يُعرف الأطفال الأسوياء بصفات طفولية طبيعية , في حين يختلف عنهم في ذلك الأطفال التوحديون فهم منعزلون و يميلون إلى عدم الإشتراك مع الآخرين و لا يحبون الإندماج في المحيط الإجتماعي, و تُشكل هذه المسألة مشكلة حقيقية لهم و لذويهم أيضاُ. فإذا كان من الطبيعي مثلاً أن نجد الأطفال الطبيعيين يلعبون و يُشاركون الآخرين ألعابهم بسرور بالغ , نجد بأن الأطفال الذين لديهم إضطراب التوحد يلعبون و يضحكون لوحدهم أثناء اللعب و لا يُشاركون الآخرين ألعابهم و لهم في ذلك إسلوب يختلف عن الأطفال الأسوياء كما أن طريقتهم في اللعب تختلف كثيراً عن طريقة الأطفال الطبيعيين, و مرد ذلك كله إلى الخلل العصبي الموجود في الجهاز العصبي المركزي للطفل التوحدي.
و كثيراً ما يفكر والدا الطفل التوحدي في كيفية إختيار اللُعب المختلفة التي يمكن أن يلهو بها طفلهما و ذلك بسبب كونه طفلاً غير طبيعي لا يدرك معنى اللعب و لا يفهم مغزى المشاركة مع الآخرين و قد يصل بهما القنوط إلى درجة اليأس من جدوى مشاركتهما له في اللعب, و هذا فهم خاطئ لوضع الطفل التوحدي و نظرة سلبية تجاهه من قبل الأسرة , و قد يرجع السبب في ذلك لعدم فهمهما لهؤلاء الأطفال أو لعدم إدراكهما لكيفية مشاركتهم في إختيار اللعبة أو حتى طريقة اللعب معهم , و عدم توفر إجابة علمية لديهم تسعفهم للإجابة على أسئلة مثل كيف يلعب التوحديون؟ و ما هي اللعبة المناسبة لهم؟ و متى يلعبون؟ و لماذا يلعبون؟
و قد تأتي كل هذه التساؤلات أو بعضها في مخيلة الأسرة و لكنها تحتاج إلى وقفة تأن و تريث من قبل والدي الطفل اللذين يجب عليهما أن يتعاونا مع المختصين في كل ما يتعلق بالطفل و يتشاورا معهم بشأنه و يتبادلا الحديث المفصل حول طريقة التعامل المناسبة لنوع الإعاقة التي يعاني منها طفلهما. و مدى قدرته على اللعب , و نوع أو أنواع الألعاب المتاحة و المسموح بها, و يتقصون الألعاب التي تساعده على التكيف مع نفسه و مع الآخرين, و غير ذلك مما يلزم للطفل من قبل الوالدين و أن مجمل النصائح و التوجهات التي تتبلور من خلال تلك المشاورات سوف تساعد الأبوين و الأسرة على تحقيق العلاج عن طريق اللعب.
لهذا كان لزاماً على الوالدين اللذين يعاني أحد أولادهما من التوحد Autism أن يلما بالعديد من الملابسات التي يغفل عنها الكثيرون من الذين لا يبالون بأحوال ابنائهم, فالفهم الواعي و التعاون الجيد مع الاخصائيين أمر ضروري لصالح الأطفال التوحديين و لأسرهم أيضاً.
إن فهم مسألة الطفل الذي لديه حالة التوحد من المسائل الضرورية للأسرة , و من الضروري الإطلاع على تقسيمات الإضطرابات النمائية الشاملة التي قسمتها جمعية الأطباء النفسيين في أميركا و التي ترى تقسيم مشكلة الطفل التوحدي إلى مستويات متعددة من الإعاقة و الأعراض معاً حسب كل حال على حدة, و ذلك ضمن دراسات و أبحاث يجب على أباء أطفال التوحد أن يطلعوا عليها أولاً بأول و أن يقرأوا تفاصيلها في الدليل التشخيصي الإحصائي للإضطرابات العقلية النمائية الشاملة, حتى يمكنهم أن يميزوا بين أصناف التوحد و الأعراض المصاحبة له.
و قد انحصرت خصائص أطفال التوحد في ثلاثة نقاط رئيسية هي:
1- خلل نوعي في التعامل الإجتماعي.
2- خلل نوعي في التواصل و في النشاطات التخيلية.
3- ظهور نشاطات روتينية نمطية.
و قد تلازم هذه الحقائق الثلاث بعض الأعراض الثانوية و التي تبدو شاذة و محيرة بالنسبة للأبوين, و من المحتمل أن تجعلهما يائسين من التجاوب مع التوحديين. و من هذه الأعراض على سبيل المثال التقلب الفوري لأمزجتهم و عدم تأثرهم ببعض المثيرات , و عدم إستقرار أجسامهم , و كذلك طريقة تعاملهم مع اللعبة و مع الآخرين. و هكذا نجد أن جميع هذه الأمور تجعل المحيط الأسري للطفل التوحدي في قلق و توتر و إحباط حيث لا توجد ضوابط معينة تحدد طريقة للتعامل مع هذه الفئة من الأطفال, لهذا كان من الأهمية بمكان لفت نظر الأسرة و المعلمين إلى حساسية هذا الأمر لكي تتسع صدورهم لهذه الأعراض و أن يتحلوا بالصبر, لأنهم يتعاملون مع فئة غير طبيعية حيث يجب التفكير الجاد في العمل مع هذه الفئة التي تتطلب حاجات خاصة في التعامل و العمل.
و من الأمور التي تنعكس سلباً من الناحية التربوية على هذه الفئة, المعاملة الباردة (إن صح التعبير) من قبل الوالدين غير المبالين , تلك المعاملة غير المقبولة علمياً. و قد تحدث عنها العالم توماس (1978) و وضح أثر برود التفاعل الأسري مع هذه الفئة "التوحد" و الفتور في المعاملة و أثره على سلوكهم مباشرة مستقبلاً.
يُعتبر التوحد من الأمراض التي يصعب تشخيصها بسبب التداخل المتشابك في السلوكيات المتنوعة و الأعراض المختلفة , و هذا مما يؤثر في كيفية إختيار لُعب التوحد و ما هي نوعيتها و هل يتم إختيارها حسب سلوك الطفل أم حسب مستواه العقلي أم مسنتوى النضج أم مستوى التكيف العلاجي و الإجابة العلمية و السليمة على جميع هذه التساؤلات مسألة ضرورية للأسرة التي لديها طفل توحدي. فاللعب يعتبر أمراً لازماً للطفل عموماً , و لكنه للطفل التوحدي يكون أمراً ضرورياً أو حتمياً, و لهذا يُصنف اللعب ضمن الحاجات النفسية و الجسمية له, و مثله في ذلك مثل الحاجة إلى الطعام و الشراب و الإستحمام. و هناك نظريات كثيرة حول مفهوم اللعب في الدراسات الإنسانية منها :
صحيح أن الألعاب تعتبر وسائل ترفيهية بالدرجة الأولى , و لكنها في الواقع للتوحديين ترفيهية تعليمية علاجية و ذلك لضرورة الإستعانة بها في بناء شخصيتهم و تهذيب أو تقويم سلوكياتهم غير الطبيعية, علماً بأن بعضهم يعاني من الإعاقات الجسدية و بعضهم يعاني من القصور في القدرات الحركية (Motor Ability) و العلاقات الإدراكية ( perceptual Relationship ) و صعوبة تحكمهم في السيطرة على أبعاد اللعبة و مدى حساسيتهم للموجات الصوتية,سواء من اللعبة أو من أصوات المشاركين معهم في اللعب نتيجة خلل في الجهاز العصبي المركزي و عدم إنتظام حركة الأعصاب لديهم, و البعض الآخر من الأطفال التوحديين يحب أن يلعب لعبة خاصة دون أن نعلم سبباً واضحاً يُفسر علاقتة بها و حبه لها. و من نافلة القول أن نذكر هنا بوجود فرق واضح بين الطفل السوي و الطفل التوحدي سواء في طريقة اللعب أو في طريقة التعاون مع الزملاء أثناء لعب التبادل الإجتماعي معهم.
و يمكننا القول أن جميع أصناف الألعاب يستطيع التوحدي أن يلعب بها و لكن بشرط أن تكون قدراته و إمكاناته مهيئة لها حسب درجة الإعاقة و نوع الإضطراب, و حسب النضج الجسمي و المعرفي, لأنه في حكم سياق السيطرة الوظيفية التي تقع تحت التحكم الرئيسي لمراكز المخ و التي على ضوئها تعمل الوظائف العليا للإنسان, كالتفكير و التركيز و الذاكرة و الحركة و الإحساس, لكن هذه الوظائف لدى التوحديين مضطربة و إن هذا الإضطراب الوظيفي سيؤثر على مجمل سلوكياته, إذ أن الخلل يكمن في الجهاز العصبي المركزي , و الذي يكون هو المشرف على كافة الحركات و الإنفعالات و الأفعال, فنجد مثلاً أطفالاً توحديين يستطيعون اللعب (بالجت سكي) و بمهارة عالية في حين نجد آخرين يخافون حتى من السير فوق شيء متحرك و بعض التوحديين يستطيعون اللعب بالأدوات الصوتية و آخرين يبتعدون و يصرخون و تصاحبهم أعراض مختلفة أزاء هذه الألعاب.
و تعاني طائفة من أطفال التوحد من مشكلة التفكير و التخيل و البعد عن الواقع , و بالتالي يبدو عليهم بأنهم فوضويون غريبون في حركتهم و لعبهم و طريقة مشيهم و توازنهم. كما أن لهم نوعاً من التدرج في التخيل من البسيط إلى الصعب. و نضرب مثالاً على ذلك عندما ينظرون إلى الألعاب التي تُعرض عليهم للوهلة الأولى نجدهم يحددون بعض هذه الأشكال في اللعبة دون الحاجة إلى أن ينظروا لها أولاً بصورة كلية, بعكس الأطفال الطبيعيين الذين ينظرون إلى هذه اللعبة بنظرة كلية أولاً ثم بنظرة جزئية ثانياً و ذلك لتحديد أماكن هذه الأشكال, و هذا دليل على أن بعض أطفال التوحد لديهم قدرات عالية في التصور التخيلي (حالات نادرة) بعكس بعضهم الآخر الذين لا يملكون القدرة على أية نشاطات تخيلية, فنجد مثلاً أنك عندما تحاول أن تغير روتين حياة التوحدي في غرفته أو فصله فإنه يقلق و ينتابه الصراخ و الغضب لأنه يرى في ذلك التغيير أو في هذا التعديل مساساً بشخصيته و حياته التي يعتبرها جزأً من كيانه و عالمه الخاص.
إذن تعديل سلوك أطفال التوحد عن طريق اللعب, يجب أن يسير وفق مبادئ صحيحة ضمن إطار فهم شخصية التوحدي , حسب خطوات متدرجة, و إختيارنا للسلوك المستهدف أي السلوك الذي نرغب في تصحيحه فيصمم له خطة علاجية بناءً على هذا السلوك جيداً و من ثم قياسه و تحديد المتغيرات و بعدها البدء في تنفيذ الخطة و هذا كله ليس من فراغ, فلا يمكن البدء بالعلاج و السير نحو تحقيقه بشكل فعال إلا بعد تصميم الخطة المناسبة لكل حالة من حالات التوحد على إنفراد و أخيراً يتبع هذا العمل بتحليلات لنتائج أعمال العلاج باللعب.
من كتاب / التـــوحـــد الــــعـــلاج بالـــلـــعب / أستاذ/ أحــمــد جــوهـــر/ الــــكــــويـــــت