بتـــــاريخ : 11/22/2008 9:05:01 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1254 0


    ثمن الأب

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : غسان حنا | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    المشهد الأول... ربيع عام 1973‏

    -أنتم قادمون من اللاذقية.. أليس كذلك‏

    -بلى يا دكتور‏

    -وأبوك اسمه صديق.. مساعد أول في القوى البحرية‏

    -كما قلت.‏

    -أكان من أبطال حرب تشرين؟‏

    -لا يا دكتور.. أبي كان يتشرّف بهذا المجد... لكنّه وبالتواضع الذي جبلت فيه شخصيته يقرّ بأنه كان ضابط آليات لائق، وأنه قاد القاطرة التي تولت سحب عدد من القنابل الضخمة... التي قصفت طائرات العدو بها موقعاً في ضواحي المدينة..‏

    -أكان يشعر بالخوف الشديد والتوتر العالي وهو يقوم بهذا العمل المحفوف بالموت..‏

    -الخوف يا دكتور لازمة كل عمل هام فكيف إذا كان الحوار فيه مع الموت مباشرة... في قنابل غاصت في الأرض بضعة أمتار.. ثم حفر عليها سلاح الهندسة. وافرغ من حولها التراب وربط عقبها بسلك الرافعة التي يديرها والدي وحين كان يضغط على مقبض الرفع لشدّ السلك المعدني المربوط بالقنبلة.. يبتعد الآخرون عن دائرة الخطر.. ويبقى داخل هذه الدائرة ثلاثة: أبي... الله... الموت...‏

    -لا يستبعد أن يكون التوتُّر العنيف الذي عاناه لإنجاز هذه المهمة عاملاً مساعداً في النزيف المعديّ الحاد الذي أصابه.‏

    -أنت أدرى بهذه المضاعفات... لكن أبي أيضاً غادر بيت أبيه مبكراً..‏

    خدم في الجيش الفرنسيّ شاباً صغيراً يبحث عن لقمة العيش، وكان في عداد النواة الأساسيّة لتكوين الجيش الوطنيّ، اكتوى بنكبة فلسطين، واستمرّت الحرائق في الاعتداءات والانتهاكات الغادرة التي تعرَّضتْ لها المواقع الأمامية، في قطنا.. بلغنا أنّه قُتِل، في القنيطرة كنّا نحتضن السيّارات العسكرية لنشمَّ رائحته.. وكم استنفار مفاجئ شلعه من بيننا... وحرمه من إكمال الليلة الوحيدة التي أتيحت له بعد غيابٍ طويل.‏

    -والنتيجة‏

    -النتيجة أنه وضع حجر الأساس لمشاكل صحية قادمة في الجهازين الهضمي والبولي أوصلته إليك.‏

    القرار النهائي للطبيب الجراح هو إجراء عمل جراحي سريع لاستئصال التقرّح المعدي ومنع النزيف الدموي من إيصال البدن إلى الانهيار الشامل...‏

    (مستشفى المزّه) في دمشق أعلى موقع في منطقة سكنيّة تدعى بهذا الاسم أيضاً في هذا المشفى كان المشرف على عملية والدي قريبٌ يتولّى إلى جانب اختصاصه الطبي في علاج الأسنان وجراحتها مسؤولية إدارية هامّة في المشفى، أخبرني بعد تشاوره مع الطبيب الجرّاح أن العمل الجراحي لن يكون سهلاً والمفروض أن نضع الاحتمالات كلّها بعين الاعتبار...‏

    ملاحظة: قطنا والقنيطرة.. مدينتان في المنطقة الجنوبية المتاخمة لفلسطين المحتلّة..‏

    .. هززتُ رأسي كمن يُملى عليه درس يرغب ولا يرغب في سماعه، وسلّمنا الأمر لله وللطبيب.‏

    ساعتان ونصف انقضتا والعمل الجراحي كما أخبرني قريبي يقترب من نهايته، ولكنّ شيئاً من هذا لم يتم... وبين استغرابي والقلق الذي بدأ يرتسم على وجهه... لم أحتمل الصمت، توجهت إليه بقولي: عقارب الساعة قفزت فوق حاجز الوقت الذي حددته بكثير... هل هناك ما يشغل البال؟ تلفّت الرجل حوله وتأكّد من عدم وجود أحد في الغرفة كوالدتي على وجه التحديد، ثم اعترف بصوت متأثّر: بعد إكمال الجرّاح استئصال التقرّح المعدي، وقبل إقفال البطن مدّ يده لتفقّد الأمعاء فإذا هو يقع على كتلة كبيرة، نزل الأمر عليه كالصاعقة واستدعاني ليبلغني بالمفاجأة غير السارة..‏

    ذلك أنَّ المنطق الطبي يفترض البدء بالجراحة المعوية.. ثم الانتقال إلى المعدة... والأرجح تأخير الجراحة الثانية إلى وقتٍ مناسب.‏

    إنَّ ما سمعتُه لا يرغب أيُّ ابن في العالم أن يسمعه إلاّ إذا كانت أمنيته التخلّص من والده..‏

    .. لم تستأذنّي دموعي حين انسابت هادئة.. لتبلّلَ كلمات بطعم الموت: يا للوالد المسكين صحا على فقد أخيه الشاب بالتهاب الزائدة الدودية، وتمزق كبده على رحيل ابنه الصغير المفاجئ بالتهاب زائدة دودية أيضاً أجهز عليه جزّارٌ أثرى على ذبح الناس... وها هو الآن..؟ ومنعني الدمع الحارق من المتابعة.. هدّأ قريبي الطبيب من روعي وأحضر لي فنجاناً من القهوة وحاول إعطائي حبة مهدّئ نفسي، فرفضت لأن موجة البكاء صرفت عنّي الفائض من الحزن واليأس.. أربع ساعات ونصف كانت كافية ليصل الفريق الطبي بأكمله إلى حالة الإنهاك، خرج الجراح من غرفة العمليات عضواً عضواً، ثم تجمع فوق كرسي في غرفته الخاصة وبصعوبة من يقتلع شوكةً في عين توجه إلينا قائلاً: الحمد لله على السلامة، عملت ما قدرت عليه والباقي على الرب.. كلمات قليلة لكنها معتصرة من دراما إنسانية نهايتها اختبارية مفتوحة.. فيما بعد أعلمني قريبي ببعض الحقائق الناتجة عن العمل الجراحي المزدوج..‏

    الكتلة المستخرجة من الأمعاء أرسلت للتحليل في المختبر الخاص بالأورام الخبيثة ... الخطر على أبيك يتدرّج وفق التسلسل التالي: إذا تحمّل جسده العملية ولم يسقط بعدها مباشرة عاش ثلاثة أيام، فإن تجاوزها عاش أسبوعاً، فثلاثة أسابيع، فثلاثة أشهر، فسنة، فثلاث سنوات، فإذا تخطّاها لم يعد مُهدّداً، وتكون الكتلة المستخرجة غير خبيثة، على كُلٍّ.. نحن ننتظر نتيجة الفحص المخبريّ لها.‏

    وحيداً كنت وأبي... في ذلك المشفى الذي يشرف على دمشق من أوجاع الناس وهمومهم... والدتي والأقرباء يداومون نهاراً وينصرفون في المساء.. رُوعِيَ في بنائه التدرّج الجغرافي للجبل... مدخل واسع فارتقاء إلى جناح الدخول، فالإسعاف، فإدارة المشفى وقاعة المحاضرات، ومن أدراج حجرية طويلة وشبه منتصبة تدلف إلى الممرات والأروقة وقاعات المرضى، فإلى المرضى أنفسهم...‏

    انتظرت في حياتي كما ينتظر كل الناس، نتيجة امتحان بقلق/ افتتاح مدرسة بضجر/ غياب صديق بحزن/ لقاء حبيبة بشوق/ وفراقها بقنوط/ انتظرت الربيع بتفاؤل/ ووفاء الناس في المواقف الصعبة بشك/ انتظرت وانتظرت.. لكن انتظاري هذه المرة يختلف، إنه يحمل مشاعر كل الانتظارات السابقة مضافاً إليها النقمة والرجاء: النقمة على تواتر الآلام والمنغّصات في حياة إنسان واحد والرجاء بوجود العناية الإلهية وتدخلها في الظرف المناسب.. أن تنتظر مصير أب مهدد بين لحظة وأخرى بالموت، تلك هي كارثة الانتظارات جميعاً.. ليالي المستشفيات ثقيلة وطويلة وفي مهجع كالذي كان أبي، لست مسؤولاً عن مريضك فقط إذا كنت عميق الشعور الإنساني مرهف الحس لا تهون عليك مآسي الموجعين.. كنت أغطي مريضاً نائماً... أساعد آخر على النهوض أو المشي.. أناول ثالثاً دواءه، أدعو الممرض أو الطبيب المناوب لمريض ألمَّ به عارض مفاجئ، وقد تدّخلْتُ لسحب المفرزات من معدة مريض بوساطة حقنه مخصصة لهذه الغاية.‏

    أخرج إلى الشرفة بنصيحة من أبي لأتنفس قليلاً لكن موعد شرب الدواء أو نزع المفرزات يعيدني... يتناهى إليّ صوت أبي المتهدّج: عم أتعبك يا ابني.. الله يوفّقك ويردّ عنك وعن أفراد العيلة، وعن كل الناس، طوّلْ بالك عليي، لا بد ما يفرجها الله.. حينئذ يبلغ التأثر بي أقصاه، يغالبني البكاء لكني أتظاهر بالتجلّد حتى تنتهي المهمّة، فأسارع بالخروج إلى هدوء ليل دمشق، وأرسل دموعي حتى أطرد هذه الهجمة العاطفية الممطرة...‏

    توقف النزف الدمويّ بعد المعركة الجراحية للمرة الأولى بعد شهر ونيف، وراح الجسد الواهي المهزول يزحف باتجاه العافية، لكن نتيجة تحليل الكتلة لمّا تنته بعد، نقلت استغرابي إلى قريبي طبيب الأسنان فقال: إنهم يعيدون الاختبار بدقة متناهية لسلامة النتيجة..‏

    هذه أمور تحليلية تحتاج إلى عناية بالغة.. الجسد المهدود الذي نزف طويلاً لا يستسلم بل يطلق عناد خلاياه وأعضائه للوقوف في وجه الموت، ليالي المزّه باتت أقلَّ سواداً والجرّاح الشاب يظهر تفاؤلاً أكبر.. ويبادر والدي بالمزاح: عندما تخرج سنشرب نخب صحّتك يا أبا غسان تغمر وجه أبي سعادة غامرة فيتراجع الاصفرار عن وجهه خجلاً من حرارة الممازحة.. لا يتأخر والدي عن مكافأة الطبيب الدمث: الله لا يحطّ بهالإيدين علة ويطوّل عمرك.. ثم يضيف يا حسرتي يمكن ما بقا نقدر نشرب حليب السباع/ ينظر الطبيب إلى الممرضة فيطلب منها تخفيف العلاج على مسمع من والدي ليزيده تفاؤلاً بالشفاء ويدعونا لمساعدته على السير حتى يستردَّ توازنه وقدرته الحركيّة.‏

    في الفترة ذاتها حُمِلَتْ عمّتي إلى دمشق لاستئصال ورم خبيث في الكولون، لم نشأ إخفاء الخبر عن والدي لكننا أبلغناه إياه مخفّفاً هّيناً: جاءت لزيارتك فالتهبت معها المرارة فأدخلت المستشفى الإيطالي وهي بأتم عافية، علّق والدي: مسكينة هالحظ.. شو كان لازملا هالقصة.. كلّ حياتها عاشت بمرارة.. وكان ناقصها هالمرارة وحين زرتها في المشفى المذكور سألتني وقد نسيت حالتها.. كيف أبوك يا ابن خيي إنشا الله منرجع سوا عالضيعة ...‏

    في يوم الأربعاء من ذلك الشهر دخل الجراح مهجع المرضى بحيوية وسعادة وبادرنا قائلاً: أبو غسان صار متل السبع وبكرا رح نخرّجو على بركات الله.. نزل الخبر علينا نزول المطر في أرض عطشى وتعالت أصوات الشكر وطول العمر وبدا وجه أبي على شحوبه واصفراره زهرة تسترد لونها وترفع رأسها بعد إطراق... لكن اثنين فقط من الحاضرين كانا يعرفان أن التفاؤل النهائي مرهون بنتيجة تحليل الكتلة المستخرجة... لكنهما تظاهرا كالآخرين تماماً بالبهجة والشكران...‏

    في الجلسة الأخيرة قبل مغادرتنا دمشق اصطحبني ابن خالي الدكتور إلى المشفى معه لإتمام أوراق الخروج... وفي الطريق وبعد صمت عميق بادرني:‏

    لا أدري ماذا أقول لك، الطبيب الأعظم هو الله.. خذ أباك إلى القرية واتكل عليه، كاد قلبي أن يتوقف لكني هتفت بصعوبة قاتلة.. قل لي.. ماذا حصل؟‏

    لقد أضاعوا الكتلة في المختبر.‏

    المشهد الثاني شتاء عام 1981‏

    طوال الأيام والأشهر والسنوات التي تلت تلك العملية ظلت تلك العبارة في صدري كحربة تخلّلت نسيج القلب دون أن تهشمه.‏

    /لقد أضاعوا الكتلة/‏

    وظلّت والدتي وإخوتي وأقربائي على يقين من أن والدي قد عرف الحقيقة كما عرفوها ولا حاجة إلى التكهن والقلق...‏

    وكنت ككل الذين يحملون أسراراً خطيرة أتوجس خوفاً كلما ألم به طارئ صحي ما.. فأقول: لا شك أن الكتلة من النوع الخبيث الذي ترك وراءه جذراً سينمو في يوم قادم.. والذي زاد الطين بلّة أن جرح بطنه بعد العملية لم يلتئم.. فتعلّمت ما يقوم به الممرض من تغيير الضماد له وتعقيمه.. متخوّفاً من ماردٍ كامنٍ في جرح ملتهب.. وعادت نغمة الحصى في الكلى والمثانة حادّة بلون الدم وقد عانى منها الأمرين في أثناء خدمته العسكرية على الجبهة.. ولم تبق وصفة طبية شعبية إلا زاولها.. وبدأت المغالي والأشربة المتنوعة تفعل فعلها الحسن.. فتوسّع‏

    المجاري البولية، وتغسل الكليتين، فيمَتزج البول بفتات الحصوات المتفككة.. التأم جرح العملية بعد أن حوّلني إلى نصف ممرض وربع طبيب وثلاث أرباع شاعر.. فزاد معيار التفاؤل.. استردَّ صحته ونضارة وجهه وهمته في الحركة.. فتعزز شعوري بسلامة النتيجة... وآن قرع جرس انتهاء السنوات الثلاث الخطرة وهو بألف خير أيقنت أن الكابوس قد فقد آخر مفاعيله وأنني قد أنطق بتلك العبارة.‏

    (لقد أضاعوا الكتلة)‏

    أنطق بها بعبث وتسلية‏

    لأنها لم تكن كتلة خبيثة.‏

    الليلة هي ليلة رأس السنة.. عائلتنا لا تختلف عن كل أهل الأرض في الاستعداد لطي سنة من حياتها واستقبال سنة جديدة.. شيء مضحك.. أليس كذلك؟! أيحتفل الإنسان برحيل سنة كاملة من حياته على قصر هذه الحياة؟! وما دليله أن السنة القادمة خير من السنة الآفلة بالطبع إن مشقات عديدة تهون حين يتفاءل المرء بزوالها وهذا من عمل المستقبل ولعلَّ في جنينية التكوين الإنساني قوة قذف باتجاه شيء غامض.. ساحرٍ أو قاهرٍ.. لا أحد يعرف، وخط الحركة نحو هذا الشيء يسمى (الزمن) والزمن بدوره مقياس العواطف والأحاسيس في انتظار هذا الشيء. قال أبي وهو يرفع كأساً مخفّفة من النبيذ: لا تفكر يابني حين يجب أن تفرح... ورفع الجميع كؤوسهم متبادلين الأماني العاطرة بالعافية والتوفيق وتدفقت حناجرنا بالأغاني الفولكلورية والمواويل وبعض النسائم المطيبة بألحان محمد عبد الوهاب القديمة التي يتعشّقها والدي (ليلة الوداع/ خايف أقول اللي بقلبي/ ياوابور قلي رايح على فين). وتتهادى بنا السحب العالية من جبليّات وديع الصافي المدوية والأنوار المسكوبة في صوت فيروز الملائكي... ولم نبلغ قمم النشوى إلا بزلزلات صوت أبي الشجي الشامخ. أطفأنا الأنوار عندما تعانق عقربا الساعة ثم أشعلنا أنوار العام الجديد واختلط صخبنا وفرحنا بصخب القارات وجنون العشاق... ودموع الحزانى وابتهالات العابدين...وأزيز الطائرات ومكائد المجرمين...وصرخات المواليد الجدد ودعاء أمي أن تكون العملية الجراحية الجديدة لاستخراج حصوة في مثاني أبي مكللة بالنجاح. وتلاحقنا الإثارة والمصادفة من جديد فينتقل قريبي طبيب الأسنان إلى اللاذقية لكنها ليست الإثارة التي يبحث عنها الفنانون والأدباء المغمورون لتسلط عليهم الأضواء.. فيصبحوا مشهورين... بالتشاور أيضاً يقع الاختيار على أحد الأطباء لإجراء العمل الجراحي الجديد.. مع الاطمئنان المسبق أن الواقعة هذه المرة تختلف تماماً عن حجم المعركة السابقة في مشفى المزة.. وأن استخراج حصوة من المجاري البولية نوع من التسلية الجراحية المضمونة النتيجة..‏

    المشفى يقع في الطرف الجنوبي لمدينة اللاذقية المسمى مشروع الصليبية والمبضع سيتحرّك إلى جسد والدي في التاسعة صباحاً، والمبضع استقر مرتاحاً في جهاز التعقيم في الحادية عشرة والنصف.. يخرج الجراح وقد رفع بين أصابعه الحصوة المستخرجة كأنما يتفاخر برفع جوهرة المهراجا الشهيرة.. الجراح الجواهرجي ينبئ بالسلامة والنجاح الكامل لما قام به في جملة معترضة أفصح عنها بأسلوب /القباضايات/ وهي: لم أغمد السكين إلا بعد أن قطعت رأس البروستات.. عوفيت يابطل..(هجست في أعماقي) فأبي قد تعود على الجراحة المزدوجة.. وأنت ساعدته كي لا يغير عادته.. وانفرجت شفتا الأب الذي استيقظ من المخدر ليلهث في صوت متهدج: الله لا يحط بهالإيدين علّة.. ولم تسمح لـه المغصات بالخاتمة المعروفة..‏

    الرجل الذي انتهت جراحته قبل قليل.. لم يعد عسكرياً بسبب إحالته على التقاعد بداعي الإصابة..‏

    مع أنه بقي مشدود الحنين إلى كل ماهو عسكري..‏

    وهو لا يقوى على نسيان ا لماضي فيتوّجه إلي بصوت رقيق مشوب بألم معتدل.. أتذكر يابني.. كيف.. وكيف..‏

    ـ يا أبي نحن أبناء اليوم.. وما مضى قد مضى بحلوه ومرّه.. وخروجك مسألة يومين أو ثلاثة أيام لا أكثر فلماذا نسترجع عذابات الماضي.‏

    سكت، لكنه ولأمر غامض كان يستهوي استرجاع تلك الأيام على معاناته الشديدة فيها.‏

    في اليوم الرابع استأنفت معدته وأمعاؤه الحركة والعمل وكانت المفرزات البولية تخرج بطريقة التفجير المعروفة طبياً عبر أنبوب طويل ينتهي بكيس مرقم يقيس حجم هذه السوائل ومدى عمل نشاط الكليتين من خلالها.‏

    في اليوم الخامس عدت من عملي التدريسي في بلدة القرداحة التي تبعد عن اللاذقية مسافة /35/ كيلو متر فوجدت الجميع في قلق واضطراب.. ما الأمر؟.. سبق السؤال التحية التقليدية فاجأني أخي بقوله لقد خرج الأنبوب من مكانه في المثانة فحاول الطبيب إعادته لكن الوالد مع تكرار المحاولات عانى ألماً وصل إلى حد الصراخ فاضطر الجراح إلى تخديره من جديد لتثبيت الأنبوب المذكور.. وهاهو الآن يستيقظ والآلام تمضغ أمعاءه.. قلتُ لهم مُهدئاً:‏

    إجراء طبيعي طالما اضطر إليه الطبيب..‏

    وسيعود الوالد إلى حالته السابقة من التحسن لكن هذا التخدير الطارئ قد تسبّب دون ريب بإعادة الجسد المنهك إلى حالة الصفر فدخل بطاقته الدفاعية المجهدة في صراع مع سموم المخدر وآثاره السلبية وكان الحاصل النهائي كسل الأمعاء التي سبق الاقتصاص منها في الجراحة التقرّحية الأولى...‏

    فانطوت على نفسها ورقَدَتْ...‏

    في الغرفة المواجهة رجل قارب الثمانين بمايزيد عن عمر أبي بإحدى وعشرين سنة أجرى له جراح آخر جراحة بولية معقّدة وقد نزع أنبوبه تحت تأثير المخدّر أو عدم الانتباه أكثر من مرّة لكن إعادته كانت تتمُّ ببساطة ويسر، يوصيه الطبيب بالانتباه والهدوء.. و يتكرر الخطأ وتعاد التوصية.. لماذا أبي دون سواه يتعرّض إلى تخدير يقلب كيانه رأساً على عقب؟‏

    في المستشفيات الخاصة والرسمية أعراف وطقوس تمثّل فولكلوراً صحيّاً تجعل الإنسان الصحيح يتمنّى المرض.. لينعم بها..‏

    على سبيل المثال: تأمين الأدوية والأمصال من خارج المستشفى، نقل المريض في طنابر السيارات العمومية إلى مختبر تحليل أو تصوير في الطرف الآخر من المدينة، والاعتماد على أقرباء المريض وذويه في مراقبة حالته، وإعطائه بعض الأدوية، وطلب الاستشارة الطبية من أطباء اختصاصيين من عيادات ومشاف أخرى.. والترجمة العملية لهذا الواقع أن هذه المشافي ماهي إلى فنادق بخمسة نجوم في أسعارها ودون أية نجمة في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها..‏

    وانتقلت العائلة إلى المستشفى وتم التعارف وتوثيق العلاقات مع عائلات المرضى المجاورين فالألم يوحد مشاعر البشر ويحركهم باتجاه واحد،وتعددت الوساطات لإقناع أمعاء أبي بوقف إضرابها عن الحركة تارة بالتدليك اليدوي، وتارة بالمنشطات، وأخرى بالصلوات، ورابعة بالأدوية الطاردة للغازات، لكن المحاولات جميعها باءت بالفشل وبقي الركود من جهة، والمغص العنيف من جهة أخرى يتبادلان التحية، ويشكلان حلفاً إلى أن وقع الطلاق بينهما في مساء غير قابل للنسيان كنت وأخي نتناوب معاً على حراسة أبي.. اقتربت الساعة الحادية عشرة و على غير عادته في الأيام التي تلت التخدير الثاني استسلم الوالد للنوم وكان نوماً عميقاً هادئاً لم تقطعه مغصة واحدة،ومالت حركة الصدر الناتجة عن زيادة ضربات القلب إلى التباطؤ... تبادلت وأخي النظرات مستغربين التطور المفاجئ.. فقد حال الألم وخفقان الصدر في الليالي الماضية دون نومه المريح، لكن إشفاقنا عليه جعلنا مرتاحين لنومه...هذه الليلة‏

    فرقدنا إلى جانبه في حين تضاءلت حركة السيارات في الخارج وكان الجو في الغرف الأخرى صامتاً..‏

    وكما نام على غير انتظار منا استيقظ على غير انتظار منا أيضاً.. تلفّت حواليه بصفاء عجيب ثم سألنا.. أين أنا؟؟‏

    أين أنت؟.. قلت لأخي: أبي يحلم وهو مفتوح العينين..‏

    سألته للتأكد من يقظته: هل غادرك المغص يا أبتي فأجاب بصوت واثق: نعم يابني والحمد لله.‏

    أردف أخي: ولم يبق شيء مما كنت تتوجعه؟‏

    ولا شيء ياابني.. ولكن أين أنا..؟‏

    لماذا تسأل يا أبي.. ألا تعرف أنك في المستشفى منذ عشرة أيام!‏

    لا يا بني.. أنا الآن على "المفرق" (المفرق منتصف الطريق بين قريته "المراح" وقرية والدتي "البساتين" ـ قرب بانياس)..‏

    ـ أي مفرق يا أبي؟‏

    طرحت السؤال وقد كنت وأخي مصعوقين من هذا الانتقال الروحي الذي لم نتمكن من تفسيره، لقد تصورت أبي جهاز استقبال من عالم آخر يبث علينا رؤية ما.. بوضوح، ويترجم أحداثاً غامضة ستقع..‏

    هو مفرق الدروب.. يا ابني.. وهاهي أمك وخالتك وعمتك وأهل القريتين مجتمعون..‏

    همس أخي.. ماذا يحصل..‏

    إنه يتكلم بكامل وعيه.. كأنه يصف وقائع فيلم سينمائي.. اقتربت منه وخاطبته بصوت عال حتى أقطع كل شك في أنه ليس ساهياً أو مسهّداً:‏

    ـ هل أنت في كابوس أو حلم ثقيل..‏

    أجاب: لا هيك ولا هيك.. أنا الآن على مفرق الدروب وأسمع أمك وعمتك تصليان.. ردد معي يا ابني: (وراح يقرأ مطلع مزمور من العهد القديم)، (ارحمني يا الله كعظيم رحمتك وكمثل كثرة رأفتك امح مآثمي ومن خطيئتي طهرني لأني أنا عارف بخطاياي وآثامي في كل حين ولك يليق المجد يا الله).‏

    عند هذا الحد أصبحت وأخي جزءاً من الرؤيا نتابع دون استغراب لأن مايحدث لم يكن عادياً بل استغراق إيماني غمر كل شيء حتى الغرفة والمشفى والشارع المحاذي، واسترسل الوالد في إكمال رؤياه: كن قوياً في إيمانك بالله يابني ولا تسقط أمام التجارب، وحافظ على وحدة العائلة.. أما أمك فهي نقية، طاهرة، صابرة، فكّرمْها ولا تكسر خاطرها..‏

    صمت بعد هذا البوح الغيبي.. سحابة سريعة من الدقائق.. وهو يتأمل كالمأخوذ في جهة ما.. لم نشأ أن نخدش سكينته المفعمة بالأنوار فانطوينا فيه.. حتى نام..‏

    ماذا تفعل حين يغدو الصراع بين الحياة والموت تنافسا محموماً يدور في الثواني والدقائق ويتعلق بدواء موجود ودواء غير موجود، طبيب مضطربٌ متردد في تقدير الخطر المترتّب على همود الأمعاء وركود السوائل داخل البدن وطبيب ينصح بالإسراع في مداخلة جراحية تلتقط الشوارد والمعادلات الداخلية قبل تبعثرها وانفجار الانتان الداخلي الكامل... هل تقف مكتوف الأيدي أو مغلول العقل.. أو تتوزّع في عدّة أبناء لحشد الأطباء في كل الاختصاصات: بولية ـ هضمية ـ قلب ـ دم ـ لتقع منها على أمل ينقذ حياة أبيك، وربما وجدت في اجتماعهم ومداولاتهم بالعربية مخرجاً والإنكليزية مأزقاً.. وقد يوحون لك ببعض الأمان في أن حشداً على هذا النحو من ادعاء الخبرة والمعرفة والتشخيص.. لا يمكن أن ينجم عنه إلا الحل المناسب.. وحين ينثرون بعض التوصيات والتكهنات ويتفرقون.. تجد أمامك وجهاً محطماً، وعينين زائغتين وحياة تتشبّث بما يعينها على الصمود... أهرع وراء الدواء، وأبحث عن متبرع بالدم زمرته الدموية مطابقة، لأن مصرف نقل الدم خلا من هذه الزمرة.. أوقف سيارة تاكسي بحثاً عن الرمق المجهول، فأجد شاباً قد سبقني إليها.. لكنّه يستفسر عن لوعتي الدامعة، فأخبره، أجد فيه بعض إلهٍ حين يطلب من السائق التوجّه إلى مصرف نقل الدم للتأكد من زمرته الدموية.. الممرض يهتف من وراء الزجاج الزمرة مطابقة (O+).. الرجاء يحولني إلى دمعة شكر أزليّة... ويصرُّ الشاب المتبرع على رؤية أبي.. ويراه.. يتبادلان الملامح.. يلتئم مجلس الأطباء في مساء آخر.. كقادة عسكريين يمزّقون خرائط المعارك، ثم يعيدون جمع مزقها وتركيبها.. أحدهم يتوسّل: مرور الوقت ليس في صالح الرجل.. أصبح كقنبلة موقوتة، لا مهرب من جراحة أخرى لإدراك الأمعاء قبل تموُّتها، والسوائل قبل أن تتحول إلى أحماض أسيدية قاتلة..‏

    الجراح الذي أجرى عملية استئصال الحصوة لا يتجرّأ على دخول المعركة وحيداً.. ما الحل؟!‏

    ـ الحل في جرّاح ثان يتحمل معي مسؤولية ماسيحدث..‏

    ـ يتحمّل معك مسؤولية ماسيحدث!؟ إذا والدي دخل في دائرة الخطر!!! والجراحة البسيطة التي دخلنا من أجلها باتت الآن خللاً متفاقماً يهدّد بالموت.. يا لأبي المنحوس..‏

    ياليتني بقيت في مشفى المزة عشرين عاماً أنتظر نتيجة كتلة زحارية أضاعوها، وأخدم كل المرضى كرمى لعينيه.. وأغيّر ضماد جراحه، وأمازح الممرضات وهن يوزّعن الحقن يميناً ويساراً، ياليتني لم أكبر، ولم أنضج، ولم أكنْ ابناً ولا كان لي أباً..‏

    يارب.. أين أنت الآن؟.. ألا ترى ما أراه وتسمع ما أسمعه.. وتشعر بما أشعر به..‏

    يارب..لماذا يتعذب الطيبون كأبي.. وقد أسلموك حياتهم، ومصيرهم، ونفوسهم وضمائرهم بل لماذا يتعذب الأشرار.. إذا لم يستطيعوا أن يكونوا.. إلا أشراراً.. وهل نحن أحرار لنكون أشراراً وصالحين؟ فتكتمل أدوار التراجيديا الكونية؟!...‏

    يارب.. لست بكافر أو مؤمن متبلد الذهن، ولكني معذب يكاد يفقد أباه.. فسامحني..‏

    جمعت أشلاء قلبي من فضاء الشارع وأنوار السيارات العابرة.. وردمت شقوق وجهي بغبار ابتسامة مصطنعة ورتبت في خلدي مقاطع كلامية مزركشة بالتفاؤل والرجاء لأرددها حين الضرورة، ودلفت الغرفة لأتلقى القرار الذي طال انتظاره..‏

    العملية غداً..‏

    والطبيب الآخر المشارك في إجرائها هو: ...الـ...‏

    ـ هه... ألم أقل لك يا أبي.. إن الفرج قريب.. وبصوت خفيض مجروح، قال لي:‏

    ـ إذا كتب علي أن أعيش.. فالفضل يعود لك..‏

    في الأفراح الكبيرة تنتظر الخوارق، وتلتجئ إلى الغيبيات، وفي الشدائد العظيمة تنتظر الخوارق، وتستنطق الغيوب/ في الانتصارات الكبيرة تبحث عن ذاتك/ وفي الهزائم المريرة تبحث عن الآخرين/ في جني السعادة تجتاحك رغبة ألا تنام أبداً، وفي معاقرة الأحزان ترتادك رغبة ألا تستيقظ إلا وقد نسيت كل شيء أو انفرج كل شيء...‏

    هذه المشاعر مجتمعة اختمرتني في عشية تلك الليلة الفاصلة بين الحياة والموت.. لكنني حين تلمست جسدي أحسست أنني أحمل أبي.. وحين تنبهت إلى وجود إخوتي ووالدتي رأيته فيهم... وحين نظرت إليه كان الوحيد الغريب عن ذاته.. هجست في أعماقي: لا تجلد روحك فأنت بحاجة لها في المستقبل.. ولن تستطيع بانفعالات مجنونة التأثير على مجرى الأحداث، وتسريع وتيرة البحث عن علاج، مع علمك الراسخ أن هناك من هم أضعف منك، وستكون مصدر تجلّدهم.. هل كان نوماً أو سهواً أو أرقاً أو اغتراباً.. أو ذهولاً..؟! لا أدري.. إلا أنها كانت ليلة زحفت من القدر المجهول تحمل في نهايتها عملاً جراحياً تتعادل فيه حظوظ الحياة والموت.‏

    أحاط بنا لفيف من الأقرباء والأصدقاء مما أشاع جوّاً من تقاسم الهموم ووطأة الترقب.. الطبيبان: القديم والجديد يلبثان في غرفة الأطباء لاستكمال تهيئة غرفة العمليات.. وقد رانت على وجهيهما مسحة من الرهبة المشمولة بالصمت.. كل المرضى وأولياؤهم والممرضات مشدودون بأعصابهم نحو الحدث القادم.. قرأت صفحات مسهبة من أسارير المجتمعين ونسيتها.. وضعت حداً لعبق الذكريات.. حذراً من الأسى المبرّح.. ثم... ثم.. خرج طبيب التخدير متجهاً إلى غرفة الأطباء.. نظر إليهما ملياً ثم قال: كل شيء جاهز بإمكانكما الشروع.. تعالت الدعاءات والتوسلات... وتحرك كل شيء في مكانه بشكل لا إرادي.. وبينما الجميع يسمّرون أنظارهم في باب الغرفة التي سيخرج منها الجراحان.. علت صيحة أحدهما وكان الجراح الذي استقدم للمشاركة في العمل الجراحي: من هو الابن الأكبر للمريض؟‏

    فأجبت على الفور أنا ماذا تريد؟ قال: تفضّلْ.. دخلت الغرفة فوجدته مطرقاً والجراح الآخر يتفرس في سقف الغرفة رفع رأسه وقال:‏

    ـ كنت أودّ ألا أقول ما سأقوله، ولكن ضرورات العمل والمهنة تقتضي ذلك يا أخي.. إذا عاش أبوك فسأقبض ألف وخمسمائة ليرة سورية..‏

    وإذا مات.. فسأقبض ألفاً فقط... لقد قبض ألفاً وخمسمائة ليرة..‏

    لكن.. أبي.. مات.. بعد.. ثلاثة.. أيام..

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()