بتـــــاريخ : 11/22/2008 10:08:21 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1418 1


    موت السيد المسؤول

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد عادل عبد الخالق | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    قال له رئيس المكتب بلهجة حيادية: سيادته مشغول، عنده اجتماع. ثم أردف قائلاً: إذا أردت الانتظار فأهلاً بك.‏

    غاص قلبه بين ضلوعه، فلقد كان يخشى هذا الموقف خشية مرضية. ألقى بجسده المتعب على أحد المقاعد الوثيرة، وحاول جاهداً أن يوقظ الأمل بمقابلة صديقه السيد المسؤول، فما زال أمامه ثلاث ساعات حتى نهاية الدوام الرسمي. كان فيما مضى يستطيع زيارة صديقه في منزله، فيما إذا حدث طارئ حال دون مقابلته في العمل، أما الآن وبعد التغيرات التي طرأت على علاقة صديقه به، لم يعد يفكر بذلك مهما كان الأمر خطيراً أو مستعجلاً. كما أنه لا يستطيع البقاء يوماً آخر، فإجازته يوم واحد مما فرض عليه السفر من بلدته فجراً كي يصل إلى المدينة الكبيرة قبل الظهر، عندها يتاح له متسع من الوقت وتتزايد فرص اللقاء بصديقه. وبمرور الوقت يتنامى قلقه، يلقي نظرات متكررة على ساعة يده، يتمنى من كل قلبه أن يسمع ما يشعر بانتهاء الاجتماع. يقنع نفسه بعد استعراض شتى الاحتمالات بحتمية المقابلة، إذ لا يمكن لصديقه أن يرفض استقباله مهما كانت الأعذار، خاصة بعد توقفه عن الزيارات مدة سنتين تقريباً. وفي الحقيقة لم يكن التوقف عن الزيارات أمراً عفوياً، بل كان قراراً اتخذه في أعقاب زيارته الأخيرة لصديقه المسؤول. كان يتمنى من كل قلبه أن لا يتراجع عن قراره ولكن إلحاح ابنه ولمدة شهور ومطلبه الحق كانا وراء تغير موقفه. قال له ابنه منذ أيام: "منذ سنة وأنا عاطل عن العمل، الاعتماد فقط على شهادتي الجامعية وهم وسراب، كثير من الجامعيين لايجدون منذ سنوات ما يسد الرمق، لا بد من واسطة في هذا المجال، وأنت خير من يعرف ذلك، فلماذا لا تطلب من صديقك السيد المسؤول مساعدتنا؟ إنه يدرك أن راتبك وأجور العمل الإضافي بالكاد يفيان بالحاجات الأساسية للبيت، وإن تأمين عمل لي قد يخفف عنك بعض الأعباء، وهو في كل الأحوال بمثابة أخ لك، فلماذا توقفت زياراتك له في الفترة الأخيرة؟ أرجوك أن تساعدني، أرجوك أن تسافر وتشرح له مدى حاجتي لعمل يمكنني من الاعتماد على نفسي وبالتالي التفكير بالزواج، فلقد بلغت الثلاثين من العمر. أنا واثق من مساعدته، إنه يحترمك ويقدر أنك أمضيت زهرة شبابك في الدفاع عن كل ما تؤمن به من مثل عليا بكل شرف ونبل، دون التفكير بمصالحك الشخصية، ألم يساعدك في الماضي؟ ألم تحدثني أنه قال لك ذات يوم: إنك الأخ الذي لم تلده أمي".‏

    لم يجب، صمت كصخرة، لا يريد أن يطلع ابنه على الطعنة التي تلقاها من صديقه السيد المسؤول في تلك الزيارة، والتي جاءت في أعقاب سلسلة من المواقف المتسمة بالبرود الشديد، ففي ذلك اللقاء قال لصديقه وهو يهم بمغادرة المكتب الفخم بعد ثلاث دقائق من دخوله:‏

    -لم أتصور في يوم ما أن تصل علاقتنا إلى هذا المستوى من التردي، لقد انتظرت ساعة كاملة قبل السماح لي بمقابلتك، إنني أقدر مسؤولياتك وما يفرضه مركزك من تبعات، إلا أن ما يؤلمني مشاعرك، طريقة تعاملك معي، لقد حولتني إلى مجرد مراجع..‏

    قاطعه بغلظة وهو يرد عليه بلهجة انفعالية:‏

    -هل تريد أن أترك أعمالي وأن ألغي مقابلاتي الرسمية لاستقبل "حضرتك"؟‏

    عندها لم يجب، ودعه ثم غادر مطعوناً كسير النفس.‏

    وها هو الآن وبعد أن ماطل ابنه شهوراً عديدة يعود عن قراره، ويجلس في انتظار صديقه المسؤول. يتمنى من كل قلبه أن يصحو الماضي في ذاكرة صديقه. كم كان الماضي عبقاً بالذكريات العذبة! وكم كان مفعماً بآلاف المواقف التي وحدت بينهما في كل شيء! نشأا في حي واحد، درسا في مدارس واحدة، اعتنقا نفس الأفكار والمبادئ، حتى أنهما تابعا الدراسة الجامعية في نفس الاختصاص. وكان كثير من الناس يعتبرونهما توأماً. وحينما بدأا حياتهما العملية ظهرت الاختلافات، ولكن مشاعر الصداقة العارمة حالت دون القطيعة بينهما. ذات يوم قال له صديقه:‏

    -تلازم القول والفعل في حياتك مثل يحتذى، إني أحترم مبدئيتك، أما أنا فمختلف عنك، هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، ولكنني سأبقى صديقاً وفياً لك، هذا قدر، أنت أخي الذي لم تلده أمي.‏

    بعد ساعتين أو أكثر يغادر رئيس المكتب الغرفة، فلقد استدعاه السيد المسؤول، عندها تتداخل بعنف مشاعر الأمل بمشاعر الإحباط في أعماقه، فالدوام قد قاربت نهايته. وما أن يرى رئيس المكتب يخطو خطواته الأولى في الغرفة حتى يقف ويده على قلبه ويسأله بلهفة مكبوتة: هل لي أن أقابله؟‏

    فيرد عليه رئيس المكتب بلا مبالاة: ليس لديه وقت لمقابلتك، إذا كان لديك ما تطلبه سجله على ورقة وسأضعها في بريده.‏

    صُعق، امتقع لون وجهه، تصبب العرق من كل خلية من خلايا جسده، كاد أن يغمى عليه، تمالك نفسه إلى أن احتضنه الشارع. ومن خلال الدموع الغزيرة التي أغرقت وجهه، رأى جنازة حاشدة، فاندفع وراءها بعفوية، وكأن الميت صديق قديم

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()