بتـــــاريخ : 11/22/2008 9:10:58 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1060 0


    سائق العربة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : غسان حنا | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كانت العربة بلا حصان.. الرجل الرّبع الذي يجرّها يعرض الفكرة كالآتي: لماذا أكلّف نفسي أعباء الحصان.. ولديّ كل مقوّماته.. قد لا نقتنع بهذا الكلام ولكنّه منطق يستدعي الاحترام. يضيف الرجل القليل الكلام: طعامي يكفيني لأجرّ العربة فلماذا أتكلّف بزاد الحصان.. يُخيّل لمن يراه عن بعد أنّه أحد الباعة المتجولين.. لكنّه حين يقترب تعتريه الصدمة: عربةٌ كالقاطرة.. ليست للخضرة أو الألبان والأجبان أو الحلوى أو أيّ شيء.. الإحراج ليس له فائدة ومضايقة السائق ليست من مصلحة أحد.. العربةُ في هذا الوقت تدخل شارعاً ليس للفقراء فيه إلا التبصرّ والتحسّر.. وربما النقمة والحقد.. يتسبّب مرورها بعرقلة السير.. السائق غير مكترث.. كأنّه وحيد بعربته في هذا العالم.. سائقو السيارات الوثيرة المحتجزة خلفه يمطرونه بالعبارات النابية.. غليظ، ثقيل الدم، مزعج، يعلو المعيار قليلاً.. أبله، معتوه، مجنون، يبلغ المعيار حدّه الأقصى.. حشرة، تافه، حقير، أين شرطة السير حتى تكنسه من هذا الشارع الذي لم يخلق له.. رجل السير يتذّمر فالتعرفة التي ألزم السائقين بدفعها كجزية.. لا تحترم.. يضع الشرطي ربع ثمن حذاء لابنه في جيبه: أف.. عملتنا أصبحت مقرفة، تقذفه أنفاس الشاتمين ليزيح من طريقهم هذه العربة القذرة.. يصرخ ولك أنت مجنون.. ما عيب عليك تمرّ من هذا الشارع ما بينفع معك إلا الضبط.. سحب دفتر الضبوط واندفع إليه مزمجراً مصمّماً على أن تكون هذه إحدى المرات القلائل التي يجازف فيها بتطبيق القانون.. ماذا.. يطبق القانون؟.. ما يملك هذا البائس ليعطيه؟.. الثياب المهترئة المعلقة.. الصفائح الصدئة.. الأعلام الممزقة.. القدور العتيقة..‏

    يكفي.. يكفي.. قال الشرطي المخذول في نفسه ولم يجد مفرا من مساعدة الرجل على جرّ عربته حتى المنعطف التالي..‏

    نفر من أهل المدينة يعرفون هذا الرجل دون أن تغوص معرفتهم إلى تحديد الأسباب التي ألحقته بهذه العربة، يتكهنون ويجتهدون، ويذهب بعضهم إلى الظن أنه ضحية إخوة تآمروا عليه فسلبوه حصته من الإرثّ، وسلبه ضياع الإرث عقله؟ فلما هام على وجهه دافعوا عن تصرفهم قائلين: أيعطى المجانين إرثاً، ويمنحنون حظ العقلاء.‏

    وهناك من يقول: إنه إحدى ضحايا الحرب اللبنانية، لم تبق القنابل له لا بيتاً ولا أهلاً ولا عقلاً هرب من بلده واستمر هارباً في ذاته.. ورأي أخير يؤكد: أنه آخر بني عذرة العشاق في هذا العصر.‏

    قرار الرجل ليوم الغد: المبيت على شاطئ البحر، ولا بد أن يتحرك منذ الآن لبلوغ هدفه في الوقت المطلوب.. يجري جملة من التعديلات على هيئة العربة لتنسجم مع متطلبات السفر الطويل.. يرفع علمين في مقدمة ومؤخرة القاطرة: أبيض وأسود، وعلى العارض الجانبي يضع صورة لطفل يطيّر ماء.. القاطرة تزحف شمالاً والسائق الذي يرتدي بنطالاً قصيراً وسترة داكنة يثير استغراب العابرين: هذا الرجل لا يزعج أحداً، أنّى له الطعام؟ يبدو أنه لا يحزن ولا يفرح ولا يعاتب ولا يغضب، ولا يأسو ولا يتذمّر.. لا.. أنتم على خطأ.. كلّكم يرى فيه مجنوناً، وأنا لا أرى في ملامحه إلا تقاسيم عاشق.. وشفقاً لرحيل امرأة..‏

    صاحب هذه الكلمات الأخيرة بائع ورود ليس بحاجة إلى النقود فقط.. بل إلى أريج نسائي يهتدي من خلاله إلى عطر محدد.. يشعله بامرأة ليس مقتنعاً أنها لن تعود.. يضع قبضة يده تحت ذقنه مشيّعاً ظلَّ العربة على الغيوم وحنينها في ذاكرة التراب.. البحر يراقب الحافلة من وراء الرافعات والمخازن والسفن الراسية.. وكان فيما مضى ساهراً في أشواق رواد المقاهي، ومستدرجاً حسناواتها إلى رذاذ القبلات المنعش، وأنامل النسائم الحائرة بين رقص وهمس.. سائق العربة يقرأ نعوات الموتى على الجدران التي تواكبه.. يتوقف مقابل إحداها طويلاً.. ولا ينتهي من القراءة.. أحد المارة يتساءل: قراءة ما كتب لا يستغرق إلا دقيقتين أو أقل، ما باله يتمتم منذ ربع ساعة؟‏

    يرفع السائق قبعته المائلة والمثقوبة وينحني أمام النعوة ثم يستأنف السفر..‏

    يخرج من المدينة، وتخرج المدينة منه، ماء البحر لا يحتمل إلا العراة.. وملوحته تساعد على تخفيف الوزن والدم معاً، والكابتن يرفض إكمال الطريق مجروراً بإحدى الشاحنات الصغيرة.. لعله يخشى من وسيلة لا تتوفر في أي وقت. أو أنها تجرّه خلفها باحتقار.. ومتى شاءت قطعته. تجتازه سيارة جيب مكشوفة ينحشر فيها شباب وصبايا يلوحون بأيديهم ويهزجون.. يشعر بالحاجة إلى الموسيقى، لو كانت الموسيقى نباتاً لزرعها في أذنيه وعينيه وكفيه.. لكن الموسيقى نهر.. يهرب من كل زوارقنا حين ندير القهر عليه.. بضعة أمتار ويرقد تحت الجسر الأخير، لا.. ليس الموت.. فالموت بعيد على الأشقياء، وليست الجسور كلها محطات للحزن..‏

    تدخل الحافلة المزركشة حرم مسبح شعبي، يقوّم ظهره المنحني، يتنفس عميقاً، تلفت انتباهه تلك السابحات بكل ثيابهن، وقد اختلطن بمن يرتدين المايوهات المصنوعات من قصاصات قماشية ماذا سيحدث.. إذا أرسى العربة في مكان حيادي ليس من عقار المسبح ولا الشاليهات، وألقى نفسه في البحر بينهن؟.. ستعلو صيحات الاستهجان: حيوان بشكل إنسان.. خنزير برّي.. لقد وسّخ البحر.. من سمح لـه بالدخول.. السباحة مع أمثاله عار وقد يندفع قباضايات المسبح لنسله كالدودة من الماء، وتوشيح جسده بكدمات دامغة كتعدد التواقيع والأختام فوق المعاملات الرسمية. دون نتيجة مجدية.‏

    هذه التصورات الدرامية انتهت بخاتمة كوميدية غرق صاحبها في قهقهة متواصلة لدقيقتين من الزمن.. حين توقع نفسه محمولاً فوق الأيدي كزعيم سياسي.. لم ينعم بأمجاد الولاء والتكريم طويلاً... أجرى قياسات وهمية أسفرت عن تثبيت قاطرته في مكان متوسط.. وعلى الفور أنزل القوائم، فتح النوافذ الجانبية، عدّل في وضع الأعلام، أفرغ صندوقاً صغيراً من عدة الإصلاح وشرع يداوي بعض الأعطال الناشئة عن السفر المديد، انحنى، تقوّس، استقام، وضع كفيه على خاصرتيه، قرفص، ركع على ركبتيه، استدار حول العربة، استلقى إلى جانبها، وأخيراً نهض نافضاً كفيه، مبتهجاً للصيانة الشاملة التي نالتها القاطرة، منصرفاً إلى وجبة تقتصر على الخبز، وقطعتين صغيرتين من الجبنة، شرب، مدّ بساطاً بموازاة العربة واستسلم لنوم عميق.‏

    لم يرق لإدارة المسبح، وأصحاب الشاليهات المحيطة وقوف العربة في مسرى النظر، واعتراضها الذوق كمقطع من بناء خرب تسكنه الأشباح، ولم يكن الرجل ممّن تستهويه النساء، ويسكت عنه الرجال.‏

    لكن الأمر الذي لم يكن في الحسبان احتفال الأطفال به وحنوّه عليهم، وتأثرهم لفقره، وتحذيره لهم من قذارة العربة، وتجنّب مصافحته حرصاً على صحتهم.. منهم من حمل إليه الطعام، ومنهم الماء المثلج، آخرون أتوه بالصابون ليغتسل، فتاتان حملتا إليه بنطالاً وقميصاً جديدين، على أمل أن تحملا إليه في المرة القادمة حذاء مناسباً.. في اليومين التاليين شاهدوا منه ما حيّرهم: رفع فوق القاطرة أسلاكاً تشبه الهوائيات في أجهزة الرصد والمراقبة أو الاتصال، يجلس تحتها على كرسي قصير القوائم ثم يضع ما يشبه كاميرا الهاتف على فمه.. ويتمتم.. لنصف ساعة وأكثر.. تكررت الحادثة، وزادت تساؤلات المراقبين، واعتبر ما يجري خطيراً.. بل خطيرا للغاية.. لا يحتمل الإهمال والتأجيل.. فالرجل الذي أوهم الناس ببلاهته وجنونه، واستدرّ عطفهم بمأساة حياته لا يعدو كونه مشبوهاً يتصل بجهات معادية.. منع الأطفال من ملاقاته، وحُرِّم عليهم التداول بما ألقاه عليهم من قصص ونوادر.. ووضع تحت المراقبة، وتم إبلاغ الجهات الأمنية عنه..‏

    لقد وجدوها مناسبة للتخلص منه ومن عربته.. أحاط رجال الأمن به.. صاح به أحدهم: أنت فلان؟‏

    فأجاب: أنا سائق العربة.‏

    -وسائق العربة من يكون؟‏

    -لا أدري اسألوا العربة.‏

    وجد أحدهم في أجوبته سخرية منهم فرفع يده لصفعه لكن رئيس المجموعة الأمنية نهره قائلاً: لا تتصرّفوا برعونة وقلة مسؤولية.. الرجل بريء حتى يدان.. تقدم منه بلطف ثم بادره:‏

    -يا عم أنت مطلوب للتحقيق.‏

    -لأي أمر يا سيدي؟‏

    -في المركز نخبرك‏

    -لكني أخشى من ترك العربة وحيدة.‏

    -أهي مخزن للجواهر، حتى يضنيك تركها!!‏

    -هي أكثر يا سيدي.‏

    فرك الضابط عينيه علّه يرى حقيقة هذه الحافلة لكن شيئاً ممّا رآه في السابق لم يتغيّر.. حتى مقابر السفن والآليات لا تقبلها.. وفهم في أعماقه ما تمثّله هذه العربة في حياة الرجل..‏

    أمر الضابط بجرّ العربة إلى موقف جانبي، وأوصى مخفر الحيّ بها.. ودلف الجميع إلى سيارتين أقلّتهم إلى مركز التحقيق.. في الطريق كان "الكابتن" يبكي على غير عادته.. العربة لا شك مستوحشة.. حزينة.. من يا ترى يعبث بها الآن.. لعلّ الأطفال يسألونها عنه.. مسح الدموع.. توسل أن تُحرّر يداه وأن تفتح النوافذ لالتقاط ذرات من الهواء النقي فأسكته الرجل المحتقن عن يمينه:‏

    -مجرم.. عميل.. ويطلب حرّيةً.. وهواء نقياً‏

    -يا ساتر يا رب.. يا ملائكة.. ويا شياطين.. ماذا جنت يداي.. لعلّي وراء مظالم العثمانيين، ومجازر النازيين، ومصائب المستعمرين، ومجون العهّار..‏

    في هذا الوقت كانت العربة تتعرّض لأقسى امتحان منذ تركيبها، وكان الفحص والتدقيق يتمّان برفق وعناية بالغين وبأجهزة حديثة معقدة.. وقد غُسلت الأيادي لمرّات.. وزكمت الأنوف من العفن والعطن، ونقعت بعض الصفائح بسوائل كيميائية، وحلل المنقوع في المختبرات.. وقلبت العجلات المطاطية، وكسرت بعض العوارض الخشبية لتفقد أحشائها وقد جاع أحد الفاحصين فأكل الخبز والجبنة..‏

    أمّا في غرفة التحقيق فقد تدرّج الاستجواب من الاحترام واللين إلى التحذير والتنبيه إلى التقريع والتوبيخ إلى الترهيب والترغيب إلى الوخز والقرص إلى رعشات كهربائية خفيفة، إلى.. إلى.. إلى الإغماء.. صحا من غفوته القسرية وهو يهذي.. عربتي، حياتي..‏

    قال كبير المحققين: هذا الرجل، قوي الشكيمة، شديد العناد.. لا يمكن أن يعترف إلا بالأساليب التي يتضمنها الكرّاس رقم ثلاثة مكرر.. ضابط الأمن الذي اعتقله كان له رأي آخر لكنه لم يعترض. سيق الرجل معصوب العينين إلى القبو الشرقي.. القبو الشرقي ليس معزولاً عن زنزانات المعتقلين الفردية أو الثنائية أو الجماعية إلا بالرؤية.. أما الهديل والحفيف والصهيل والعواء والعويل والمواويل والموشحات.. فهي من امتياز هؤلاء المعتقلين، وتحت تصرفهم نهارا وليلا فقط..‏

    من تعرف؟ ما تجهل؟ أهلك؟ أصدقاؤك؟ أعداؤك؟ طعامك المفضل؟ شرابك المرغوب؟ زمرتك الدموية، نمرة قدميك؟ كم مرة مارست الجنس؟ مع من؟ ما تقرأ؟ ما تكتب! لغاتك الأجنبية؟ سجلك العدلي؟ محفوظاتك؟ منسياتك.. عمرك! المناصب التي شغلتها! المراتب التي بلغتها! أموالك المنقولة وغير المنقولة! البلدان المدن والقرى والفنادق التي زرتها؟ مطربك المحبوب! التدخين؟ المخدرات! وضّحْ، أعدْ، كرّرْ، اعترفْ، دافع عن نفسك، قلْ ما عندك حتى تعود إلى عربتك.. لا شيء.. إذا خذ.. بتستاهل.. عنيد.. وغد.. ساقط..‏

    إغماء آخر+ تورم شديد في العين اليمنى + كسر في أحد الأصابع+ تشقق في بطن القدمين + أمر بإخلاء السبيل لعدم ثبوت أي دليل عليه.‏

    الضابط الذي اعتقله على الشاطئ استضافه في مكتبه موصيا به أحد الأطباء، ودسّ في سترته مبلغاً من المال، واعتذر له أحرّ اعتذار عمّا تعرّض له، معتبراً أن الوشاة والمخبرين يتحمّلون المسؤولية كاملة، والجهات الأمنية مرغمة على اتخاذ التدابير المناسبة للحفاظ على أمن البلد من العابثين المخرّبين المتواطئين مع الأعداء.. لكن أولئك المخبرين الوشاة سينالون الجزاء المناسب.‏

    لم يرفع سائق العربة رأسه، ولم ير وجه الضابط المتحدث، ولم يفهم ممّا قيل شيئاً.. ولم تصدر عنه أية إشارة.. لكنه تحسّس مصدر الضوء في الغرفة فأجبر عينه غير المكدّمة على تسريب نظرة ذابلة، ثم باعد ما بين قدميه قليلاً، طلب شربة ماء، أشار على الضابط برغبة الانصراف، ضغط الضابط زر الجرس... دخل أحد الرجال.. أمره الضابط بمساعدة الرجل على الخروج.. لقد شعر أنه يجرّ وراءه شيئاً ثقيلاً دون أن يكون عربة.. في التاسعة من مساء ذلك اليوم.. توقفت سيارة جيب على بعد أمتار قليلة من العربة، أنزل الرجل منها، واستدارت عائدة إلى حيث أتت.‏

    ها هي العربة من جديد، السائق يهجس: ربما ليست عربتي.. ماذا حدث لها؟ أتعرّضتْ أيضاً لمثل ما تعرّضت لـه، وخرجت بريئة..؟ مسكينة.. أتتألمين كآلامي..؟ ربما في علاجك علاجي فانتظري حتى الغد.. بصعوبة مضنية سحب البساط من أحشاء العربة المبعثرة، لعلهم قد فتشوه خيطاً خيطا وحين لم يجدوا شيئاً داسوه، عضّ على طرفه بأسنانه وراح يحبو لينشره، لكن الإعياء ناء عليه كالبعير الأجرب، فانهدّ فوقه والنوم يغالب الألم حتى تمكن منه أخيراً دون أن يستطيع كهف النوم طمس لا وعيه.. إذ اخترقت كثافة روحه وحركتها الدورانيّة حاجب الهمود، ونفذت إلى ساحة لا متناهية تعجّ بالعربات على مختلف أنواعها.. من عربات الأطفال إلى عربات الباعة، إلى عربات السفر، إلى عربات المحاربين، إلى عربات دفن الموتى.. وثمّة عربات تفتح جناحيها وتطير، وعربات تخبّ وتغرق وعربات تتصادم فتتفكّك وتتناثر أجزاؤها، عربات تتصل بأخرى وتتقاطر، وفيما بينها كلّها عربة غريبة تقف دون حراك، في دائرة لا تدخلها العربات الأخريات. حصانها يهمّ بالإقلاع ثم يعدل عنه، فوقها في الأعلى غمامة كأنّما شدّت إليها بحبال ضوئية شفّافة، الحصان ينظر إلى الأعلى، ثمّ يتطلع حواليه، وأخيراً يهمز رأسه إلى الأمام وينطلق بأقصى سرعته، مطلقاً صهيلاً كالإعصار في كيان العربات الأخر.. فيفتح له الطريق، وتخيّم حالة من الذعر والاهتياج.. خيول تجري في إثره، وخيول تطفر منه مذعورة وخيول تأخرت في تقرير موقفها، فديست وتحطمت.. وكانت هناك زمازم تمزّق الأفق بدوي متداخل، وأضواء تتعاكس كسباق نجوم كونّي..‏

    هبّ الرجل من حلمه الأسطوري وتلمّس عربته على الفور.. فإذا هي إلى جانبه، لكنّ عدداً من عصافير الدوريّ لم تتهيّب جسده الممدّد المتحطّب إعياء وألماً.. فهبطت تتنقّل بين أضلاع العربة المشلولة باحثة عن فتات تلتقطه، وموقع آمن لبناء أعشاشها، توكأ بعضه على بعضه ونهض.. كان البحر يناديه بأمواج متجادلة دون صخب، ونسائم صباحية كأنما مرّت على خواطر عشاق.. فاندغمت كأغنيات تنداح على سفوح ثلجية، اجتاحته رغبة عارمة في تحويل العربة إلى زورق.. لكن أنامل المياه تغوص في أدق المسام فكيف بعربةٍ لا تختلف عن نعش مُخَلّع.. والأطفال! والحقول على جوانب الطرق! والأرصفة المتناثرة بين المداخل والأبواب! والذكريات التي لا يقطعها ولا يعكّرها أحد! هل ينحاز إلى المياه ويتخلّى عنها؟ فجأة صحا على أمر كاد أن ينساه: المياه كالتراب سواء بسواء... اقتسموها.. ورسموا لها حدوداً إقليمية، وزنّروها بحرس الشواطئ المزوّدين بزوارق سريعة، وقد يُلقى القبض عليه بتهمة التهريب، والصيد الممنوع ودخول المياه الإقليمية لبلد مجاور.. إذا لا مهرب له من انتظار قدوم الأطفال علّهم يقترحون عليه حلاّ لأزمة العربة.. القاطرة المنحوسة تدعوه إلى التحرّك.. وهو يدعوها إلى التريّث لبعض الوقت.. وصوت واحد من أصوات الأطفال لم ينفطر في سمعه حتى هذه اللحظة..‏

    الآن عرفت.. لقد منعوهم من القدوم.. لكنّهم لن يمنعوني من الذهاب إليهم.. أليس كذلك أيتها العربة الشقيّة.. وسوف يرونني وهم في خيامهم أو خلف نوافذ الواجهات الأنيقة سأعلّم الأمواج كيف ترتقي الأدراج الرخامية لتعود بالأطفال إلى أسرّتها الأزلية في رياض النوارس وحدائق المرجان، سأعيد انتسابهم إلى عائلة الأشجار والأزهار، وأنحت مقاعدهم في الصخور المطلّة على وسامة الخالق، ومطلق غبطته، سأربط عربتي بالغيمة الحافلة الضروع بالأمطار، فأرضع لبن الضياء، وأطوف بدلوه على كلّ العطاش والمعذّبين.. سألتمس نذراً من النبوءة حتى أضع المستقبل أمام أعين السافكين أعمار البشر، المتوشّحين بدمائهم، والزارعين في النفوس أعشاب الخوف والعبودية.‏

    كلّ شيء فيه الآن يتكلم، وكالعرق يتراكم الكلام على جلده.. وكالمشيّعين كان الناس يتجمّعون حوله.. حدّق فرأى فيهم أباه وأمه وخلفهما بشر كثيرون من أقرباء وغرباء.. ويا للروع شاهدهم مشوّهين.. هذا بلا عينين، وذاك بلا أذنين، والثالث مجدوع الأنف، والرابع مثقوب الرأس، والخامس متضخّم في الوسط... دقيق في الأعلى والأسفل.. وبين الحين والحين تلهبه ومضات حنين لأناس.. لا يسمح لهم بالعبور إليه فيلوّح واعداً..‏

    في الرابعة من بعد ظهر ذلك اليوم.. غادر كل شيء المكان.. وبقيت العربة.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()