كانت حرارته ترتفع تدريجياً، كلما اقترب موعد الكتابة، وكأنه سجين ينتظر لحظة الحرية. بعد العاشرة مساءً، يجلس إلى طاولته، يطلق العنان لقلمه، ويدع مخيلته تسبح في عوالم مدهشة وغريبة جداً.
بعد أن يتناول وجبة عشائه الخفيفة، التي يشتريها من مطعم قريب من عمارته السكنية، يجلس إلى الطاولة. يهيئ أوراقه وأقلامه ومسوّداته، يضع علبة سكائره المفضلة ومنفضته قريباً منه، يهيء كأساً أنيقةً مترعةً بعصير الفاكهة في الناحية اليسرى من الطاولة. وقبل أن يشرع بالكتابة، يضع المحرار تحت لسانه.. مع الفقرة الأولى يخرج المحرار من فمه ويضعه جانباً.
لملم أوراقه المكدسة على الطاولة، ورفع ورقةً بيضاء سقطت على الأرض، حين سمع رنين جرس الشقة. كانت ليلةً من ليالي الصيف المعتدلة، ومن نافذة شقته المشرعة يتسلل نسيم بارد منعش كانت تلك ليلة نادرة، فقد اعتاد الناس أن يعانوا من حرارة الصيف القاتلة.
تقع شقته المؤلفة من غرفتين في خارج الزيتون، لا يعرف لم سميّ بهذا الاسم، فشارعهم بأكمله وشققه السكنية بأسرها لا تحتوي على شجيرة زيتون واحدة. وهو لم يذقْ طعم الزيتون منذ أن انقطع عن احتساء الشراب بعد افتراقه عن شلة "القسم الداخلي" النزقة، حيث جرتْ العادة أن يقدم لهم نادل الحانة صحون الزيتون المنقوع بالزيت مع صحون السلطة وقناني البيرة المثلجة.
من ذا الذي يقرع الجرس؟ من ذا الذي سيحرمه من ألم الكتابة وعذابها؟ من ذا الذي يشد حصانه ويمنعه من الجري في قفار اللوعة ومروج اللذة؟ من ذا الذي سيحرمه من قلق وأوجاع هذه الليلة، المعتدلة، النادرة، من ليالي صيف بغداد؟
سار ببطء إلى باب الشقة حرك المفتاح في الباب. ثم أدار الأكرة وحين فتح باب الشقة، تنشق في الحال عطراً لذيذاً. نظرتْ إليه باستغراب. ما هذا الذي يضعه في فمه. إنه ليس سيكارة بالتأكيد.
عندما نهض من الكرسي الوثير بتؤدة ومضى عبر الرواق المفروش بالسجاد ليفتح باب الشقة، لم يكن ليعرف إنه ما زال يحتفظ بالمحرار في فمه.
نظرتْ في عينيه ملياً، بتساؤل واضح، وريبة، ما معنى أن يضع هذا الرجل محراراً في فمه. هل هو مصاب بالحمى؟
انتبه إلى أنه يقبض على المحرار بين أسنانه. رفع يده اليمنى وأخرجه من فمه.
تصنعتْ الأدب واللياقة نوعاً وهي تقول هامسةً بغنج: "هل أدخل؟" لم يقلْ كلمة. أسندتْ ذراعها النحيلة السمراء إلى إطار الباب الخشبي. كانت ترتدي قميصاً خفيفاً، وردي اللون، من الحرير الصناعي، بكمين قصيرين، يشق عن نهدين مغامرين. شاهد أزرار قميصها الجميلة، الشبيهة بفصوص أحجار كريمة. من فتحة القميص العليا، المثلثة، رأى جلدها الناعم، الأسمر كالشوكولاته.
إتكأ بكتفه اليمنى على الباب المفتوح. المحرار في كفه اليمنى.
قال لها دون أن يجعل تعبيراً معيناً يتسلل إلى ملامح وجهه: "ما الخطب؟ ما سر زيارتك المفاجئة هذه؟ أنا لا أكاد أصدق"
كل يوم، تجلس على كرسيها الهزاز، في الشرفة، تنظر إلى الأسفل. في نفس الوقت، تقريباً، يعود من عمله، يركن سيارته في مرأب قريب من المبنى، يترجل من سيارته، حاملاً حقيبته السوداء.. يعبر الشارع مسرعاً، تتطاير خصلات ناصيته التي خالطها الشيب. يرفع يده إلى رأسه. يلتفت يميناً وشمالاً ثم حين يصل الرصيف، الذي تتوسطه "بلوكات" ثمانية الشكل مزروعة بشجيرات خضر، يختفي عن الأنظار.
تنتظر عودته من العمل، كل يوم، تقريباً وحين يصل مدخل المبنى. تحسب أمل الدقائق التي يستغرقها للوصول إلى شقته في الطابق الرابع. وصل الآن، إلى المصعد الكهربائي. ضغط على الزر -رفع رأسه إلى لوحة الأرقام التي تشير إلى الطابق الذي بلغة المصعد. ينتظر قليلاً. يلقي نظراتٍ عابرةً على عدد من ساكني المبنى ممن ينتظرون المصعد. قد يتأمل فتاة جميلة أو سيدة جذابة المظهر. يضحك مع أحد معارفه. يجيب باقتضاب على سؤال عابر.
يصل المصعد إلى الطابق الرابع- يفتح الباب.. يتمشى قليلاً.. ينعطف يساراً ثم يضع المفتاح في باب شقته ويدخل.
تترك كرسيها الهزاز يتأرجح في الشرفة. ترتمي على سريرها. الملاءة البيضاء مجعدة على الدوام. هي تكره ملاءات الأسرة. وتكره ستائر الغرف الداكنة- صديقتها هند تزوجتْ تريح أمل رأسها على الوسادة. ساعات العصر ثقيلة الوطأ. هي لا تنام القيلولة. هدوء العمارة والشارع وربما المدينة بأكملها يزيد من وحشتها. تنظر عبر نافذة غرفتها المطلة على الشارع الرئيس.. تتنهد بعمق ويلوح الدمع في عينيها.
رمشتْ عيناها البنيتان، انتبه إلى حاجبيها الجميلين ورقص شعرها الأسود الفاحم وهي تقول بإغراء: "ولم لا تصدق؟" ثم صمتت لحظةً وقالت بنبرة حزينة ألفها من قبل: "هل هذا محظور؟" وقبل أن تسمع جوابه هتفت قائلةً: "أنا بحاجة إلى قرص مُسكن" حين قالت ذلك أنزلت ذراعها من إطار الباب فرأى أصابعها الطويلة النحيلة.
أجابها بدهشة: "قرص مُسكّن؟ هل صعدتِ كل هذه السلالم ومشيت كل هذه المنبسطات لتطلبي مني في هذه الساعة من الليل قرصاً مُسكناً هل هذا معقول يا آنسة أمل؟"
ضحكت ضحكةً صافيةً ثم قالتْ: "معقول أو لا معقول. هذا لا يعني شيئاً هل تدعني أدخل. أنا بحاجة للحديث معك".
تراجع خطوتين للوراء ليسمح لها بالدخول دخلتْ بتؤدة، بحذر. سارتْ على أطراف أصابعها. انتبه إليها، كانت ترتدي سروالاً من (الجينز) وفروتي حذاء قماشيتين ملونتين. شرعت تنقل بصرها، بفضول وحيدة، في أنحاء غرفته، مكتبة تعج بالكتب، بعضها موضوعة بترتيب ونظام، وبعضها الآخر مكدّس باضطراب قرب المكتبة طاولة صغيرة عليها مزهرية كريستال. وعلى الجدار المجاور للمكتبة ثمة عدد من اللوحات الفنية لرسامين مثل بيكاسو ومايتس وفراغونار.
سألته فجأةً: "هل لديك ضيوف؟ أنا أعرف أنك لا تستقبل أحداً في شقتك. أجريتُ تحريات كاملة عنك. أنت من مواليد عام 1955. محافظة البصرة. أعزب الولد الوحيد في عائلة لها ست فتيات".
قال لها مازحاً: "إجلسي أولاً. وأخبريني من أينَ جمعتِ عني كل هذه المعلومات؟"
نظرتْ عبر النافذة المفتوحة، إلى العتمة في الخارج، رأت كرات مصابيح الشوارع المتألقة في الأسفل. تنشقت النسيم البارد، أرسلتْ آهةً، رفعت شعرها بأصابع كفها اليمنى.
قالت: "يا له من منظر ساحر.. بغداد جميلة في الليل، كتاب مفتوح. نسيم بارد وزائرة فضولية".
وضع يده على كتفها. كانت ما تزال تنظر إلى البعيد. وترفع خصلات شعرها المتدلية على عنقها من الخلف. دعاها للجلوس.
جلست على كنبةٍ قريبة من طاولة الكتابة.
شبكت أصابع كفيها وركزتْ بصرها في وجهه وهي تقول:
"قبل أن أجيب على سؤالك.. قل لي، بالله عليك، كيف تطيق هذه الوحدة؟"
نهض جلب علبة السكائر وجلس على كرسي وثير قبالة الكنبة التي جلستْ عليها زائرته الفضولية.
امتدتْ يده إلى علبة السكائر وأشعل سيكارةً وراح يدخن. وبعد أن أخذ نفساً عميقاً قال لها: "لا أدري أنا أفضل العيش ليلاً مع الكتب.. أو بالأحرى مع الأفكار والأخيلة، فهي تعوضني عن البشر"
اعتدلتْ في جلستها كان يدخن بصمت راحتْ تتأمله.
هل هذا الرجل الجالس أمامها إنسان عاقل أنفق ستة عشر عاماً وهو يمارس الطب. يجلس كل ليلة مع كتبه وأوراقه.. هل الكتب هي سلواه الوحيدة؟ لا بد أن الأجور التي يتقاضاها من المستشفى جيدة، وإلا كيف استطاع امتلاك شقة كهذه، مع أثاث بسيط وعدد من اللوحات الفنية. هل هو بحاجة إلى كل هذه الكتب قدر حاجته إلى زوجة شابة، مثلي، تزيل عنه غبار التعب.. سأجعله يذهب إلى الحمام حال عودته من المستشفى.. سأغسل ملابسه يومياً.. سأرشه بالعطر.. سأجعله يتنشق شعري حال خروجي من الحمام.. سأجعله يحلم بأنه يدخل الفردوس..
بعد أن أطفأ عقب سيكارته قال: والآن قولي أولاً، لم أتيتِ فعلاً؟ ومن أين جمعتِ عني كل هذه المعلومات".
نكستْ رأسها نظرتْ إلى سجاد الغرفة.
الوقت صيف. وهذا الرجل نصف المجنون ما زالت سجادة غرفته مفروشة أنا طويتُ سجادتي منذ ما يزيد على الشهرين. في الليالي المعتدلة، يحلو لي أن أنام عارية فوق بلاط شقتي.. أترك نوافذ غرفتي مفتوحة.. آخذ حبة الفاليوم وأنام.
سألها: "هيا، آنستي، لم تقولي حاجتك. أأنتِ بحاجة إلى قرص مُسكن فعلاً أم إلى التحدث معي؟"
أجابتْ بسرعة وبدون تفكير: "الاثنين معاً"
لِمَ تنظرين إليّ بهذه الطريقة. أنت تحتاجين إلى أقراص مهدئة للألم، وأنا أحتاج إلى قلق وتوتر ونصف درجة مئوية من الحرارة.
قامتْ من الكنبة وجعلتْ تتصفح عدداً من الكتب. جذبتها بعض العناوين الطنانة والأغلفة الأنيقة. سألته عن هذا الكتاب وذاك. سحبتْ كتاباً وقرأتْ العنوان: "العرس الوحشي" قالت: "ما المقصود بالعرس الوحشي؟"
أجابها: "أنا لم أقرأ هذا الكتاب. لكن يبدو لي أنها رواية حول العنف والقسوة"
حلتْ فترة صمت. قال لها: "حسناً، آنستي.. لا يمكن استقبال الضيف بهذه الطريقة.. سأعود حالاً.."
ذهب إلى المطبخ. أعد القهوة عاد بالصينية وفيها كوبان فخاريان مليئان بالقهوة. وضع الصينية على طاولة مستطيلة.
رفع الكوب إلى شفتيه وراح يرتشف قهوته على مهل. قال لها ضاحكاً: "أفسدت عليّ ليلتي. أجلس كل ليلة كي أكتب.."
كانتْ جالسة في نفس موضعها السابق تقريباً، لفتْ ساقاً على ساق، بين أصابعها مزهرية الكريستال. قالت له دون أن تحدق بوجهه.
"أعجبتني هذه المزهرية. هل اشتريتها من هنا؟ كريستالها من النوع الفاخر" وضع كوب القهوة على المنضدة. وضعت هي المزهرية في حضنها. رفعتْ كوب قهوتها.
أجابها: "هذه المزهرية هدية من طالبة لبنانية درستْ معي في الكلية قدمتها لي، قبيل تخرجنا، مع رسالة مفعمةٍ بالمشاعر الجياشة".
راحتْ تتأمله بريبة وحنق ثم قالت: "أكانتْ مغرمةً بك؟"
"لا أدري. في الشباب تكون مشاعرنا قوية لكنها سرعان ما تهجع وتنام أو ربما تموت".
شرد ذهنها عنه
ويحك، دكتور، ما هذا الذي تقوله؟ كيف يمكن أن تهجع المشاعر القوية وكيف تموت.. مالكَ تنظر إليّ هكذا؟ أأنت حجر أصم؟ أي صنف من البشر أنتم معشر الأطباء؟ لم لا تسمعون دقات قلوبنا المفجوعة. لم لا تسمعون نبضات قلوبنا العاشقة. كلكم دجالون كلكم لا تبالون بشيء على الإطلاق. نتحول نحن بني آدم إلى أرقام وخطوط بيانية وصور بالسونار أتحداكم إن صنعتم جهاز سونار يصوّر أوجاعنا نحن المعذبون. يصوّر آلامنا نحن النساء الوحيدات يصور هيامنا نحن العشاق المتيمين. كل يوم أنتظر عودتك من المستشفى، أتطلع من شرفة شقتي، أرقبك وأنت تترجل من سيارتك، تحمل حقيبتك السوداء، أما أنت فتحدثني الآن عن المشاعر القوية التي تهجع وتموت.
جرعتْ نصف كوبها. قالت وهي ما تزال تضع المزهرية في حضنها: "المزهرية خالية من الأزهار. هل أهدتها لك صديقتك بدون أزهار؟"
قام من مكانه.. مشى إلى النافذة وراح ينظر إلى الأفق البعيد وكأنه يستعيد الذكريات. أجابها: "لا أدري، يا عزيزتي.. فقد مضى على ذلك ما يزيد على خمسة عشر عاماً"
جلس ثانيةً على الكرسي الوثير قبالة زائرته الشابة. عرفها منذ سنتين كانت تظهر في إعلانات التلفاز.. فتاة إعلان جميلة الملامح. مكتنزة الشفتين في الأستوديو يضعون المساحيق فوق بشرتها، يصبغون شفتيها بالأحمر..
يسلطون عليها الأضواء الساطعة.. تظهر دوماً مثل أميرة جميلة سعيدة الحظ لكنها في الواقع كانت تعاني من نوبات كآبة أدخلها ردهته في الطابق الخامس مرتين. كانت تأتي إلى غرفته. تجلس على كرسي قريب، وتحكي له عن حياتها.. هي تنحدر من عائلة ثرية جداً تقيم في قصر واسع. ذنبها الوحيد أنها أحبت أحبت المغامرة.. عملت فتاة إعلان.. ربما من أجل الشهرة.. حب الشهرة غريزة أيضاً، أليس كذلك؟ ما ذنبها أن تعاني كل هذه الوحدة واليأس والمرارة. هكذا قالت له. وأسندتْ رأسها على مكتبه.
هي فتاة إعلان شهيرة، تمتلك سيارة حديثة وشقة في الطابق الأول في شارع الزيتون. وما هو إلا طبيبها المعالج، وجارها الساكن في الطابق الرابع.. هي تستلقي عاريةً على بلاط الشقة كي تحلم بالسعادة وهو يعدو بجواده الأبيض الجريح في قفار الألم وصحارى الظمأ.
قامتْ وجعلت تتأمل لوحة "الأرجوحة" لفراغونار أطالتْ التحديق فيها ومررتْ سبابتها الرشيقة على ساق الفتاة الجالسة في الأرجوحة المرتفعة في الهواء، خلب لبها فستان الفتاة المطرز الحواشي.. الأرجوحة في غابة خضراء، ترتفع وتهبط، الكل سعداء، يضحكون ضحكات صافية.
وضعتْ راحتها على نهدها الأيسر، وتنهدت تنهيدة عميقة. عادت إلى الكنبة حيث تركت مزهرية الكريستال.. تبدلت ملامح وجهها تماماً. وفجأةً نكستْ رأسها وشرعتْ تبكي بحرقة.. نهض من مكانه، جلس لصقها، وضع يده على كتفها النحيلة.
"ما بكِ آنستي، منذ قليل كنتِ تتحدثين عن الغرام والأزهار والكريستال هل أنتِ متعبة؟"
واصلت نشيجها. غطتْ وجهها براحتيها. شرعت تمستْ دموعها الحارة وتفرك أنفها الدقيق.. لاحتْ حبيبات العرق على جبينها.. وأمسى حاجباها الجميلان نديين.
"إهدأي يا أمل. لا يجدر بك أن تذرفي الدمع. طلبتُ منكِ مرات كثيرة أن تتحلي بالهدوء وأن تبتعدي عن كل ما يقلقك.."
استولى عليها غضب عارم. هبتْ واقفة، رفعت مزهرية الكريستال ورمتها بقوة على بلاط الشقة.. تكسرتْ المزهرية إلى شظايا صغيرة، تطايرتْ وتناثرت في أنحاء غرفته، وربما سقط بعض منها على كتبه ومجلداته المركونة في مكتبته.. كان لصوت تكسرها أثر السكين فوق جلده.
قالت أمل محنقة: "كيف لا أقلق، دكتور، كيف لا أقلق."
لزم الصمت. بعد قليل هدأت أمل ورفعت إليه عينين طافحتين بالحزن.
قالت باعتذار: "أنا متأسفة.. أنا زائرة خطيرة.. أفسدت عليك ليلتك.."
بقيت جالسة أمامه. تكفكف آثار دموعها. وتهدئ نفسها.
شرد ذهنها عنه ثانيةً.
أنا فعلاً إنسانة غريبة.. أي زائر هذا يشرب قهوة مضيفه ويكسر مزهريته. أنا، دكتور، لم آتِ لآخذ قرصاً مسكناً. ولا حبوب الفاليوم.
أنا امرأة يائسة. حياتي خاوية، فارغة. أنا مثل مزهريتك الخالية من الورود.. أنا، دكتور، ناعمة وشفافة مثل كريستال مزهريتك.. لكنني ضائعة. أنا امرأة تفيض حباً. لكن ما من أحد يشعر بي. ضع سماعتك الطبية هنا (لمستْ نهدها الأيسر). أسمع دقات قلبي. اسمع همساتْ قلبي. قلبي يهمس لك. هل تسمعه.. أنا امرأة منخورة من الداخل.. مهمشة.. ما بالك تنظر إليّ (رفعتْ بصرها إليه). هيا، قم وضع سماعتك الطبية هنا، هنا، في هذا الموضع (لمستْ نهدها الأيسر ثانيةً).. أنت إنسان بارد.. أنتَ مجر بارد (نظرت إليه باحتقار) تقضي ليلتك تسوّد الصفحات وتضع كالمعتوه المحرار في فمك.. أنا أعاني المرارة.. لا أستطيع الخلود إلى الراحة.. سيقودني اليأس إلى الجنون.
قامتْ من الكنبة وجثت عند ركبتيه قائلة بأسى: "دكتور، أنا غزالة جريحة. كان والدي يسميني غزالة في طفولتي.. أما الآن فأنا غزالة جريحة لا يلتفتْ إليها أحد. أنقذني. هل ستنقذني؟ أنا لا أستطيع النوم وحيدةً في شقتي.. لا أطيق الحياة.. خذني من هنا.. أرجوك.. أرجوك.."
داعبتْ شعرها الأسود الفاحم.. دفنتْ وجهها بين ركبتيه. أمسك بكتفيها النحيلتين.
عائلتي تخلتْ عني.. طردوني من الجنة. وزميلتي هند تزوجتْ مخرجاً مسرحياً. أما أنا فأعيش وحيدةً.. ويستولي عليّ حزن ثقيل كالأهرامات.
هدأ من روعها. نهضتْ ثانيةً وجلستْ على الكنبة. بعد قليل نهضتْ وشرعتْ تتصفح مسوّداته، ثم أخذت مجموعةً من الأوراق التي كتبها في الأيام الماضية وعادت لتجلس على الكنبة.
تمنيتُ أن أزورك مراتٍ كثيرة.. لكني كنتُ أجد ما يشغلني. أنت طبيب أخصائي وأنا إحدى مريضاتك المشاكسات.. أتيت لأتحدث معك فكسرت مزهريتك وصرخت بوجهك وربما أسأت الأدب.. لكن.. لا بأس.. فأنا امرأة مهمومة، قلقة، مسهدة، مثل أغلب بنات جيلي.. ما أتيت لآخذ منك قرصاً مهدئاً للآلام. أنا أعرف أنك لا تحتفظ معك بأقراص مسكنة أو مهدئة كيلا تجعل ساكني العمارة يطلبون منك الدواء كل مرة. لكني أفلحت بأن أجعلك تلمس جرحي.. ضع أذنك هنا (تطلعت إليه بأسى ووضعت راحتها تحت نهدها الأيسر مباشرةً) واسمعْ همساته. إسمع همسات جرحي.. أرجوك لا تكتب أشياء خيالية لا أساس لها في الواقع.. اكتب عنا، نحن المهمومين، المنخورين من الداخل، الضائعين بين الرماد المتحركة.. الذين نوشك على الغرق والغوص إلى الأسفل.. إلى الأسفل. الجرح غير الملتئم لا ينبض فقط، بل هو يهمس أيضاً، يهمس أيضاً.. وغالباً ما يجأر، يزأر، يصرخ، مثلما صرخ جرحي هذه الليلة في شقتك.
قامت لتغادر.. سلمته المسودات. داعب عنقها النحيف الأسمر كالشوكولاته. رافقها إلى باب الشقة. وقبل أن تصافحه قالت باعتذار: "يا لي من زائرة غريبة. غداً سأشتري لك مزهرية أخرى.. لا يمكننا أن نهشم ذكريات الماضي.."
هز رأسه دون أن يفه بشيء. دارت على عقبيها وشرعتْ تهبط السلالم بلا صوت.
أغلق باب شقته بالمفتاح. تضوع عطرها في غرفته. كيف فاته أن يتنشق العطر طوال فترة مكوثها معه.
عاد إلى طاولته. وضع المحرار في فمه. وبقي جالساً فترةً طويلة أمام أوراقه وأقلامه. كانت حرارته قد ازدادتْ نصف درجة مئوية لكنه لم يستطعْ أن يكتب تلك الليلة سوى كلمتين في أعلى ورقته البيضاء. كلمتين بارزتين بحروف كبيرة واضحة: همسات جرح