآه واستطاع أن يتكلم، لعله أن يقول: هب أنك نافست مثل ما كُنتُ أنافس بالحلال والحرام فسبقت أقرانك، وبرزت أترابك، أليست سنياتٍ معدودة إن مُّد لك أجل ثم تأول بك الحال إلى عالم التقاعد، حيث ينفض عنك أهل المصالح، وتصير في عالم النسيان، هذا مآل الوظيفة في الدنيا، أما مآلها في الآخرة فحفرة القبر الموحشة حيث لا أنيس إلا عملٍ صالح، ولعله أن يقول: كنا نسمي المتورعين عن المنافسة المحرمة نسميهم سذجاً أو دراويش ذوي ورعٍ بارد، لا طموح عندهم، ولا يعرفون قيمة النجاح، ولا يتذوقون طعم السباق مع الأقران، ولكن علمنا ولا ينفعنا هذا العلم الآن أن طريقتهم هي طريقة النجاة، وأن المنافسة الحقيقية هي في قلب سليم وعمل صالح ينجو بها العبد من عذاب القبر الرهيب، وأن المنافسة الصحيحة هي التي لا تضر بالآخرين، ولا تمنع مسيرة الخير ونفع الناس، آه آه ليتني أعود إلى الدنيا لأصفي سريرتي وأًحسن سيرتي، تالله إن صفاء السيرة هي راحة البدن، وهي راحة النفس في الدنيا، وهي النجاة في الآخرة، آه مما فعلنا بأنفسنا وما غرتنا هذه الدنيا، وما أطعنا فيها إبليس الضلالة، وكنا نسمع قول الله - تعالى -: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }، { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}، ولعل صاحبنا ذلك الرئيس أن يرى في آخر الممر مكتب سعادة المدير حيث كان هو مديراً قبل وفاته، لقد تعود في هذا الممر أن يرى لأعوانه هناك انتشاراً، وخطفه وأصحاب المصالح بين يديه لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء، والمراجعون يصدرون عن مكتبه بين موهوب ومحروم، رأى هذا المدير على ما عهد نفسه من إقصاء الأكفاء من الموظفين خوفاً من منافسته على جاهه وسلطانه، فمرة بالعزل، وأخرى بالمضايقة، وأخرى بالتهميش، رآه على ما كان يعرفه من نفسه من تكثير ذوي المطامع الذين لا يعرفون الذكاء إلا فيما يخدم سعادة المدير، ويكثر جاهه، ويعظم سلطانه، ومن ثم يحظون عنده بالرتب العالية، والتقارير الكاذبة، لقد تعلم المدير وأعوانه بفطرةٍ مدنسة أن الدائرة التي تنجز مصالح الناس، ومياه أعمالها دائماً جارية نقية، يُرى باطنها من ظاهرها إنها إدارة لا تحقق المصالح الشخصية فلا بد من العمل بحرية من توفير مستنقعات آسنة متعكرة من مصالح الناس المتعطلة، تسهل فيها حركة اللصوص، ويسهل فيها اللعب على المغفلين، فلذلك جعلوا هذه الدائرة في فوضى دائمة، ثم حجبوا الناس عن سعادته حتى يوفروا هذه المستنقعات التي تعيش فيها الحشرات القذرة التي تحسن السمسرة في شراء الذمم وبيعها، وهكذا حزن الاثنين معاً تعطيل مصالح الناس وأكل المال الحرام الذي يبذله الناس لإنجاز مصالحهم لعله أن يقف متأملاً في غمرة المراجعين بكفنه البالي المغبر فيقول: لو كان عندي القليل من التقوى، والقليل من معرفة حال الدنيا وحال الآخرة؛ لرأيت أن في النصح للناس أعظم الأجر والمثوبة، ماذا بقي معي في قبري من بريق المال الذي كنت أبذره بلا عد ولا حساب، وأتمتع به بلا خوف من حشر وعذاب، وماذا بقي معي من ضجيج الشرف، وجلبة الأعوان، وكثرة العلاقات والاتصالات، وما أراه في عيون الناس من تعظيم وتبجيل، لقد تلاشى ذلك كله كبخار في يوم صائف فلم أدخل في هذا القبر من مالي وشرفي إلا بكفن، لله كم كنت مغروراً بهذه الدنيا حينئذ فقط أدركت معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، لقد كنت أرى ذلك كلّه ولكن نفسي كانت تزيّل لي ما أفعله، وكانت شدة الإبهار في أنوار الدنيا، تحجب عني رؤية الحقيقة فلم أتبينها إلا حين فات وقت الندم {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُون}.
الوقفة الرابعة: رفيقة الدرب:
ولعل أحدهم حين خرج من قبره أن يلقى زوجته فيقول لها: كم كنتُ أرتكب الحرام رداً لجميل وفائك، وعظيم صبرك، وكم كنتُ أتساهل في الموبقات من أجل سواد عينيك، لـقـد كنت أسافر السفر المحرم، والسياحة السيئة بسبب حبي لكِ، ومن أجل كلمة ثناء طيبه من لسانك العذب الرقيق، وكنتُ أُدخل أجهزة الفساد إلى منزلي من أجل ما تشتكين من فراغ قاتل على حد زعمك، لم أكن مقتنعاً بالكثير مما كنت أفعله بل كنت أعرف أنه الطريق الخطأ ولكنني في سكرة الهوى، وحب الدنيا؛ نسيت كل شيء، لقد كانت عقوبة ذلك ناراً لا تطاق، وجحيماً لا يحتمل، لقد كنت أستمع من كتاب الله إلى هذه الآيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولم أكن والله لأرد كلام ربي، ولكن سلطان الهوى حجب عني تلك المخاطر حتى كنت أقول كيف تكون هذه الوردة الجميلة عدواً يستوجب الحذر، الآن عرفت ذلك ولكن لم تعد تنفع المعرفة، الآن ندمت ولكن لات حين مندم، لقد كنت أسمع كلام الله، لكنه سماع أذن لا سماع قلب، كنت أسمع قوله - تعالى - {فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
الوقفة الخامسة: ذبول وردة:
هذه فتاة ماتت في عمر الورود، كانت ترى الحياة مرحاً وسعادة، كانت ترى أن أعظم السعادة هو أن تكون محط أنظار الناس وسبب إعجابهم، فلذلك سعت إلى التميز في كل شيء، في ملابسها، في مشيتها، سعت إلى جديد الموضات حلالاً كانت أو حرام، تأخذها من أي وسيلة إعلامية، من المجلة أو التلفاز أو المحطة الفضائية، المهم هو التميز مهما كانت الوسيلة، فمرة تشبهت بالكافرات، ومرة تشبهت بالفاسقات، ومرة تشبهت بالممثلات والمغنيات، ومن أجل هذا التميز وتلك الجاذبية نزلت إلى الأسواق ومجامع الناس وقد ليست العباءة الضيقة لتتمتع على حد ظنها بالنظرات الجائعة، ومن أجل هذا التميز خرجت في الحفلات بثياب تخرج أكثر جسدها، وما سترته من جسدها فهو ضيق يجسّم عورتاها؛ يا ترى ما عساها أن تقول لو خرجت من قبرها وتكلمت؟
يا أمي لقد رأيت عذاب الله - تعالى - في ذلك القبر الموحش، رأيت عذاب الله حين أغريت الشباب، ورأيت حين كنت أسوة سيئة للفتيات، وقدوة سيئة لأختي الصغيرة في دخول هذه الطرق، أماه إذا كان هذا ما أصابني بسبب إقتداء أختي بي، فما ظنك بعذاب الله لمن كانت السبب الأول في انتشاره، وما الظن بعذاب الله - تعالى - لمن يصنع هذه العباءات أو يبيعها، أماه لقد كنت أبدي مفاتن جسدي بطرق متعددة، فمرة بالنقاب الواسع الذي يبدي عينين كحيلتين، ويظهر أهداباً كسهام مريّشة حادة أغرسها في قلوب الرجال لتصيبها في مقتل، ومرة أدع العنان لعباءتي لتسفر عن نحرٍ أبيض، وجيِد فضي كوجهي في الضحى، فتطير لذلك عقول، وتضطرب أفئدة، أو أظهر قواماً كغصن البان حتى أطرب لتأوهات المفتونين، ومرات ومرات كنت أغش الحفلات، وقد خلعت جلباب الحياء فأنا كاسية عارية، إذا رآني الرائي فلا يخالني إلا في حفلة غربية ماجنة، أبديت فيها عضداً كجمّارة نخلة فتية، وأظهرت ساقاً وجزءاً من فخذ وظهر، فعلت كل ذلك حتى أبدو متميزة في مظهري، أتدرين يا أماه كيف آلت بي الحال في قبري، لقد سالت تلك الأعين النجل مع سهامها المريّشة على خد متعفن مجعّد أسود، وصار ذلك النحر الفضي قطعة جلد أسود تتدلا أطرافه على عظام نخرة لتلامس قلباً طالما امتلأ بالهوى القاتل، والغرور بالدنيا الفانية، وطول الأمل الكاذب، لا أدري يا أماه كيف كنت أرى الدنيا طويلة طويلة، وأنا أرى الناس يموتون كل يوم ممن حولنا من الجيران والأقارب والأصدقاء، لا يفرق ملك الموت بين صغير وكبير، وغني وفقير، وملك وحقير، لله يا أماه كم كانت تلك المواعظ ترق أذني، وتشاهدها عيني، وتحسها يدي، ومع ذلك لا أجد لها في نفسي أثراً إن السبب هو غلبة الهوى، وحب الدنيا من الشهرة، والتميز الكاذب، والمفاخرة الجوفاء وحينئذ فقط عرفت معنى قول الله - تعالى -{ أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ}، أماه إن ما أفعله هي منافسة ومسابقة، ولكنها مسابقة لتحصيل نبات أخضر بهيج ،ولكنه بعد برهة يأول سريعاً إلى زوال، والسباق الحقيقي الثابت النافع إنما هو لتحصيل مغفرة الله - تعالى - وجناته {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
الوقفة السادسة: في الاستراحة:
ولعل من هؤلاء رجل وقف على أصحابه بأكفان بالية متربة، وهم في استراحتهم، هؤلاء الأصدقاء الذين كانوا يقضي معهم جلّ وقته، هؤلاء الأصدقاء الذين كان يقدم محبتهم على محبة والده ووالدته وأخوته، حيث كان يتفقد أحوالهم ولا يتفقد أحوال أقاربه، كان يأنس بلقياهم ولا يأنس بلقيا أقرب مقربيه، كان لا ينام حتى يهاتفوا بعضهم، لقد كانوا ملء سمعه وبصره، ولعله لو خرج من قبره وذهب إليهم في ناديهم لتذكر كم كانت الأوقات تذهب سدى، لقد كان يقطع في طريقه إليهم ما يقارب نصف ساعة، كان يستطيع أن يسبح في هذا الطريق أكثر من ألف تسبيحة، ولعله أن يقول: كم كانت الأوقات تذهب سدى، هذه ألف تسبيحة في طريق الذهاب فقط بكل تسبيحة صدقة، فلماذا كنا نضيع الوقت فيما لا ينفع ونحن من أحوج الناس إلى هذه الحسنات والصدقات لتكفير عظيم السيئات، لقد قضيت معهم من عمري أكثر من عشر سنوات لم أمسك بيدي فائدة واحدة في ديني ودنياي، فيما كان أهل الخير يخرجون بنتائج باهرة، فمرة بمذاكرة علم، ومرّة بمؤانسة محببة، ومرة بتعاونٍ على مشاريع الخير والبر ويشجع بعضهم بعضاً عليها، هكذا يكون قضاء الأعمال فيما ينفع في الدين والدنيا، ولعله لو أطلّ على مجلسهم لتخيل نفسه بينهم، هذا مكانه، هذا موضع مرحه، هذه قوته، هذا شبابه، آه ليتني أعود إلى هذه الدنيا في تلك القوة والنشاط لأعبد الله حق عبادته، لأتوب من ذنوبي، لأستكثر من الحسنات، آه ليتني أعود لهذه الدنيا لأقول لهم لقد عودتموني على كل عادة قبيحة، وعلمتموني كل معصية لله - عز وجل -، سوف أترككم إلى الأبد لأبدأ حياتي من جديد في طاعته ورضوانه، في كنفه وقربه، لقد كانت الآيات تطرق سمعي وكأنه يُعنى بها غيري {ومن يعش عن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً}.
الوقفة السابعة: ألا لله الدين الخالص:
هذا رجل عوّد نفسه على الرياء فأصبح لا يعمل العمل الذي يُبتغى به وجه الله إلا بحافز من نظرات الناس، فلا يصلي نافلة إلا بمحضرهم، ولا يعمل خيراً إلا بثنائهم فغابت عنه لذة المخلصين في العبادة والأعمال الصالحة، لقد علم في قبره أن أعماله لم تكن إلا سراباً بقيعة يحسبه الضمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب، لقد تبخرت هذه الأعمال التي لم تكن في الحقيقة إلا فقاعة أزالتها نفخة من فم الحقيقة الذي لا يكذب، وليت الأمر وقف عند حبوط العمل بل صار الرياء سبباً من أسباب العقوبة من تصغير وتحقير، وكنا نسمع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من سمع الناس بعمله سمع الله به سامع خلقه وصغّره وحقره)، ولكن تسمع الأذن ولا يعي القلب، ماذا أفادتنا نشوة الرياء الكاذبة عند سكون القبر القاتل، ماذا نفعنا ثناؤهم عند سؤال منكر ونكير، لماذا كنت أفرح بنظرة الناس إليّ وهؤلاء الناس هم الذين وضعوني في حفرة القبر ثم ولّوا مدبرين، لا يتبرعون لي بحسنة واحدة، آه من خفة عقول المرائين وهم لا يتعظون بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( يقول الله- عز وجل- إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عنهم جزاء)، ولا يرعوون (من أحسن العمل حين يراه الناس وأساءها حين يخلوا فتلك استهانه استهان بها ربه - تبارك وتعالى -).
الوقفة الثامنة: هذه أموالي تقسم:
وهذا صاحب ثروة طائلة عاش حياته غافلاً عن أجله، لاهياً عن حفرة القبر الموحشة، كان أصدقاء المصلحة في حياته لا يفارقونه، فامتلأت حياته ضجيجاً وأضواءً وانشغالاً، كان من أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم ثياباً، وأكملهم رونقاً وأبهة، فلو خرج من قبره بكفنه المهترئ، ورائحته الكريهة، فماذا عساه أن يقول أو يفعل، لعله هل كانت هذه الدنيا وتلك الأقوال تستحق ما كنا نبذله من أجلها، فمن أجل الأموال عاديت أقاربي، وقسوت على أصدقائي، وأهملت أولادي، وقصرت في حق زوجتي، بل قصرت في حق نفسي، لقد أفنيت عمري وزهرة شبابي في جمع هذا المال، ثم حين حصل لي صرت أكافح من أجل أن أبقى غنياً متفرداً، فلا أريد أن يسبقني في كثرة المال أحد، وكان ذلك كله على حساب صحتي واستقرار نفسي، وحقوق زوجتي وولدي، ضللت ألهث وألهث بحثاً عن السعادة حيناً، والمباهات حيناً آخر، لم أكن أتوقع أن يداهمني الأجل بهذه السرعة فتنقطع آمالي، وتتحطم تطلعاتي، لقد كنت أرى الناس يموتون، ولكن كنت أظن أن الموت الذي داهم الآخرين كان لأسباب خاصة لا تنطبق عليّ، هكذا كنت أفكر بسذاجة وغفلة، ليتني أنفقت من هذا المال ليكون مزرعة تنتج الأجر والمثوبة إلى الأبد، لقد كنت أسمع القرآن فلم أع ما كان فيه من عضات وعبر، لقد أعمى قلبي حب الدرهم والدينار، كان مما أسمع قول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.. نعم لقد كنت أستمع إلى هذه المواعظ العظيمة ولكن حالي {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، ولعله أن يمر ببيت أحد أبناءه ليجد أن زوجته قد تزوجت، وأن ورثته قد اجتمعوا ليقتسموا تركته، هذه غرفة الضيوف مضاءة فيها ورثتي وقد علت أصواتهم يتجادلون في قسمة أموالي، هذا الابن الأكبر له كذا من الملايين، وهذه البنت لها النصف من ذلك، وهذه الزوجة لها نصيبها، فماذا عساه أن يقول لعله أن يقول:لقد قسمت أموالي التي كنت أبخل بها على نفسي وولدي قسمت على أولادي وأزواج بناتي وزوج امرأتي، لقد كنت في الدنيا في عماية عظيمة حين كنت أسمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله) قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قال: (فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر)، كل ما تركته فليس بمالي، صدق الصادق المصدوق- صلى الله عليه وسلم - لقد كنت أنا أخشى على أولادي العيلة، وهذا من قلة التوكل، وضعف اليقين، ولقد كنت أنا أولى بهذا المال منهم، لقد كدت أصيح فيهم فأقول إن في هذا المال زكاة مهملة فأخرجوها، وفي هذا المال ربا فتخلصوا منه، وفي هذا المال حقوق لبعض الخلق منعني البخل من أدائها فأدوا الحقوق أهلها، ولكنني لا أستطيع النطق لقد انقضى زمن العمل، وجاء زمن الحساب والعقاب، آه من الغفلة وطول الأمل، لقد كنت أعيش على أمل يطول عمري بحياة مرفهة سعيدة {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
الوقفة التاسعة: معالم النجاة:
المعلم الأول: لا تُعجب بحالك الراهنة فإن الأعمال بالخواتيم قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن العبد ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل الرجل بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم).
المعلم الثاني: زيارة القبور خير طريق لتذكر الموت وما بعده، فقد صحّ عن النبي- صلى الله عليه وسلم -أنه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)، جاء في تبصرة القرطبي - رحمه الله - قوله: كم من ظالم تعدى وجار فما راع الأهل ولا الجار، بينما هو قد عقد الإصرار حلّ به الموت فحلّ من حُلته الإزار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، ما صحبه سوى الكفن إلى بيت البلى والعفن، فلو رأيته وقد حلّت به الفتن، وشين ذلك الوجه الحسن، فلا تسأل كيف صار فاعتبروا يا أولي الأبصار، سال في اللحد صديده، وبلى في القبر جديده، وهجره نسيبه ووديده، وتفرق شحمه وعبيده، وتخلى عن الأنصار فاعتبروا يا أولي الأبصار، أين مجالسه العالية، أين عيشته الصافية، أين لذته الخالية، كم تسفي على قبره السافية، ذهبت العين وأُخفيت الآثار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، تقطعت به جميع الأسباب، وهجره القرناء والأتراب، وربما فُتح له في اللحد باب النار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، خلى والله بما صنع، واحتوشه الندم وما نفع، وتمنى الخلاص وهيهات قد وقع، وخلاّه الخليل المصافي وانقطع، واشتغل الأهل بما كان جمع، وتملّك أعداءه المال والدار فاعتبروا يا أولي الأبصار، نادم بلا شك ولا خفى، باكٍ على ما زلّ وهفا، يود أن صافي اللذات ما صفى وعلم، أنه كان يبني من جرفٍ هارٍ على شفى فاعتبروا يا أولي الأبصار.
المعلم الثالث: إذا رأيت ميتاً فتصور أنك أنت الطريح بين يدي الإمام، أو على النعش، أو من يُنزل في حفرة القبر فنحريٌ بنا حينئذٍ أن نراجع أنفسنا.
المعلم الرابع: لا تـصاحب أهل اللهو والبطالة.
المعلم الخامس: تذكر أنه مع حلاوة المتعة فـإنه يعقبها مرارة الندم.
المعلم السادس: لعلك قد كتبت الآن في الأموات بعد مدة يسيرة، وأنت تسرح وتمرح، بلا تـوبة ولا مراجعة.
المعلم السابع: كل متعة تعتبر هباءً عند حلول الموت، فلماذا نعصي الله - عز وجل - من أجل هذه المتعة { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ }
عش ما بدا لك سالماً *** في ظل شاهقة القصور
يُسعى إليك بما تحب *** لدى الرواح وفي البكور
فإذا النفوس تغرغرت *** بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً *** ما كنت إلا في غرور
المعلم الثامن: السعيد من وُعظ بغيره، قال زين الدين المعبّري - رحمه الله - اعلم أن مما يعينك على ذكر الموت أن تذكر من مضى من أقاربك وإخوانك وأصحابك وأترابك الذين مضوا قبلك، كانوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك، ويعملون في الدنيا عملك، فقصفت المنون أعناقهم، وقلعت أعراقهم، وقصمت أصلابهم، وفجعت فيهم أحبابهم، فأُفردوا في قبور موحشة، وصاروا جيفاً مدهشة، والأحداق سالت، والألوان حالت، والفصاحة زالت، والرؤوس تغيرت ومالت، مع فتان يُقعدهم يسألهم عما كانوا يعتقدون، ثم يكشف لهم من الجنة والنار مقعدهم إلى يوم يبعثون، فيرون أرضاً مبدلة، وسماء مشققة، وشمساً مكورة، ونجوماً منكرة، وملائكته منزله، وأهوالاً مذعره، وصحفٌ منشرة، وناراً زفرة، وجنة مزخرفة، فعُدّ نفسك منهم ولا تغفل عن زاد معادك، ولا تهمل نفسك سدىً كالبهائم ترتع ولا تدري {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
المعلم التاسع: الأيام خزائن وما مضى فإنه لا يعود {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
المعلم العاشر: لا ذكرى بغير إنابة، ولا انتفاع بغير استجابة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}لا يمكن للإنسان أن يهتدي، ولا أن يقبل هدى الله - عز وجل - إلا إذا تهيأ قلبه للاستجابة لهذا الهدى، قال الله - عز وجل -: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}.
اللهم أيقضنا من الغفلات، وأورثنا الجنات، واجعل قبورنا بعد فراق الدنيا خير منازلنا، ووسع فيها حنين ملاحدنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.