بتـــــاريخ : 11/18/2008 5:26:37 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 991 0


    صباح الخير

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ظافــــر الـنجــــــار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    لم أكن أحلم، ولا أتذكّر، ولا أفكّر، ولا..، ولا.. مجرّد وجه عائم في زحمة الباص الداخليّ، تخلّى إلى حين، عن كل شجونه، تحمله عينان مفتوحتان على آماد لينّة وسلسة وغير محدّدة، وتلفحه غيمة بيضاء بوجه امرأة.‏

    "...تعال.."‏

    كنت أسوح بعينيّ طفل لا يريده أحد، فالتقطتني عيناها. ونظرتها العسليّة تفيض وتحطّ على وجهي.‏

    وعيناي تتشربانها بإحساس حلو بدأ ينسرب إلى روحي قطرة قطرة.‏

    ".. تعال!."‏

    وجئتُ. لم أرَ أيّة فسحة حولها، فالباص يغصّ بالركّاب. وثمة ثلاثة مقاعد تفصلني عن مقعدها العرضيّ المقابل.‏

    ".. ألا ترى كم المكان واسع؟!"‏

    أعفتني العينان العسليّتان من أيّ شعور بالحاجة لما يسمّى بحسن التصرّف أو سوئه، أو ... أو.. احتضنتاني بحنّو الأم، هدهدتاني وقالتا: نام، لم أنتبه إلى أنني اتكأت على جاري العجوز.‏

    نمتُ بعينين مفتوحتين، ممتلئاً برضى طفليّ، أعاد لي وجه أمّي، وكل الوجوه التي تستطيع أن تمنح روحي السلام.‏

    وعدت ذات الطفل الذي استجاب يوماً لنداء طفولته وراح يكتبُ أول رسالة حب.‏

    يومئذ، كل رهافة الأحاسيس التي خلقها الله، وكل صدقها، كانت تصوخ مشاعري.‏

    لكن قلمي البائس، ومفرداتي المدرسيّة الضحلة، التي زوّدتني بها إعداديّة القرية، جعلاني أرتبك، وأعجز عن صياغة ولو بعض ما أشعر به.‏

    وضبطتني أمّي. كان وجهي الفاضح قد أثار ريبتها.‏

    -شو عم تكتب؟‏

    -والله لا شيء.‏

    -هات لشوف.‏

    يا ربّي كم خفت أن تقرأها: ناسياً أن أمّي أميّة.‏

    -شيء خاص. قلت ذلك بنبرة اختلط فيها العناد بالرجاء. فكررتْ غير فاهمة ما أعني: خاص؟! والواقع أن أمي من تلك الأمهات اللواتي لم يسمح لهن بأن يعشن الخاص. حتى أحاسيسهن تحوّلت إلى أشياء عامّة، وما لم يستطع التحوّل مات. في أعماقهن توجد جثث، وأنا لا أريد ذلك..‏

    لا أريد. طبعاً لم أرسل الرسالة.‏

    "... إنها بحاجة إلى تعديل".‏

    ذلك ما أقوله لنفسي إثر كل محاولة، دون الاعتراف صراحة بخوفي.‏

    ... كل الحق على هيام.‏

    أكان من الضروري أن تنتظر لأكتب وأمزّق نفس الرسالة عشرات المرات؟!.‏

    هيام الذكيّة والجميلة، والتي حصلت مثلي آنذاك على الإعدادية، ألا تستطيع قراءتها دون أن أكتبها؟؟‏

    إنها واضحة جدّاً يا هيام!!‏

    .. هيام.. أين أنت اليوم؟ وكيف حالك؟‏

    تعالي لنبوح، ماالذي سنخسره بعد؟‏

    ياربّي كم أرهقتُ نفسي حتى استطعت أن أقول لك:‏

    صباح الخير:‏

    -صباح الخير. أجبتِ بخفر، وهربتِ مخفيةً وجهاً ملتهباً من الحمرة، وابتسامةً ظننتِ أنّي لم أرها.‏

    تلك الابتسامة التي حفرتِها في ذاكرتي كوشم بدويَّ لا يمحى.‏

    ألا تذكرين؟‏

    ومرّة كدت أعهد لأختي بتسليمك الرسالة، لكنني تذكّرت أن ذلك عيب.‏

    يقولون: يدرّب أخته على الحبّ.‏

    فتراجعت مذعوراً. مع ذلك ضطبتُ عينيّ أختي وهما تغزلان حكايات رذيلة. كانت وحدها، وكانت عيناها تشبهان عينيّ وأنا أكتب رسالة الحبّ.‏

    شهقتْ وهي تراني. فقالت لها عيناي:‏

    ".. لن أذبحك.. لاتخافي... لا تخافي."‏

    مع ذلك خافت. عيناها ذكّرتاني بعينيّ خروف العيد، وارتعشتُ، رأيت الدم يفور، يأكل عينيّ، ويضيّع وجه الخروف الذي لم يعد يراني.‏

    .. أية لعنة ساقتني إلى مشهد الدم؟ وإلى الكوابيس التي لاتزال تحاصرني وترعبني؟؟ رغم أنني بتّ في الأربعينات من عمري، ولي أطفال، وزوجة اسمها ياسمين. لا أدري من ولماذا سمّوها ياسمين.‏

    مثلكِ عيناها عسليتان، ومثل عينيك تفيضان بالنظرات الحلوة التي تغسل قهري، وتسكر روحي، وتقولان لي: نـ...ام.‏

    أنت الآن أم، وإلى جانبك طفلان جميلان، لا يهمّني من يكون أبوهما، أنت أمّهما، وهذا يكفي. لايضيرني أن تكوني متزوّجة، أو عازبة، عمرك ثمانية عشر ربيعاً أو أربعين، فأنتِ أنتِ وهذا يكفي... ويتململ جاري العجوز، دافعاً إيّاي بحركة خرقاء متأفّفة، عكرّتْ ترتيب الأشياء والعالم.‏

    لايهم، فثلاثة مقاعد فاصلة ليست بشيء.‏

    لا.. لا تعكرّي صفو عينيك، ولا تأبهي لحركات الباص الخرقاء.ليقف إن شاء، أو ليتحرك.. أو.. أو..ليذهب إلى الشيطان، ما علاقتنا به؟!‏

    "- ستزلين؟.. وأنا أيضاً."‏

    لم يكن ثمة زمان ولا مكان، ثمة عينان عسليّتان، ووجه نبويّ رائق، وطفلان، وأنا، مع فيض من مشاعر عذبة ودافئة تغصّ بها روحي.‏

    واحتوانا الشارع.‏

    شارع ككل الشوارع، بناسه وهمومه، و....‏

    لا يهمّني اسمه، ولا إلى أين سيؤدي، وخطواتي الواثقة تعرف طريقها في هذا المدى العسليّ، جنباً إلى جنب مع.. ؟؟ لا أعرف اسمها بعد، ثم ماقيمة التوقّف عند الأسماء؟ حتى زوجتي لا تعرف من ولماذا سمّوها ياسمين، ولا هيام، ولا أمّي، ولا أنا.‏

    حتى الطفلان لم يهتمّا بالأسماء، وهاهما يتطلعان إليّ آه كم أتمنى لو ألعب معهما لعبة الاستغماية.‏

    بالتأكيد كان أحدنا سيختبئ ملتصقاً بإحدى جهات أمّهما. وبسرعة سنكتشف بعضنا ونضحك، وستضحك منّا ومعنا.‏

    لِمَ لا؟ كلّنا جائعون للضحك، ولدينا متّسع من الوقت.قد أكون مخطئاً. فالوقت خبيث، وقد لايتحمّل مسؤولياته تجاه مشاعرنا كبشر، هذا ما تقوله العينان العسليّتان وهما تصعدان إلى باص الكرنك، الذي كُتب فوق مقدمّته، وبالخط العريض.‏

    دمشق -عمان‏

    عمان؟! تساءلت عيناي بقلق وبدهشة قاتلة لم ترها، لكنّها أحسّت بها. إنني أجزم بذلك. فحجم دهشتي لا يمكن أن يحجبها ذاك الرجل الأصلع الذي كان كالسكين بانتظار عينيّ! والذي صعد إلى ذات الباص بصحبتها وصحبة الطفلين.‏

    كنت على وشك الصعود عندما تذكّرت أنني لا أستطيع. اللعنة على "تذكرت" وعلى "لا أستطيع" اللتين أحبطتا قدرتي ولو على الصعود إلى باص "دمشق- عمان" تاركين مجرد رجل أصلع يصادر كل هذا الفضاء العسليّ!!‏

    ".. ولماذا عمان فقط؟!"‏

    طبعاً لم يعد ثمة وقت للأسئلة. لا وقت لأي شيء أبداً:‏

    بسرعة ووقاحة تحرّك الباص، وحتى قبل أن أقول لها: صباح الخير: تاركاً لي تلويحة يد قطعة يد فقط، ومختلسة، ورائحة عينين عسليّتين لازالت عالقة بكل باصات "دمشق- عمان"‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()