د. إبراهيم علوش
علينا أن نعترف أن إرسال ريم رياشي، أم الولدين، لتنفيذ عملية استشهادية كانت له أكثر من فائدة على إرسال شابة عزباء أو متزوجة دون أولاد.
وأول هذه الفوائد هي الرسالة التي يتضمنها استشهادها للمستعمرين الصهاينة عن مدى تصميم الشعب الفلسطيني على تحرير أرضه بأي ثمن. ولنا أن نتخيل حالة اليهود وهم يحاولون استيعاب صعوبة القرار عند تلك الأم الاستشهادية مما يعادله فقط تصميمها على رحيلهم من أرضنا، وتمسكها بخيار الاستشهاد. واعترف أني لم أكن منتبهاً لهذه النقطة في البداية حتى وجدت من أوضح لي: الوطن ليس فقط أغلى من الحياة، بل أغلى من الأولاد عند الأم. هذا هو مقدار محبتنا لفلسطين. والرسالة تعادل قنبلة نووية معنوية عند المستعمرين.
الفائدة الثانية هي أن ما قامت به الاستشهادية ريم الرياشي، إذ يأخذ الشجاعة ونكران الذات إلى أقصى مداهما، هو تحدٍ مباشرٌ لرجولة كل رجل عربي ينقاد كالخروف تحت سياط العسف الداخلي والخارجي في الوقت الذي يمارس فيه رجولته على أمثال ريم الرياشي التي كشفت بتضحيتها العظمى مدى هشاشة مفهومه للشرف إذا لم يتحرك فوراً للدفاع عن حقوق الأمة. فهي رسالة بالدم لكل رجل عربي هزتنا جميعاً.
والفائدة الثالثة للنساء. فريم تقول لهن أنهن يجب أن يكن مجاهدات أيضاً، وأن شيئاً لا يعفيهن من تلك الفريضة. ويسجل لحماس في هذا المضمار أنها غيرت موقفها السابق من النساء الاستشهاديات بإرسالها ريم الرياشي في عملية مشتركة مع كتائب الأقصى، وهو ما يمثل تطوراً إيجابياً بالنسبة لدور المرأة في العمل الوطني عامةً والاستشهادي خاصةً. واسأل المعترضين هنا: لماذا لا نعترض إذا استشهد أب، ونعترض إذا استشهدت أم ما دام الجهاد فريضة على كل مسلم ومسلمة، وعربي وعربية، عندما يتعرض الوطن للغزو؟!
رابعاً، لم تلمس تضحية ريم الرياشي قلوبنا فحسب، بل جعلت أصحاب الضمائر الحية في الغرب يتفكرون. وكان من ذلك، تصريح النائبة البريطانية جيني تانغ أنها كانت ستصبح استشهادية لو كانت فلسطينية، وإصرارها على ذلك التصريح بعد فصلها من حزب الأحرار الديموقراطي الذي كانت الناطقة الرسمية باسمه حول شؤون الطفل. ويا حبذا لو أرسلنا رسائل تضامن إلى تلك النائبة على موقفها، ويمكن مراسلتها عن طريق العنوان التالي: tonge@cix.co.uk
خامساً، علينا أن نفهم الحالة العامة في فلسطين التي تدفع بعشرات الآلافمن نساء ورجال شعبنا هناك أن يصبحوا استشهاديين. فالاستشهاد عندهم صار حلماً لا تضحية، وأضحى فناً للحياة كما يقول المخرج إياد الداود، وأمسىالاستشهاديون والاستشهاديات طبقة النبلاء في الشعب الفلسطيني، وبتنا جميعاً أمامهم عاشقين.
وأهمية هذه القنابل البشرية لا تنبع فقط من دورها الاستراتيجي في تعديل ميزان القوى لمصلحة الشعب الفلسطيني، وفي ضرب نقطة الضعف الأولى عند العدو وهي العنصر البشري، وفي إفشال مخططات إخضاع الشعب الفلسطيني سياسياً أو أمنياً تحت عباءة العملية السلمية أو السور الواقي أو غيره، وفي شلّ تذبذب القوى التسووية في الساحة الفلسطينية الساعية إلى إيجاد دور لها ضمن المنظومة الإقليمية، وفي تحريك الشارع العربي، وفي خلق حالات شقاق في صفوف العدو مثل الامتناع عن أداء الخدمة العسكرية في الضفة الغربية وغزة، وغير ذلك كثير... إن الأهمية الأولى لتكتيك القنابل البشرية والدعم الشعبي العربي والفلسطيني العارم لها ينبع من تعبيرهما عن فهمٍ عميق لطبيعة الصراع على أنه صراع تناحري ضد الوجود اليهودي في فلسطين بالأساس، لا فرق في ذلك بين من يسمون مدنيين أو عسكريين، فكلهم غزاة، وجودهم بحد ذاته على أرض فلسطين يصب في تحقيق الهدف الاستراتيجي الصهيوني بتهويدها.
وها هو الشعب الفلسطيني يقدم مجدداً، من خلال أمثولة ريم رياشي، سبقاً جديداً للعرب والمسلمين وكل مضطهدي هذا العالم في الكفاح الشعبي المسلح, وإني مذ بدأت الانتفاضة لم أعد أرى مثلاً نضالياً يبزّ الاستشهاديين والاستشهاديات، ولم يعد غيفارا يملأ عيني ولا غيره مع احترامي لهم جميعاً.
فقد تجسدت الملائكة في زماننا في قوالب الاستشهاديات، وحطمن بلحظات في آنٍ معاً كل سخافات النماذج التجارية وقيود العصور. وهن يدعين الرجال والنساء أن يسيروا على خطاهن، فهل من مجيب يا أمة المستضعفين؟