|
قاعدة التدرج بالإنكار
ويكفينا لتبيين هذه القاعدة أن نذهب بجولة مع مؤمن آل فرعون، لنرى كيف تدرج بالإنكار على قومه درجة درجة؛ حتى يفصح لهم بالنهاية عن إيمانه الذي يكتمه، كل هذا بأسلوب يمتلئ بالذكاء، ودقة متناهية بالتدرج بالإنكار
جولة مع مؤمن آل فرعون..
وبعد قرار فرعون بقتل موسى عليه السلام بقوله (ذروني أقتل موسى وليدع ربه إنه أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) [غافر26]
ورد موسى عليه السلام (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) [غافر 27]. هنا قام رجل من آل فرعون يكتم إيمانه، ليدافع عن موسى وليرد كيدهم عنه بأسلوب ذكي، وبتدرج مدروس متقن. وبفقه الإنكار عميق، في جولة مع أصحاب القرار مع الطغاة، بحوار قد قسمه إلى أقسام، ودرجات وأخذهم معه درجة درجة، لكي يستوعبوا ما يريد، ويقروا ما يريد إنكاره عليهم
الدرجة الأولى : تضخيم المنكر
يقول سيد رحمه الله ((إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) [غافر 28] فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب، واقتناع نفس، تستحق القتل، ويرد عليها بإزهاق روح؟ إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة((
فلا بد للداعية المنكر للمنكر أن يبدأ بتضخيم المنكر! وتبيين قبحه، بمقارنته بالمعروف، حتى يكون ذلك داعيا لأن تعافه النفس. ومثال ذلك في القرآن الكريم، تقبيح صورة المرابي بأنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وغيرها في القرآن كثير. ومن أمثلة هذا الأسلوب في السنة، قول الرسول صلى الله عليه وسلم في من يعطي العطية ثم يرجع فيها ((مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء يعود إلى قيئه فيأكله)) رواه مسلم
يقول الإمام ابن حجر ((ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك وأدل على التحريم ما لو قال مثلا: لا تعودوا في الهبة)) ومثال ذلك في الحديث كثير
الدرجة الثانية : تبيين أدلة الإنكار
ثم يخطو بهم خطوة أخرى. فالذي يقول هذه الكلمة البريئة ((ربي الله)).. يقولها ومعه حجته وفي يده برهانه: (وقد جاءكم بالبينات من ربكم) [غافر 28].. يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى – عليه السلام – ورأوها، وهم فيما بينهم وبعيدا عن الجماهير – يصعب أن يماروا فيها
فلا بد للداعية عندما يقوم بعملية الإنكار أن يصطحب معه أدلة تثبت أن ما يقوله هو الحق، وأن ما ينكره هو المنكر، لأن الناس لم يعتادوا الرضوخ والابتعاد عن مناكرهم بمجرد النهي الحاد المتشنج الخالي من الأدلة والبيانات
الدرجة الثالثة : افتراض أسوأ الفروض
((ثم يفرض لهم أسوأ الفروض، ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية تمشيا مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه: (وإن يك كاذبا فعليه كذبه).. وهو يحمل تبعة عمله، ويلقى جزاءه، ويحتمل جريرته، وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال))
الدرجة الرابعة : احتمال صدق الداعية
ومهما ألبس الطغاة أصحاب الحق من الاتهامات الباطلة، ومهما كثر تصديق الناس للطغاة فيما يدعون إله، وعلى افتراض أن يكون ذلك الداعية كاذبا، يبقى احتمال، وإن كان ضئيلا أن بعض ما يدعو إليه صاحب الحق صوابا. يقول سيد ((وهناك الاحتمال الآخر. وهو أن يكون صادقا، فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال، وعدم التعرض لنتائجه: (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) [غفر 28]. وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمالا في القضية فهو لا يطلب إليهم أكثر منه. وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام))
الدرجة الخامسة : التهديد العام غير المخصص
ثم يهدد في طرف خفي، وهو يقول كلاما ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم. (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب( [غافر 28]. فإن كان موسى فإن الله لا يهديه ولا يوفقه فدعوه له يلاقي منه جزاءه. واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون. فيصيبكم هذا المآل)). وأجمل شيء في هذا الأسلوب أنه تهديد غير مباشر، فالنفوس تأنف التهديد المباشر، ولا تحب أن تلتقي حول من يهددها. أو يرغمها على شيء معين خاصة إذا كان بشرا مثلهم. لذلك ربط هذا التهديد العام بالله، وليس بشخصه كإنسان، مما يخفف وطئة النفور، ويجعل ذلك التهديد مستساغا ومؤثرا لأنهم كانوا يعتقدون بالآلهة وبما تقوم به من نفع وضرر، ولكنهم ما كانوا يوحدون
الدرجة السادسة : التذكير بنعم الله والتحذير من نقمته
((وحين يصل بهم إلى فعل الله بمن هو مسرف كذاب، يهجم عليهم مخوفا بعقاب الله، محذرا من بأسه الذي لا ينجيهم منه ما هو فيه من ملك وسلطان، مذكرا إياهم بهذه النعمة التي تستحق الشكران لا الكفران (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) [غافر 29] إن الرجل يشعر بما يشعر به القلب المؤمن، من بأس الله أقرب ما يكون لأصحاب الملك والسلطان في الأرض، فهم أحق الناس بأن يحذروه. ثم يجمل نفسه فيهم وهو يذكرهم ببأس الله (فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) ليشعرهم أن أمرهم يهمه. فهو واحد منهم ينتظر مصيره معهم وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم لعل هذا أن يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص)). ومن أسوأ الأخطاء التي يقع بها كثير من الدعاة في طريق نهيهم عن المنكر، أنهم يشعرون من يخاطبونهم بأنهم أطهر منهم. وأنهم مستثنون من العذاب والانتقام الإلهي. ومثال ذلك قولهم ((أنتم كذا وكذا)) وقولهم ((سينتقم الله منكم)) وقولهم ((سيعذبكم الله في ناره))، هذه التحذيرات المباشرة دون أن يشرك الداعية نفسه معهم، من شأنها أن تكون مدعاة للتنفير، وجالبة للنقم على ذلك الداعية مما يصعب عليه مهمته في الإنكار وكسب الأنصار
الدرجة السابعة : إظهار خوفه على قومه وتذكيره لهم بمصارع من قبلهم
وذلك في قوله تعالى على لسانه (وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد) [غافر 30 – 31] وذلك مثل ما يقوله بعض الدعاة لمن يريدون الإنكار عليهم ((لولا حبنا لكم ما نصحناكم)) أو قولهم ((لولا خوفي عليك وحرصي على ابتعادك عن النار لما نصحتك)) وغيرها من العبارات التي تترك في نفس صاحب المنكر شيئا من الطمأنينة والثقة بمن ينكر عليه، تجعله أكثر قبولا للنصيحة والإنكار مما لو كانت خالية من تلك العبارات
الدرجة الثامنة : التخويف بيوم القيامة
وذلك في قوله تعالى على لسانه (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد. يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) [غافر 32 – 33]
يقول سيد رحمه الله ((وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس للموقف، وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة.. فالتنادي واقع في صور شتى وتسميته ((يوم التناد)) تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك، وتصور يوم زحام وخصام. وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن (يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم) وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم، أو محاولتهم الفرار ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار))
والكلام عن الغيب محبب للنفوس، لأن النفوس تحب أن تتعرف على ذلك الغيب بطبيعتها وحبها للاستطلاع، وحرصها على معرفة الذي سيحدث لها بالمستقبل، ولهذا السبب يذهب الكثير من الناس من الذين لا يعرفون حرمة تصديق من يدعي معرفة الغيب، يذهبون إلى العرافين وقارئي الكفوف والفناجين ليخبروهم كذبا عما سيحدث لهم بالمستقبل. ولعل هذا سبب من الأسباب التي جعلت القرآن والسنة تسهبان في تفصيل مواضيع الغيب من الجن والملائكة والقبر، وما يجري فيه من نعيم وعذاب والقيامة وأهوالها والجنة ونعيمها والنار وعذابها وغيرها من أمور الغيب وذلك ليكون منهجا ومنبعا للدعاة ليغترفوا من هذه البضاعة المحببة للنفوس لعلها تهتدي حينما تسمعها وتاريخ الدعوة يخبرنا أن كثيرا من المهتدين كان سبب هدايتهم سماعهم عن امر من أمور الغيب خاصة إذا أحسن الداعية عرضه لهذه المواضيع واختار لها وقتا مناسبا
الدرجة التاسعة : التذكير بالحوادث المماثلة في زمانهم
وذلك قول الله تعالى على لسانه (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) [غافر 34]
فينتقي صورا من التاريخ القريب لأذهان قومه، تتماثل مع معصيتهم التي يريد إنكارها، ولا يوفق لهذا الفن من الإنكار إلا من أكثر من قراءة كتب التاريخ، وقصص القرآن الكريم، وعرف كيف ينتقي الوقت المناسب ليقارن بين منكر يراه ماثلا أمامه لا يدري مقترفه ماذا سيحدث له وبين منكر قديم يماثله. في قالب قصة حدثت لفرد أو جماعة في التاريخ القديم أو القريب وماذا فعل الله بهم من عقاب، ويكون الحدث أوقع في للقلب كلما كان قريبا من زمانه
ختام المحاورة
وأمام هذه المراوغة، وهذا الاستهتار وهذا الإصرار ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة بعدما دعا القوم إلى اتباعه في الطريق إلى الله وهو طريق الرشاد وكشف لهم عن قيمة هذه الحياة الزائلة، وشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذرهم عذاب الآخرة، وبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان))
(وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد. يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار. من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب. ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار. تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار. لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار. فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) [غافر 38-44]
كسب القلوب..
هناك درجة قبل هذه الدرجات كلها جعلت آل فرعون يستمعون لهذا الداعية، ويحظى هو بإنصاتهم إليه. ربما تكون هذه الدرجة هي القرابة وربما درجة قريبة منها، ولكن لا بد للداعية الذي لا تربطه مع صاحب المنكر هذه الصلة أن يكون هو صلة جديدة معه يكسب بها قلبه ثم يبدأ بعد ذلك بالإنكار بأسلوب المحب والمشفق على من يحب، ولقد صدق تلميذ الإمام البنا الوفي عبد البديع صقر، عندما طلب من الدعاة الذين أرادوا انتهاج هذا الطريق ألا ينسوا أن يضعوا في أول مفكرتهم ((إن أسلوب التحدي ولو بالحجة الدامغة، يبغض صاحبه للآخرين فيجب التلطف لأن كسب القلوب أولى من كسب المواقف))
وبعد كسب القلوب يبدأ التدرج المدروس، وهذا ما وضحته عائشة رضي الله عنها للتابعي الثقة يوسف بن ماهك عندما قالت له ((إنما نزل أو ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل ((لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا. وإني لجارية ألعب (لقد نزل بمكة على محمد بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده)) رواه البخاري
وعائشة رضي الله عنه تبلين للدعاة هنا قاعدة جليلة في التدرج بالإنكار بما بدأ به القرآن من الترغيب والترهيب والرقائق حتى إذا ما صلبت الأعواد وقوت القلوب جاءت مرحلة البناء..
المصدر منتدى الداعيات
|