بتـــــاريخ : 11/22/2008 8:18:40 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1573 0


    الزيتون ينبت على الحدود

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : علي عبد الأمير صالح | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    وأبي قال لي مرة"‏

    الذي ليس له وطن ليس له ضريح‏

     

    ونهاني عن السفر‏

    محمود درويش‏

    نهار قائظ‏

    في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كانت قطعاتنا تتقدم، تحت لهيب الشمس، وراء بساتين النخل. الشاحنات تثير الوحل فيتطاير على جانبي الطريق أفواهنا أشد يبساً من رمال الصحراء، العرق يتصبب من أبداننا جميعاً، وجوهنا كالحة مغبرة. في خلال الليل كان في مقدورنا رؤية وميض المدافع وسماع دويها الذي يصم الآذان. رجال مدفعيتنا يصبون عليهم نيران الغضب.‏

    أيقظتني المدفعية في صبيحة هذا اليوم، فأجلتُ البصر فيما حولي. الردهة طويلة، أسرة بيض مصفوفة على الجانبين، نوافذ كبيرة تطل على حديقة مربعة الشكل تنبت فيها شجيرات خضر. زقزقة عصافير وأنين الجرحى في الأسرة المجاورة. ممرضتان تعتنيان بالعريف - تعرفت إليه لاحقاً- ذي البشرة الداكنة السمرة المائلة للصفر في الناحية اليسرى المطلة على الحديقة. العريف الجنوبي يئن بصوت عال ويتلوى جراء الألم الشديد في ساقه اليسرى. ممرضتان شابتان دخلتا الردهة قبل قليل، هما الآن ترتبان شراشف الأسرة، تضمدان الجروح، وتبدلان قناني المغذي الفارغة، وتزرقان الحقن. معظم الجرحى هادئين ما خلا عدد قليل. وعلى أية حال، ألفتُ جو المستشفى، واعتدت الروائح القوية: روائح المطهرات، روائح الأدوية، وربما روائح الممرضات أيضاً.‏

    الممرضة ذات الوجه الخمري والشعر الأسود الكثيف مضت إلى النافذة سحبت الستارة جانباً، فتحت النافذة قليلاً ونظرت إلى الخارج.‏

    قبل أن تقترب مني بادرتُ قائلاً: "صباح الخير".‏

    ابتسمت ابتسامة طفيفة وردت: "صباح الخير".‏

    بدت في ميعة الصبا. فم صغير. جبهة عالية. زي أبيض منشى ظننتُ أني أراها أول مرة. وفيما كنتُ أحدق في عينيها البنيتين اللتين قالتا لي: في وسعك أن تشم نسائم الصباح المشبعة برائحة العشب الندي، قالت لي وهي تكشف عن أسنانها الأمامية البيض: "كيف تشعر الآن؟ أما زلتَ تشعر بالدوار؟".‏

    "إني بخير. كنتم في غاية اللطف معي"‏

    "ضمدوا جرحك في مركز إسعاف وحدتك. كان جرحك عميقاً".‏

    وضعتْ المحرار في فمي. تلفتت فيما حولها. على محياها بانت علامات الأسى الذي كانتْ تحاول إخفاءه عن أبصارنا، لتمنحنا الشعور بالفرح.‏

    قالت بوقار: "حرارتك طبيعية".‏

    قلت: "شكراً متى يأتي الطبيب؟"‏

    فأجابت وهي تسجل شيئاً ما في جدول الحرارة: "دخل الردهة تواً. لم ينم ليلة أمس. كان الله في عونه. الأطباء لا ينامون".‏

    "هل اطلعت على أنباء الجبهة؟"‏

    "وفقنا في سحق الهجوم"‏

    "كيف تجري الأمور الآن؟"‏

    لم ترد عليّ لكنها قالت: "نحن فخورون بكم" صمتت قليلاً وأضافت: "أسرنا أعداداً غفيرةً من رجالهم. قل لي، هل يوجعك جرحك كثيراً؟"‏

    "لا. إنه لا يوجعني كثيراً الآن".‏

    "لا يتساوى الناس في القدرة على تحمل الألم"‏

    عندما جاءت الممرضة الشابة لتزرقني بحقنة الأميسلين كانت الشمس قد أخذت في الانحدار، والنهار بدأ يبرد. زرقنني الحقنة.‏

    هي: "هل وعدوك بالنقل إلى مستشفى آخر؟"‏

    أنا: "لا. لكن الطبيب نصحني بمراجعة شعبة العلاج الطبيعي في مدينتي يبدو أن ضرراً قد لحق بعضلات ساعدي.. رحّلوا اليوم كثيراً من المرضى"‏

    هي: "في أيام الهجوم نحجز لهم جميع عربات القطار. نحن نسميه: قطار الجرحى"‏

    رانت السكينة برهةً من الوقت: ثم أنا: "أتخيل الآن قطاراً مزدحماً بالجرحى، بعضهم جالسون في المقاعد، البعض الآخر نائمون على طول المجازبين المقاعد.. المطر يهطل.. ليل داجي.. والقطار يواصل رحلته طوال الأبدية كلها. الجرحى ملفوفون بالضمادات.. والمطر يبلل النوافذ.. الوقت ليل والقطار يقطع المسافات البعيدة نحو الأفق.. الواقع ليس ثمة أفق على الإطلاق.."‏

    هي: "أحد أطبائنا الشبان يسميه: قطار الألم"‏

    طلبت من الممرضة أن تأخذني إلى الحديقة الصغيرة. ساعدتني في النهوض من السرير وأجلستني على كرسي ذي عجلات ثم راحت تدفع الكرسي إلى الحديقة.‏

    قلتُ لها: "الحمد لله لم أصب بكسر في عظام ساعدي. أظن أنهم أفلحوا في وقف النزف في الهزيع الأخير من الليل".‏

    قالت الممرضة السمراء: كانت شظية قد مزقت العضلات وشظية صغيرة جداً غالباً ما تقتل إنساناً. عندما وصلت مستشفانا كنتُ أقوم بالخدمة الليلية في ردهة الطوارئ كان وضعك بائساً".‏

    "أنتِ إنسانة رائعة. منذ متى تمارسين مهنة التمريض؟"‏

    سحبت كرسياً من اللدائن. جلستْ عليه وأجابتْ:‏

    "منذ ثلاث سنوات تقريباً"‏

    لامستُ بقدميّ الحشائش التي تكسو الحديقة. سمعت حفيف أوراق الشجر، وشممتُ الأعشاب.‏

    كنتُ أجلس في حديقة دارنا وأحكي لأخوتي عما جرى في المستشفى.. الليل حافل بالأحداث. لكن دعنا من ذلك. قل لي أين جرحت؟"‏

    "قبل ثلاثة أيام كنا نصب عليهم وابل النيران. وفجأة سقطت قذيفة على مقربة منا، فانبطحنا أرضاً. وزلزلنا الانفجار وسمعنا صفير الأجزاء المتناثرة. أوه.. يا لرائحة البارود! أحسستُ بلزوجة الدم الحار.. وأدركتُ أني جرحتْ هل حدث وإن كنت في الجبهة؟".‏

    "نعم. قضيتُ شهراً في أحد مراكز الإسعاف كنتُ أعود إلى المستشفى منهكةً تماماً"‏

    سألتها بتعجب: "تعودين إلى المستشفى؟"‏

    فردت بأسى: "نعم. لا أملك من هذه الدنيا إلا غرفةً في المستشفى. غرفتي هي بيتي. أنا أقوم بالخدمة الليلية بين يوم وآخر. ذات ليلة سقطتْ قذيفة مدفع فوق بيتنا وأحالته ركاماً".‏

    كففنا عن الكلام لحظة ثم قلت:‏

    "كانت الحرب نائية عن أذهاننا"‏

    قالت: "هل تعتقد أنها سوف تستمر طويلاً؟"‏

    أنا. "لا"‏

    هي: وماذا ستفعل بعد انتهاء الحرب؟"‏

    أنا: "أعود إلى مدينتي كركوك.. أنا مهندس في نفط الشمال. أزين جدران غرفتي بلوحات رينوار. إنه رسام فرنسي مولع حد الجنون بالألوان الزاهية هو يثير فيّ الإحساس بالجمال والمرح. كان رينوار يرسم مع زميله مونيه على ضفاف السين أطلق عليه أحدهم لقب الفنان الذي رسم السعادة. في أوقات فراغي آخذ فرشاتي وأنثر ألواني على قماش اللوحة".‏

    هي: "هل سترسم لوحاتك في شرفة البيت أم في الغابة؟"‏

    أنا: "الأمر سيان. سأرسم جمال بلادي.. أو ربما فتيات كركوك الجميلات"‏

    هي: "هل تقيم في التسعين؟"‏

    أنا: "نعم هل زرتِ كركوك من قبل؟"‏

    هي: "لا"‏

    أنا (بدهشة): "كيف عرفتِ أنني أسكن في التسعين؟"‏

    هي: "تحدثتُ مع عشرات الجرحى. وحفظتُ أسماء الحارات والقرى والمدن الصغيرة هل تجيد اللغة التركمانية؟"‏

    أنا: "لا أعرف مفردات قليلة"‏

    هي: تعلمتُ بعض العبارات. كتبها لي أحد الجرحى.‏

    أنا: "أنت تمتلكين ذاكرة مدهشة ما اسمك؟"‏

    هي: "عالية، هل تنوي أن تكتب لي حين تلتحق بوحدتك من جديد؟"‏

    أنا: "لم لا سأبعث إليك ببعض رسومي وتخطيطاتي".‏

    ضحكت وقالت: "أنا أحتفظ بالهدايا وأعتز بها. لدي تذكارات من الجنود صور.. مسبحات.. مناديل.. خواتم.. رسائل.."‏

    أنا: "هل تصلك رسائل كثيرة؟"‏

    هي: "أجل.. معظمها رسائل امتنان. وبعضها لا يخلو من العاطفة".‏

    هيمن السكون. ثم قالت عالية وهي تكسر غصناً صغيراً:‏

    "هذه الحرب توقع في النفس غماً شديداً"‏

    "وحافلة بالمفاجأت والمآسي"‏

    "ربما لا يزال على قيد الحياة العشرات من الجنود ممن نظمتْ لهم شهادات وفاة من سنين عدة".‏

    كانت ذراعي مشدودة إلى عنقي، وكنتُ أحاذر تحريكها. شعرتُ بألمٍ في مرفقي وبعد لحظة صمت قلت لها:‏

    "لا بد أنك سمعتِ قصصاً كثيرةً من الجنود"‏

    "عرفت مئات الجنود الذين كانوا يحبون الوطن أكثر من حبهم لحياتهم.. غرسوا زيتون دمائهم في تربتنا. أولئك الجنود الطيبون اندسوا في أعماق روحي.. نحن نفخر حين يسلموننا جراحهم المقدسة، وأعضاءهم التي شوهتها النيران.. فقدتُ عائلتي في القصف المدفعي، لكن العمل في المستشفى منحني رؤيا جديدة.. رأيت نماذج من البشر لم أكن أحلم بالعثور عليهم"‏

    ألقت عالية الغصن المكسور من يدها. وتطلعتْ إلى عصفور صغير أزغب حط على حافة إحدى النوافذ.‏

    سألتها: "لماذا يعاني ذلك العريف من الشحوب؟ هل هو مصاب باليرقان؟"‏

    "إنه مصاب بفقر الدم. ظل ينزف ست ساعات في أرض المعركة قبل أن يتمكنوا من إخلائه.. لقد عاش بإعجوبة.. هناك أمور صعبة التفسير."‏

    أرسلتْ عالية آهةً، وقلتُ لها:‏

    "درسنا في الجامعة طبقات الأرض ومعادنها الثمينة، كنتُ أظن أن الأرض شيء جامد لا يستشعر شيئاً على الإطلاق، أما الآن فألصق أذني بالأرض وأستمع إلى نبضها. إنها كائن حي مثلي ومثلك.. وعندما تطأها أحذية الأعداء الثقيلة يبدأ قلبها بالخفقان الشديد وأسمعها تبكي بنشيج مر".‏

    ثم ارتأتْ عالية أن تغير الموضوع، فقالت:‏

    "كركوك مدينة جميلة وشفافة كم أتمنى زيارتها"‏

    "بعد الحرب سوف يتاح لنا رؤية مدن جميلة آمنة. وسوف تمتلئ عربات القطار الذي يقل الجرحى في هذه الأيام بالشبان اليافعين والفتيات الجميلات" وبعد برهة قلتُ:‏

    "عشقتُ هذه المدينة. وفي كل مرة أعبر فيها ذلك الجسر الحديدي، أفتح نافذة السيارة العسكرية الصغيرة وأتطلع إلى الزوارق والبواخر الراسية على الشاطئ، وأشاهد النوارس تتخاطف فوق أمواج الشط. هل ولدتِ هنا، في هذه المدينة"‏

    هي (بأسى): (نعم في أحد أحيائها القديمة)‏

    أنا: "في إحدى الروايات يدفن أحدهم وجهه في الطين ويقول لزميله: ما أروع رائحة الأرض إنها تذكرني برائحة زوجتي إثر خروجها من الحمام.."‏

    هي: "أنت شاب رائع.. هل تقرأ روايات الحرب؟ إنها روايات مثيرة للشجن.. هل تفكر في العودة إلى عملك؟"‏

    أنا: "الحرب لن تستمر دهراً طويلاً، ولا بد أن أعود إلى عملي.. سأعود إلى بيتي وزوجتي.. وسأحمل ابني على ساعدي وأسير.. وفي المساء سأطل من شرفتي وأرى الشوارع المزدحمة بالسيارات والناس الفرحين.. أشم عبق الأزهار في حديقة المنزل.. سيرحلني الطبيب بعد يومين".‏

    "سوف نحجز لك مقعداً في القطار.. قطار الجرحى".‏

    "هناك في القطار. سوف أتحدث مع زملائي الضباط والجنود.. وربما تكون أحاديثنا شيقة.. سنفكر بأولئك الجنود الذين غرسوا زيتون دمائهم على الحدود.. وعندما أصل مدينتي سأجد فرشاتي ولوحة الألوان بانتظاري ومثل رينوار سأرسم بعض الورود وكثيراً من الورود.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()