بيتنا شيطان أمي
أكتب إليك يا سيدي، وكان من المفروض ألا أكتب، بل أكتب عمن كان يجب عليها أن تكتب إليك، إنها أمي.. نعم أمي يا سيدي، وقبل أن أحكي لك ما أريد، وأبث ما في صدري تجاه من ولدتني، أحب أن أعرفك أني شاب من مصر، في بدايات الشباب، طالب في الثانوية العامة، وأنا أكبر إخوتي، وكلهن إناث، أكرمنا الله تعالى بمعرفة أمور دينه، ونحاول قدر جهدنا أن نلتزم بأمور ديننا، ووالدي العزيز يسعى لهذا معنا، ولكنه ضعيف الشخصية أمام والدتي، فهي سيدة البيت، وليس أبي، ويا ليت هذا وحده، فعلاقتها بالدين هشة ضعيفة كبيت العنكبوت، بل لو كان هناك وصف أكثر من هذا لقلته، لا تتعجل علي، فحين تعرف قصة والدتي ستعرف السبب. فوالدتي – هداها الله- لا تعرف الله، فالصلاة عندها شيء خارج عن قاموس حياتها، وكم سعينا أن نأخذ بيدها، ولكن هيهات، ربما أرضتنا أحيانا بصلاتها يوما أو يومين، ولكن سرعان ما تعود إلى أدراج بعدها عن الله، فانظر كيف يكون حالنا نحن، ونحن نرى أمنا بعيدة عن الله، لا ندري مصيرها عند الله؟. وياااااااااااليتها وقفت عند هذا الحد أيضا، بل إنها – لا أدري كيف أنطقها – ولكني سأقولها: بل إنها سبت الله تعالى خمس مرات، وقد سمعنا هذا بآذاننا، فلا نكاد نصدق أنفسنا، استشعر معي يا سيدي حين تكون الأم تسب الله أمام أبنائها، فأية تربية ينشئون عليها؟ وأي خير تسوقه إلى أولادها؟!! أما عن سب الدين، فحدث ولا حرج، فهي تسب الدين في اليوم مرات ومرات، بل تستهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات لا أكاد أصدق نفسي أن تكون هذه الإنسانة أمي، أشعر ببعد سحيق بيني وبينها، أشعر أنها شيطان في بيتنا. إنني لا ألمح أي بصيص أمل فيها، فأخلاقها سيئة للغاية، كذب وغيبة ونميمة وحسد وكبر، وسوء خلق، وقطيعة رحم، حين علمت يوما أني ذاهب إلى خالتي، نهرتني بشدة، وقالت: لا تذهب إليها، وأخذت تقول فيها كلاما قبيحا، وحذرتنا جميعا من زيارتها، بل كلما عرفت أننا نزور أقاربنا تعارضنا، ولا تقل لي: أين والدك، فوجوده كعدمه، فالكلمة الأولى والأخيرة في البيت لها، ويا سواد ليله من عارضها في شيء!! إنها تشعر أن الناس كلهم يكرهونها، بل أظن أنها تراني أنا ووالدي وأخواتي كما ترى بقية الناس، إن أخواتي طيبات القلب، عفيفات اللسان، نسمات، ومع هذا، فإنها تقذفهن بأبشع الكلمات، كلمات لا تقال لبنت مهما كانت أخلاقها، فضلا عن بنات حفظهن الله تعالى بالسعي لتطبيق الإسلام. سيدي.. هذا غيض من فيض، وقطرة من بحر، فلا أريد أن أطيل عليكم، فالكلام يا سيدي كثييييييييير، إننا نقوم الليل، نتضرع إلى الله تعالى أن يهدي أمنا، ندعو لها كثيرا، ولكن لم يأذن الله بعد، فكم هي حسرة القلب على أم تائهة ضائعة، لم يُجدِ معها شيء، ومازلنا ندعو لها، لكن شكل البيت أصبح عجيبا، أنا أعلم أنها غير متعلمة، وأبي أيضا غير متعلم، لكنه ليس مثلها. وقد هالني ما سمعت من أن المرأة التي تسب الدين كافرة، خارجة عن الملة، ولا يجوز لزوجها أن يعاشرها، فإن حدث، فهو زنى، فإن كان صحيحا، فلا أدري ما أفعل؟. ويحدث مني في بعض الأحيان أن أرفع صوتي عليها، والله ما أريد هذا، لكن لا يحدث هذا إلا إذا كانت تسب الدين أو تشتم إحدى أخواتي، فتضطرني إلى رفع صوتي عليها، ولكني ما أتهمها بالكفر أبدا، ولكن أرفع صوتي فقط، فهل ما أفعله صواب؟. سيدي، إني قد وصلت إلى حد اليأس من هدايتها، فكم أدعو الله في جوف الليل، وفي وضح النهار، ولكن لم يأذن الله بعد، فهل أترك أمي على هاوية الهلاك، إنني أغرق مع أمي، لأني لا أعرف ما أفعل لها؟. الرد أخي صاحب الرسالة.. لا شك أن كل من يسمع حكايتك، أو يقرأ رسالتك يهتز وجدانه، ويتحسر كما تحسرت، ويتألم كما تألمت، فصعب على الإنسان أن يرى القدوة تترك مكانها، وأن يفر الحنان منه فلا يجده فيمن يظن أنه صاحبه الأول. ولكن هون عليك، فكم من البلايا في زماننا، وكل يوم يقذف الناس في زمانهم ما لم يكن في غيرهم، فتلك طبيعة الإنسان، والعاصم في هذا هو الاستعانة بالله، فكل يوم نجد في حياتنا مهلكات لو عشنا في دائرتها؛ لجعلناها تتملك حياتنا كلها، وليست هذه دعوة لننفي مشاكلنا، ولكنها ليست كل الحياة، وإذا نظرت إلى حياتك فستجد لك مجالات متنوعة، ليست الصورة قاتمة كلها في حياتك، فهناك نقاط مضيئة في حياتك، وبالتالي – ومع صعوبة الأمر بالنسبة لك ولأخواتك- لكن يجب النظر دائما إلى النعم مقابل الابتلاءات. ثم إنك يا أخي ذكرت كل السوء في أمك، وكأنها ليس فيها خير على الإطلاق، وهذا توصيف خاطئ، أعلم أن الحالة الشعورية لمن يتأثر بشيء تجعله لا يرى إلا هذا الشيء، أو كما عبر عنه الشاعر الحكيم: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا فأنا يا أخي لا أومن أن هناك إنسانا كله شر، قد يغلب عليه الشر نعم، قد يكون ذلك بشكل دائم، وقد يكون ذلك في فترات، إن الطبيعة البشرية يا أخي هي على الفطرة في الأساس، يعني أن الشر ليس أصلا في الإنسان، ولكن مع دواعي الشر من شياطين الإنس والجن، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى، كل هذا يغير طبيعة الإنسان، حتى أصبح هذا شيئا طبعيا في سلوكه، ولعل هذا ما عنى به النبي صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا، لأتى الله بقوم غيركم، فيذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم"، وأفهم أيضا هذا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم (كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز عنه)، وقد جاء في بعض الروايات أنه لم يعمل خيرا قط، فأنا أدعو إلى أن تنظر حسنات أمك، وإن كانت سيئاتها كثيرة وكبيرة كما أوردت في رسالتك. كما أن كل إنسان له مفاتيح، وليس كل الناس يعرف مفاتيح الآخرين، ومن هنا، فإننا أمام مرض يجب علينا تشخيصه قبل وصف العلاج له، ثم تأتي مرحلة أخذ المريض للدواء. وأنا لا أعرف تاريخ أمك، حتى أقول: إن هذا قد يكون سببا للتربية والبيئة التي نشأت فيها، وهل هذا الوصف الذي قدمته هو شيء موجود متأصل فيها منذ الصغر، أم هناك متغيرات في حياتها حدثت، فبدلت الورد شوكا؟. وقد يكون من المفيد أن تراجع بعض أطباء النفس، لأن ما تفعله أمك مخالف لفطرة الإنسان، فكل الأمهات مفطورات على الحنان لأودهن، وتقديمهم على نفسها، ولهذا جاء في الحديث القدسي: "وقذفت محبتك في قلب أبويك، فلا يشبعان حتى تشبع، ولا يرقدان حتى ترقد"، فقد تكون والدتك تعاني مرضا نفسيا، بعلاجه يرجع الأمر إلى طبيعته مرة أخرى. وليس دائما مقابلة العنف بالعنف مجدية، وليس كل ما أخذ بالقوة يسترد بالقوة، وليست القوة دائما هي القوة البدنية، وقد جاء في الحديث: "ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، والإحسان أمر هام في حياة الناس، كما قال الشاعر الحكيم: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم وطالما استعبد الإحسان إنسانا فأحسنوا إلى أمكم، واقتلوا الشر فيها بحسن المعاملة، وفي تاريخنا الاجتماعي ما يثبت هذا المعنى، فقد ورد أن رجلا أراد سب الحسن بن علي – رضي الله عنهما-، ومازال الرجل يسب الحسن، ولكن الحسن أكرم ضيافته، وأحسن إليه الكلام، فانقلب قلب الرجل من البغض حبا، ومن البعد قربا، وتلك حياة القلب، وهي تغير أكثر ما تغير الألسن العراض. وقد يكون من المناسب أحيانا الهجر الجميل، إن كان معروفا عن أمكم حاجتها الاجتماعية الشديدة، فبعض الناس لا يطيق أن يكون وحيدا في الدنيا ولو ليوم واحد، فإن كانت من هذا النوع، فجربوا مقاطعتها، لفترة محدودة، تكون كالملح في الطعام، إن زاد أفسد، وإن قل لم يكن للأكل طعم يستساغ، وقد هجر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك خمسين يوما، وهجر نساءه تسعة وعشرين يوما، ولكن قد يكون القطع من الأمور التي تزيد الأمر سوءا، فعليكم دراسة الاقتراح والأخذ به إن كان صالحا، وإلا فالبحث عن بدائل أخرى. وقد يكون من الجيد أن تتابع أمكم بعض البرامج الدينية عبر القنوات الفضائية، أو تسمع بعض الشرائط التي يكون أصحابها قريبين من حياة الإنسان، فالسماع من الغريب قد يجدي، وكما جاء في المثل: "زامر الحي لا يطرب". ولعل الجمع بين الإحسان للأمهات، مع الاعتراض على الخطأ، أمر أشبه بالميزان الحساس، فلسنا مكلفين بطاعة الوالدين في كل صغيرة وكبيرة، وحين تحدث القرآن لم يأمر بالطاعة على طول الخط، وإنما أمر بالبر إليهما "وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ". فالبر غير الطاعة، فالطاعة إنما تكون في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وهذا يعني أن كل الممارسات الواجبة، كصلة الرحم وغيرها لا يجوز لكم أن تكفوا عنها لأجل والدتكم، بل استمروا فيها، ولو بدون علمها، كما أن من الحسن ألا ترفع صوتك على أمك، وإن أحببت فناقشها نقاشا هادئا، تقول فيه كل ما تريد دون أن ترفع صوتك عليها، فتقلب النقاش إلى خلاف حاد، ومثل هذه الصورة لا تحبذ. أما سبها الدين وغيره، فإنها يجب أن تنصح في هذا كثيرا، وهي إن كانت لا تقصد بسب الدين معناه الحقيقي، فلا يمكن الحكم عليها بخروجها من الملة، إلا أن تكون قاصدة لهذا المعنى، عالمة به، تدرك ما تقول وتنوه، فساعتها سيكون الأمر مختلفا. أما عن أختك التي تسبها، فعليكم بالدعم المعنوي منك ومن والدك وأخواتك الأخريات، حتى يكون هناك تعويض مما تلاقيه من أمك، وأن تكون معكم في مساعدة أمك أن تخرج من محنتها وأزمتها، وأن يعود لوالدك دوره كرجل للبيت، له القوامة بالحكمة والتقوى، وفي هذا السياق يحق قول الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى الخاص: "خاب قوم ولوا أمرهم امرأة"، ليس للأنوثة، ولكن لخروج الأم عن دورها من العطف والحنان والحكمة على بيت هي مسئولة عنه، فأنقذوا بيتكم، بإنقاذ أمكم، وابذلوا قصارى جهدكم لمساعدتها، فإن الأم أمة، وصلاحها من صلاح الأمة، وفسادها فساد للأمة، ولو كانت في محيط صغير