بتـــــاريخ : 11/22/2008 8:21:46 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1202 0


    النار الزرقاء

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : علي عبد الأمير صالح | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    صباح شتائي غائم من صباحات شباط. الشمس تضع وشاحاً أبيض على وجهها الجميل الوقت الساعة السابعة والنصف. وصل خالد إلى كليته. ذهب مباشرةً إلى دولابه الصغير في ذلك الرواق الطويل، شبه المعتم. علّق صدريته البيضاء، النظيفة، ووضع كتبه الطبية الثقيلة سوّى شعره الأسود المجعد بأصابعه وراح يبحث عن زميلته ذات الأصابع الرقيقة الناعمة.‏

    قضى عطلته الربيعية في قريته الصغيرة، عشرة كيلو مترات شمال النعمانية. في هذه القرية ولد خالد، ومذ كان صغيراً، غضاً، ألف المناظر اليومية للحياة الريفية: النساء الريفيات يرزحن تحت ثقل حزم من الحشائش يحملنها على ظهورهن، الجداجد تغني في الحقول، الفلاحون يشقون النزع بمساحيهم، العرق يتصبب من جباههم المتفضنة، أثوابهم الطويلة التصقت بظهورهم، البخار الشبيه بضباب الصباح يتصاعد من إبريق الشاي الموضوع على كومة حطب.‏

    كانت جالسةً في آخر النادي، تنظر من خلال ألواح الزجاج المطلة على الممشى الأسمنتي. فتاة في الخامسة والعشرين، جميلة الملامح. ذات شعر كستنائي غزير تتركه مرسلاً عندما لا تكون في قاعات الدراسة أو الردهات. شعرها يضفي عليها مزيداً من الأنوثة والرقة.‏

    حياها وجلس قبالتها، راح يغرقها بنظراته الملتهبة. كانت قد شاهدته وهو يجتاز الباب الحديد، حاملاً كتبه وصدريته البيضاء. المشية المسرعة الجادة ذاتها.‏

    الآن نجلاء ترتدي بلوزة جديدة، بلوزة محاكة، نقشت عليها ثمرة أناناس صفراء كبيرة وورقتين خضراوين، بدت في غاية الهدوء والاطمئنان خالد يحب الفتيات الهادئات الدافئات.‏

    قالت بعد هنيهة:‏

    -المكان هادئ جداً، أليس كذلك؟‏

    وضع خالد مرفقيه على المنضدة وقال:‏

    -بعد قليل سوف يسمعوننا الموسيقى العذبة. جميل أن يسمع المرء الموسيقى في مكان هادئ. وبخاصة بحضور امرأة جميلة دافئة.‏

    ابتسمت نجلاء وقالت:‏

    -قرأتُ ذات مرة أن من المستحسن إسماع الطفل الصغير شيئاً من الموسيقى في الشهور الأولى من عمره.‏

    -أنا استمتعتُ بأعذب الأصوات الطبيعية. كنتُ أسرح في البستان، صبياً، تستوقفني زقزقات العصافير، وتوقظ في قلبي أجمل الرغبات حين تكونين في قلب البستان، تكون رغباتك كلها قد استيقظت وأحاطت بك. في خلال العطلة الربيعية تمشيت في البساتين، ورأيت نيران الخشب والفلاحين المقرفصين قربها يستدفئون، تملكني إحساس عارم لا مثيل له.. لعله الإحساس بالبراءة أو ربما الإحساس بالجمال.. عزيزتي، في صباي كنتُ أتسلق جذوع الأشجار، ولذا كانت دشداشتي ممزقة على الدوام. وها هي ذي الأعوام قد طارت مخلفة وراءها الذكريات الحلوة.. لكن لا تزال تتردد في أذنيّ أصوات العنادل، والعصافير، وطنين النحل، واليعاسيب الحمر ترافقني إلى البساتين. في الصيف تمتلئ الحقول والبساتين باليعاسيب والحشرات.. وأنا عائد إلى المنزل برفقة الفلاحين المسربلين بالتعب.‏

    -في طفولتي كنتُ أتأمل الشمس تسطع فوق النهر. وتنعكس أشعتها على جدران المنازل، راسمةً زخارف من الأمواج الذهبية، في الصيف أسمع إصطفاق المجاذيف في النهر. وأشاهد الأسماك اللامعة في شباك الصيادين.‏

    حركت نجلاء الملعقة الصغيرة في كوب الشاي الفارغ الموضوع على المنضدة وقالت من خلال أسنانها البيض البراقة:‏

    -شاهدتك، وأنت تجتاز باب الحديد. نفس المشية الحازمة، مشية جندي ذاهب إلى المعركة.‏

    -حقاً؟ على أية حال. المشية الحازمة ضرورية للطبيب الناجح.‏

    تأمل خالد أصابع زميلته الرفيعة الناعمة وأردف قائلاً:‏

    -من يعتقد أن صاحبة هذه الأصابع الرقيقة الشبيهة بأصابع عازفة بيانو سوف تضمد جراح المرضى وتثبت الكاينولات) في أوردة النسوة اللاتي ينتظرن الوليد. يا لأصابعنا العجيبة! مرةً نمسح بها على شعور الأطفال الحلوين ومرةً نمسك بها المشرط".‏

    النادي شبه فارغ، العمال يجهزون طعام الفطور والشاي، أحدهم يرفع أكواب الشاي من أمام ثلاثة طلاب جلسوا في الناحية اليسرى من النادي‏

    -والدي ووالدتي سافرا إلى (الحبانية) وبقيتُ مع أختي الصغرى. ألحا عليّ بالذهاب والتمتع بمناظر البحيرة البهية. قلت لها: يكفيني أن أظل في البيت وأتصفح المجلات المصوّرة وأنشغل بالحياكة. حكتُ هذه البلوزة، جميلة أليس كذلك؟‏

    -نعم إنها جميلة جداً.. أما أنا فزرتُ صديقاً لي في الكوت، وشاهدتُ السدة الأسماك تتقافز وتطير خارجةً من البوابات. سمك الكوت لذيذ جداً.‏

    -تمنيتُ أن تتصل بي هاتفياً. شعرتُ بالوحشة والعزلة. كان منزلنا مثل سجن رهيب. في الأول ظننتُ أن البقاء في المنزل يريح الأعصاب.. لكنني إكتشفتُ العكس تماماً. كنتُ أتمنى أن أسمع منك أنك كنتُ تحلم بي في بيتكم الصغير وسط الحقول والبساتين.‏

    -لم أحلم بك في هذه العطلة الربيعية فقط، كنتُ أحلم بك في سنوات طويلة.. حين كنتُ أطارد طيور (الدراج) في أحراش الحلفاء.. في الربيع كنتُ أطارد الفراشات المبرقشة.‏

    -هل كنتَ تحتفظ بها؟ في طفولتي كنتُ أحتفظ بالأسماك الصغيرة.. لكنها سرعان ما تموت وتطفو على سطح الماء.‏

    -احتفظتُ بعشرات الفراشات الملونة. عالم الفراشات يا نجلاء رائع وغريب.. لم أعثر على فراشتين متشابهتين.‏

    -عثرتُ قبل عامين على كتاب عن حوض الأمزون في مكتبة والدي. إنه مولع بقراءة كتب الرحلات. ذكر المؤلف فيه أن هذه البقعة من العالم تعج بالآلاف المؤلفة من الفراشات الجميلة.. أجمل الفراشات في العالم فراشات الأمزون..‏

    -يخيل لي، غالباً، أني رأيتك وأحببتك من زمن بعيد، عندما كنتُ أنام تحت شجرة التوت القريبة من دارنا.. كان التوت الأحمر، الحلو المذاق، يسقط على رأسي وفي حضني عندما تهب الريح.. تخيلي يا نجلاء، غلام صغير يرتدي دشداشة مقلمة ينام تحت شجرة توت ويحلم.. هذا الغلام الصغير جالس الآن أمامك يتفسلف.‏

    -هل تتمنى أن تتخرج وتعود إلى قريتك؟‏

    -أجل. أريد أن أصطحبك معي. سأقول لأترابي: هذه هي الفتاة التي كنتُ أراها في أحلامي. كانت تجلس بجانبي في قطار خالٍ يمضي بعيداً. كنتُ أرى قطارات كثيرة لا حصر لها، وكانت رحلاتها لا نهائية.‏

    -هل سنعيش في الريف؟ أغلب الأطباء يكرهون الحياة في المناطق النائية.‏

    -لماذا أكرهه أنا؟ أنا إنسان ريفي. لماذا يسمونها بالمناطق النائية؟ ألأنها بعيدة عن العاصمة؟ وهل العواصم هي المدن الوحيدة في العالم التي تنبض بالحياة؟ أم أنه لا توجد في الريف قاعات موسيقى ومتاحف ودور سينما؟ لستُ بحاجة إلى هذه كلها. الطبيعة هي المتحف والكاليري والسينما.‏

    -يقول أركادي فيدلر: الفراشات كالأطفال، إنها لا تملك أسلحة تدافع بها عن نفسها.‏

    -ما أن يمسك المرء بالفراشة بين أصابعه حتى تتهشم أجنحتها وتفقد قدرتها على الطيران.‏

    -الأطفال أيضاً، ليس في وسعهم أن يفعلوا شيئاً إذا أغارت عليهم الطائرات الهمجية وراحت تقذفهم بالقنابل، الأطفال لا يملكون أسلحة.‏

    -الحروب تهشم فينا كل المرايا الجميلة.‏

    هيمن صمت قصير ثم قالت نجلاء:‏

    -قبل قليل قلتَ بأنك كنتَ تحلم بقطار خال يأخذك بعيداً.. أتخيلك الآن جالساً على حجر صغير، تلوح للقطار الذي مرق مسرعاً وتلاشى خلف البساتين.. أتخيلك تنظر إلى قضبان السكة الممتدة إلى البعيد تسطع تحت وهج الشمس.‏

    -عندما كان إبريق الشاي يغلي على كومة الحطب، كنتُ أخاطب أمي قائلاً: هو ذا القطار بدأ يصفر وينفث بخاره.‏

    نهض خالد وجلب كوبين من الشاي.. لاحت له نجلاء أكثر عذوبةً من المعتاد.. إنحنت نجلاء والتقطت قرطها الأخضر الذي سقط على الأرض.‏

    -كن صريحاً، هل أحببتني بقلبك وعقلك؟‏

    وكالعادة تملص خالد من الإجابة لكنه قال:‏

    -سعيد هو الإنسان الذي يكتوي بنار الحب الزرقاء‏

    -ولماذا النار الزرقاء.‏

    -الأزرق رمز للصفاء والعذوبة والشفافية.. والأحلام.. ألم تلاحظي يا نجلاء أن أغلب جدران المستشفيات مطلية بالأزرق.‏

    -أظن أنه يدخل الهدوء والتفاؤل إلى أفئدة المرضى.. اسمع يا خالد، يخيل لي أنك تفتخر بريفيتك؟‏

    -نعم. بيد أنني لم أكن أريد أن أفلح التربة مثل والدي، أو أساعده في تكريب النخل، أو أن أقدم البرسيم للأبقار في الحظيرة الواقعة خلف الدار. أنا أعتز بريفيتي وبمهنة عائلتي.. لكنني أريد أن أكون مختلفاً. أريد أن أفلح الجسد البشري. وأعرف أسراره وخفاياه. أريد أن أعرف قوانينه كم يؤلمني منظر أولئك الجنود الذين شوهتهم الحروب وتركت في أجسادهم شظاياها الحارقة.‏

    -إنك دائم الحديث عن الحروب؟ لا بد أنك قرأت روايات كثيرة عن الحرب، أما أنا فمولعة بالطبيعة وكتبها وفنانيها، تعجبني رسوم شاغال.. في داخل منزله كانت الأبقاء تنتشر في كل الجهات.. كما تعجبني العفوية في رسوم هنري روسو.. كان يفتح نوافذ مرسمه ليلاً كي يجعل أشجار لوحته تتنفس بعد أن فرغت نجلاء من شرب كوبها، قالت:‏

    -هل ستحفظني في واحدة من علبك الزجاجية مثل فراشات الطفولة؟‏

    فرد خالد على الفور:‏

    -أنتِ فراشتي العراقية. لكنك فراشة مسلحة. سأكتب خطاباً إلى أركادي فيدلر وأقول له: عثرتُ في بغداد، المدينة الشرقية، التي ربما قرأتَ عنها في "ألف ليلة وليلة" على فراشة رائعة الحسن، تبز فراشات الأمزون جمالاً ورقةً.. غير أنها فراشة تعرف كيف تدافع عن نفسها.. لا بل هي تدافع عن الآخرين أيضاً.. إنها فراشة آدمية تعيش بين الناس الأحياء وليس للحفظ في المتاحف.‏

    خالد يستعذب جمالها الأخاذ. وخيل إليه أن بوسعه أن يقضي سنوات طويلة جالساً في النادي متأملاً وجهها الساكن.‏

    -أخشى، يا عزيزي، أن تحرقني النار الزرقاء.. أريد أن تطهرني نار الحب الزرقاء.. هاتان الكلمتان نُقشتا في ذهني.. والدي يريدني أن أبقى في بغداد وتكون لي عيادة خاصة، أي بعبارة أخرى سأصبح مثل مئات الأطباء الآخرين طرازاً نمطياً، مكرراً.. أجمع النقود وأنفقها على الفساتين والعطور وأدوات الزينة.. مثل كل النساء الأخريات.‏

    إنسدل شعرها المسرّح على كتفيها، وافتر ثغرها عن بسمة رقيقة، إنداح صوت فيروز:‏

    كان عنا طاحون عَ نبع الميّ‏

    قدامه الساحات مزروعة فيّ‏

    وجدي كان يطحن للحيّ‏

    قمح وسهريات‏

    قالت نجلاء:‏

    -هل تزور الأعظمية كثيراً؟ يروق لي أن أراك من نافذة غرفتي في الطابق العلوي.‏

    ولم تمهله كي يجيب، فقد أضافت:‏

    -بعد أفول الشمس أو ربما بعد التاسعة مساءً.. أخرج إلى شرفتي المطلة على الكورنيش وأفكر أنني بعد سنوات طويلة سأظل أتذكر هذا المنظر الليلي الساحر والأضواء المتوهجة في المنتزه القريب من منزلنا. قل لي، يا خالد، هل تجلس في شرفة حجرتك وتتطلع إلى مدينة الطب، وتقول مع نفسك إن كثيراً من الطلبة قد جلسوا في نفس مكانك هذا هم الآن أطباء مشهورون.‏

    -عندما يكون الطقس ملائماً أجلس في الشرفة المطلة على ساحة (الجمهورية) وأنظر إلى تلك البناية العالية المطلة على النهر. أحلم أنني أنتقل من سرير إلى آخر في إحدى ردهاتها.. غالباً، أغفو على صوت الموسيقى والكتاب لمايزل في يدي.‏

    -هل تغفو وأنت جالس في مقعدك؟‏

    سألته نجلاء وهي تتلفت حواليها، إذ جلستْ طالبتان خلفهما وراحتا تتحدثان بصوت عال.‏

    -نعم نعم. أسند رأسي على حافة النافذة وأمدد قدميّ على حاجز الشرفة. شرعت السماء تنث مطراً ناعماً، أما خالد ونجلاء فلا زالا جالسين في نادي الكلية الطبية يرقبان مشهد العناق الأبدي بين السماء والأرض.‏

    قالت نجلاء بفرح غامر:‏

    -أتمنى أن أمد يدي لأستقبل حبات المطر وكأنني فقير يستعطي.‏

    -هناك، في الريف، يمكنك أن تمدي كفيك لتستعطي حبات المطر.. وأن تفرحي من أعماقك لأنك تعيشين وسط الطبيعة، التي نستمد منها قوة الحياة الخلاقة.‏

    إرتسمتْ ملامح الجد على وجه نجلاء وهي تقول:‏

    -أخشى أن نفقد هذه الروح السامية.. أتمنى أن لا تؤثر فينا دوامة الحياة الرهيبة.‏

    رد خالد:‏

    -العقول العظيمة لا تخشى التأثير.. النار الزرقاء ستظل تلتهب.. قد يلوح التعب على وجهينا.. لكن الحب لن يغيب عن قلبينا النابضين..‏

    غادرا النادي، قال خالد:‏

    -أسمع صفير قطار، وقعقعة عرباته على السكة.‏

    ردت نجلاء:‏

    -إنك تحلم يا عزيزي. لا أظن أن بالإمكان سماع قطار البضائع من هنا.. إنه يمر بجسر (الصرافية)..‏

    -حبيبتي إني أسمعه بجلاء تام.. وأتخيله يمر قريباً من حقل والدي منطلقاً إلى جهة بعيدة.. بعيدة جداً.. وهناك في إحدى عرباته يجلس اثنان: رجل وامرأة ينظران بعيداً.. تلوح في الأفق نار زرقاء.. القطار يمضي مسرعاً. لكن النار الزرقاء ما زالت بعيدة.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()