بتـــــاريخ : 11/5/2008 7:07:25 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1130 0


    رسالة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جمانة طه | المصدر : www.balagh.com

    كلمات مفتاحية  :
    قصة رسالة

    أشتبه بوجود ورم مسرطن في ثديك الأيسر.
    لدغتها العبارة القاتلة، ونظرت إليه وكأنها لم تفهم ما قاله. وبمنتهى البرود أعاد جملته مضيفاً: الفحص التشريحي سيقرر ما يجب علينا فعله.
    خرجت من العيادة، وقد بدا العالم لها قاتماً وخاوياً من كل ما هو إنساني ونبيل.
    المسافة بين عيادة الطبيب وبيتها طويلة وتحتاج لقطعها إلى قدمين قويتين، لا إلى قدمين متهالكتين حزناً ويأساً. ومع ذلك بدأت مسيرها من الجسر الأبيض باتجاه شارع بغداد، رغبة بمط الزمن، تهرباً من مواجهة الزوج والأولاد.
    شعرت في أثناء سيرها المتمهل، وكأنما تتزود من بهاء الشام لأيام عجاف قادمة.
    كانت تتفرس الوجوه لعلها تعثر على ألفة تجد فيها بعض العزاء. عند إحدى العيادات رأت امرأة تجلس على الدرج تحتضن ابنها في جرها وقد علت وجهه صفرة الموت وعلت وجهها صفرة الحزن والضياع، فتمنت لو أنها تستطيع التخفيف عنهما.
    ((أشتبه بوجود ورم مسرطن في ثديك الأيسر)).
    إحساسها الداخلي يؤكد إصابتها بالسرطان، فالكتلة رجراجة الملمس وغير مؤلمة، وهذا التوصيف سمعته مرة من طبيب في الإذاعة. لكن العبارة ما تنفك تتردد في سمعها وتتبعثر شظايا من نار في قلبها، وهي تلم بنعليها مسافة الطريق.
    وقفت أمام مدخل البناية حيث يقع بيتها، وترددت في الدخول. كيف لها أن تواجه زوجها وأولادها بما واجهها به الطبيب؟
    دلكت خديها بأناملها لتبعث فيهما اللون والحيوية، سوَّت شعرها وأدارت المفتاح بالقفل وولجت إلى البيت.
    حضورها الباسم شغل الجميع عن توجيه أي سؤال لها، أين كانت أو ماذا فعلت.
    في تلك الليلة استعصى عليها النوم، فكلما حاولت أن تغمض عينيها تراءت لها وجوه زوجها وأولادها وسمعت أصواتهم تنوح عليها وجعاً وألما.
    أرقها وقلقها نبَّها زوجها من نومه، وعندما سألها عن السبب، قالت: إنها القهوة التي شربت منها الكثير.
    في الصباح كانت دواخلها في فوضى لا تعرف كيف ترتبها، فقد وجدت نفسها في قلب مأساة لم تخطر لها على بال. كل شيء بدا لها مسرعاً أكثر من اللازم، فأيامها بدأت تعد الزمن تنازلياً، والوقت في حياتها ثمني أكثر من العادة، وعليها أن تقرر هل تخضع لعملية استئصال ثدي، أو لا.
    بعد تفكير حزمت أمرها على التكتم وعدم إجراء عملية، حرصاً على مشاعر الأفراد الأهم في حياتها: زوجها وأولادها.
    مع مرور الأيام أخذ إحساسها بالحياة يتلون بطعم مختلف عن السابق، صار بها نهم إلى كل شيء، للأكل واللبس والخروج من دائرة العمل المنزلي والأوقات الرتيبة.
    لكنها صارت أيضاً مفرطة في الحساسية وسريعة الغضب إفراطاً لافتاً، وكلما سئلت عن السبب تبرر ذلك بضغوط الحياة التي لا ترحم.
    ذات يوم أفاقت وقد أضاء المرض منطقة الوعي في تلاقيف دماغها، فحدثتها نفسها وذكرتها بنهايتها وبوقفها، في المنطقة الحاسمة بين الحياة والموت.
    ((ما الجدوى من هذه العقلانية يا هالة؟ أليس من الأفضل لك ولهم أن تخبريهم بما تعانين وما ينتظرك من مصير؟ الزمن ينسرب من بين أصابعك ويجب أن يعرفوا ذلك)).
    هزت التساؤلات أعماقها وطرحت عليها طرقاً متعددة لكشف ما بها.
    فاختارت أن تكتشف قدرتها على مسك القلم، وتلجأ إلى الورق لتكتب لزوجها الذي سافر منذ دقائق إلى اللاذقية في عمل رسمي، وتبثه ما عجزت عن قوله مباشرة.
    زوجي الحبيب هاني.
    أكتب إليك هرباً من الألم الذي يزنرني، وأعرف أن ما فعلته كان فعلاً خاطئاً، قد لا تغفره لي. وأعرف أنك ستصاب بصدمة حينما تعلم السر الذي أخفيته عنك طوال المدة الماضية.
    منذ ستة أشهر وأنا أنطوي على مأساتي وأمرن نفسي في كل لحظة على تقبلها، واليوم أشعر أني أختنق وبحاجة لأبوح لك بمكنون صدري.
    الحب الكبير يا هاني يورث الخوف على مَن نحب، وهذا ما حصل معي تماماً. فأنا من فرط حبي لكم خفت عليكم من الألم والحزن، لهذا آثرت أن أحمل موتي وحدي مع أن حمله لم يكن سهلاً عليّ.
    حاولت أن أجنبك والأولاد مشقة رعايتي، ولم أشأ أن أحول حياتكم إلى كابوس اسمه المرض. وحاولت أن أحتفظ أمامك بأنوثتي كاملة رغم ما شابها من تشويه داخلي.
    أعرف أن ترقب الموت أصعب من ملاقاته، ولكني أستعين عليه بحبكم. ليتك تعرف كم أنا بحاجة إلى حضنك يغمرني، وإلى يدك تمسح على رأسي وتهدهد ما يتآكل من جسدي فهل أطمع بصفحك يا حبيبي، ولم يتبق لي غير أحلام باهتة منكمشة مهزومة؟ وأنا التي كانت أحلامها تسع الشرق والغرب طولاً وعرضاً؟.
    أفكار كثيرة تتزاحم في رأسي أود أن أحكيها لك، ولا أعرف من أين أبدأ.
    التفاصيل تدور في رأسي ولا أستطيع الإمساك بها، كلها تدور حولك وحول حياتنا معاً. إنها ذكرياتنا معاً يا هاني. هذه الذكريات التي أتداوي بحلاوة تفاصيلها وجمال صدقها، وأرفو بها ما تمزق من الأمل.
    ها أنا أتجول في الصور التي تقيم فيها أنت وأنا وأبناؤنا. وهاهي تفاصيل حياتنا معاً، تنهمر على ذاكرتي تنعش الأنثى في قلبي وروحي.
    هل أذكرك بلقائنا الأول؟ يومها بدا الأمر وكأننا على موعد، مع أننا التقينا مصادفة في بيت أحد الأصدقاء، وكنت قد جئت إلى بلدتي خاطباً لفتاة سمعت عنها. لكن القدر هيأ لك ما لم تخطط له، فصرفت النظر عن تلك الفتاة واخترتني لأكون شريكة حياتك. وقتها قلت إنك تفاءلت بوجهي وباسمي الذي يبدأ بحرف الهاء مثل اسمك. لكني لا أخفيك أني كنت وقتها مأخوذة بدعاباتك الماكرة، وبوسامتك وقامتك الأنيقة في البزة الرمادية!.
    عندما خطبتني غمر أعماقي فرح كبير، وشعرت أنني أنطلق إلى حياة سعيدة لم أعرفها من قبل. وأحسست أنك لن تكون لي زوجاً فحسب، بل صديقاً وأماً وأباً أيضاً. فأنا لا أعرف أبي الذي توفي ولي من العمر سنتان، ولا أتذكر ملامح أمي التي لحقت به بعد مرة قصيرة. ولم أعشق طفولة أستطيع التكلم عنها، لأني ولدت كبيرة في بيت لا يوجد فيه غير سيدتين: جدة حانية وخالة رؤوم ولم أتمتع بمراهقتي وصباي لأنهما مرّا مثل لمح البصر في غمرة الدراسة والتفوق لأتمكن بسرعة من الإسهام في مصاريف البيت.
    لن أدعي يا هاني أن حياتنا معاً كانت كلها حرير، إنما أستطيع القول إننا كنا متفاهمين إلى حد جعل أيامنا أقل رداءة.
    وهذا كله يجعلني أواجه المرض بشجاعة، وأترك للأمل نصيباً في قلبي لأنك في قلبي، فأنت مشرش فيَّ وأنا مشرشة فيك.
    قبل أن أنهي رسالتي، اسمح لي أن أتمنى عليك أن تتزوج حتى لا تبقى وحيداً، رغم أن هذا ليس في مصلحتي لأنهم يقولون إن الزوجة الأخيرة هي زوجة الرجل في الجنة. وأرجوك أن يكون ذلك بعد أن يشب الأولاد عن طفولتهم المبكرة، كي لا يضيعوا في غمرة حياتك الجديدة.
    شكراً لك على رحلة الحب التي أمضيتها معك رغم قصرها، فقد أخذتني فيها إلى عوالم جميلة ملونة لم أحلم بها.
    * * *
    بعد أن سلمت هالة حروفها للحياة ودلقت كل ما في نفسها على الورق، نشر الارتياح نسائمه في نفسها، شعرت وكأنها تخففت من حمل جبل.
    في تلك الليلة كانت هالة على موعد مع قدرها، فقد انتابتها نوبة ألم حاجة نقلت على أثرها إلى المشفى وهناك عرف أبناؤها سر شحوبها وذوائها. أما هاني فلم يتسن له الوصول إلى دمشق لرؤية زوجته ومعرفة مرضها، لأنه قضى في حادث سيارة مروع.
    الصدمة مزقت القلب الذي لم يقو السرطان على تمزيقه، فبعد أيام ماتت هالة كمداً على هاني الذي كان لها الفرد والمجموع، وبقيت الرسالة المغلقة تنتظر مَن يفتحها

    كلمات مفتاحية  :
    قصة رسالة

    تعليقات الزوار ()