بتـــــاريخ : 11/21/2008 7:06:41 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1334 0


    اختراق الضاحية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نجلا أحمد علي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    جهدت /لِيَا/ هذا الصباح كي لا تبدو بنفس مزعزعة وهي تستعد لإحماء جسمها بالتمرينات المألوفة، وعبثاً فعلت فخفقان قلبها بلغَ الذروة حين ازدحمَ مضمار الجري بمنافساتها في سباق خمسة الآلاف متراً.‏

    وكانت معدتُها تجأر بشراسة وعصاراتها تئن بوضوح مخجل، وإذا أمكنَ ليد أن تتحسسّ أسفل بطن /ليّا/ ربما شعرت بدفق الزغابات المعوية واضطرابها في القنوات المتعضّلة.‏

    ليسَ من عادة /ليّا/ أن تُـفطر في الصباحات التي تخوض فيها منافسات رياضية أو تخضع لتحدٍ بدني يروز قدرتها على التحمل والسرعة معاً، كأن تنطلق في سباق تجريبي يقيس خلالَهُ مدربُّها الزمن المستهلك مقروناً بالمسافة المقطوعة فيقدّر الجهد المنفق، ويقارن الفرق بين الرقم الظاهر على الشاشة الإلكترونية اليدوية والأرقام المؤرشفة لبطلات المحافظات.‏

    إنَّ رشفات من الشاي أو الماء في مناسبة كهذه كفيلة بتأزيم التوتر العصبي لـِ(لِيَا)، وتنجح السوائل في الحالة العادية بتعديل مزاجها الصفراوي. مع ذلك، يُستغرب أن تشكو أعراض إدرار البول قبيل بدء السباق... فمع إعلان النداء التمهيدي تحسّ بغتةً باحتقان مثانتها فتهرع لإفراغها آملةً ألا تضطّر لإعادة الكرّة، لكنّ العارض البغيض يعاودها ثانية وثالثة ولا تتخلص منهُ إلاّ ببدء السباق.‏

    حالة نفسية، تعرف، لكن لا سبيل للجم الخوف وتثمين الثقة بالنفس مما يدفع (ليا) لقضاء ليلة مؤرقة قبل يوم أو يومين من موعد المباراة.‏

    المدرّب أكّدَ أنّ لياقتها البدنية جيدة، وشكّت هي بذلك استناداً لامتلاء فخذيها وميل قامتها للقصر، لكنهُ أقنعها أنّ ليونة الألياف ومرونة العضلات والمفاصل هي العامل الأهمّ، ويقتصر دور الرشاقة كعنصر مساعد على اكتساب صفات العدّاء الجيّد. وقالَ أنّ عندها استطاعة عالية على التحمل، أما السرعة فثغرة نقص يكفل ترميمها التدريب الشاق وتُمتلك فعلياً في معترك السباقات الهامة. وعليها إذ تشارك للمرة الثانية في بطولة قُطريّة أن تُسقط من اعتبارها احتمالات الربح والخسارة فينصبّ هدفُها بإصابة رقم جيّد يتجاوز أرقامها المسجلة على مستوى المحافظة أو التجمعات الإقليميّة.‏

    جلجلَ صوتٌ عبرَ المكبّر:‏

    - النداء الأول لسباق خمسة الكيلو مترات جرياً... فئة شابّات.‏

    قليلاً، ويقع قلب (ليا) على الأرض. فقد جفلَ ونطَّ مفزوعاً حتى كادَ يفرّ من صدرها بحثاً عن موطن أمان...‏

    حاولت أن تقرأ وجوه المتنافسات...، عثرت في بعضها على الاضطراب ممّوهاً بقناع من الوجوم. وفي بعضها لمست استعلاءً لا مبالياً أواطمئناناً متواضعاً، أو بروداً جليدياً لا يشي بشيء فلامت جُبنها وتخاذلها..، تخلّصت من (البيجاما) الثقيلة واتجهت بالشورت و (الشَّيال) إلى المضمار المكسو بطبقة من (التارتان) الفاخر، وفي الأعلى غصَّ الجناح المقبي من المدرّج بالمتفرجين.‏

    تساءلت (لِيَا) ما سيكون عليه شعورُها حين تعود ثانيةً إلى الاستاد؟ فمنهُ المبتدأ وإليه المآب...؟ برأس عالية أم واطئة ستعبر بوَابتُه العريضة؟ بتصنيف أم بلا تصنيف؟ وتذكرت أنّ حيازة مركز من الخمسة الأوائل سيؤهّلها لمشاركة المنتخب الوطني معسكراً مغلقاً كعنصر رديف.‏

    تحرّكت في (الحارة) الأولى رواحاً ومجيئاً، مشياً ثم هرولة ثم ركضاً خفيفاً، فمتوسطاً، فسريعاً...، وثبت في المكان ببطء ثم بسرعة عادية، ثم بسرعة فائقة حتى تخلّصت من الشعور بالثقل والتشنّج. وبهدوء، أجرت تمارين تمسيد أصابع القدم وتليين الكعبين والكاحل وبطّة الساق وعضلة الفخذ...، وثبت مجدداً لتحتفظ بحرارة جسمها... دارت بخصرها وجذعها يميناً، يساراً، للأسفل، للأعلى، للخلف...، وحلّقَّ ذراعاها في اتجاه دولابي واحد، ثم باتجاهين متضادّين ثم تصالبا أمام الصدر، وجهدت لجعل محور الدوران ينطلق من العضد وعظم الكتف.‏

    إلى جانبها يقف المدرب منتظراً اللحظة المناسبة لقياس نبضها.‏

    العام الماضي خاضت (ليا) البطولة أول مرة، حققت بصعوبةٍ نصراً مقبولاً فانتزعت المرتبة الخامسة مناصفةً، ولَشَدّ ما أخجلها فارقٌ هائلٌ في البعد بينها وبين من سَبَقَنْها. شعرت به حين انفجرَ الجمهور ضاحكاً لحظة دخولها الاستاد مع مناصفتَها وكل منهما تتفانى لسبق الأخرى فكأنَّ خلاصة الوجود ومغزاه رهنٌ بهذا الأمر، دونَ أن تفطنا لخلوّ الميدان، فقد اجتازت المتسابقات الأربعة خط النهاية، وجلسْنَ على المدرّجات منذُ وقت يتابعنَ بقية السباق بهزء.‏

    بكت كثيراً ووارى المدرب امتعاضهُ ببرودتِه المألوفة متمتماً:‏

    - لا بأس، الفشل بداية النجاح. ولم يبالِ كثيراً بمعنويات (ليا) أو تطوير أدائها، فمسؤوليتهُ تتوقف عند إعداد متسابقة تمثّل النادي في بطولة الجمهورية.‏

    - النداء الثاني لسباق خمسة كيلو متر جرياً- شابّات.‏

    أنهت (ليا) إحماء جسمها فأحسّت به يتّقد كفرن، لكنّ قلبها عادَ يخضخض كعصفور محاصر، وانتبجت مثانتُها،.. هرعت إلى الحمّام، ثم خرجت واطمأنّت إلى جاهزيّتها.. واستوت على خط البداية.‏

    من موضعها تعرفت على البطلة الأولى التي ملأَ حضورها النفوس رهبةً، وتلك التي قاسَمَتْها الفوز، ووجوه واثقة مُعتدّة، ملامح عنيدة وجفصة، فحزرت فشلَها سلفاً.‏

    أزاحَ المدرب عن كاهلِه ما تبقّى من (واجبِه) نحوها موصياً:‏

    نظّمي التنفّس... /2/ شهيق.. /2/ زفير ....، رَخّي كوعَيكِ، واحني جذعكِ للأمام. الدَّوْس على كامل القدم، وفي السرعة دوسي على الكعبَيْن لا الأمشاط... افتحي (فِنْشاً) ودَوْبلي على القريبات.‏

    لا تلتفتي مقدار (إنش) إلى أية جهة.‏

    - النداء الأخير لسباق خمسة كيلو متر...‏

    انتظمت الفتيات في أرتال متعاضدة وتربُّص عَلَني، وكَوْكَبَتُهنّ النّاغلة تُشبه فُسحة ملغومة تنتظر الانفجار...، أكثر من مرة أُعيدَ إيعاز الاستعداد لشروع بعض الموتورات في الجري قبل شارة الإطلاق.‏

    أحنت /ليا/ جذعها وارتكزت على يُسراها، لا يمكن الآن أن تشعر بتكثّف المادة الحمضيّة أسفل خاصرتها، ولا باختلاج مكوّنات تجويفها البطني أو صفير معدتها. وباتت إيقاعات قلبها خفيفة كأنامل تنقر على دفّ رغم الصوت الجهوري الآمر:‏

    - استعدّ ...‏

    - طاق ...‏

    نشرَ المسدس لساناً من الدخان فوق الكتلة البشرية الرّامحة، وتدافعت الأرجل على سجادة /التارتان/ تلبط الأرض بعنف وغادرت المتنافسات الملعب إلى الشارع العام للضاحية السكنية.‏

    جارت /ليا/ العداءات سرعةً فقد جرَينَ باستطاعة متوسطة، ولم تبالِ باللواتي جازفنَ بالتقدّم فلا بُدّ أن ينفق /كازُهُنَّ/ قريباً. ولم تبارحها الرّهبة المقرونة بحضور بطلة يراهن عليها الكّل تمضي بقلب ثابت وعزم واثق يشد جبينها رباط اخضر وَزِيُّها أصفر يبهر الأنظار، ميّزت /ليا/ على ظهره الرقم /80/ وابتأست لمقارنته بزيّها الأسود البغيض ورقمه المنفّر /133/.‏

    على الأرصفة والأسوار، من النوافذ والبوابات والبلاكين أطلَّ الناس على كرنفال رياضي مثير. فناجين القهوة الصباحية على الأكفّ، الغبطة مباحة للجميع والانشراح يوزّع مجاناً على وجوه مكدّرة بمتاعب يوم جديد. وطغى صخب دراجات نارية لعناصر شرطة المرور وعواء جهاز الإنذار في سيارة إسعاف مرافقة.‏

    هُرعت الفتيات في سرب متماسك انشقَّ عنهُ جناح تقدّمَ بوتيرة أسرع.‏

    إنهنّ مغامرات يُراهِنَّ على الفوز من المرحلة المبكّرة. وغاظَ /ليا/ جريُهُنَّ بحماس شرس وأرجل اسنفجيّة لا تعرف الكَلَل، ولا يكاد يُسمع خبْطُها على الإسفلت، أما جسمُها فيهتزّ ويحطّ كشوال من الحنطة المبلولة ..... لا مجال للمقارنة، فهي تشبه بضآلتها غباراً يدبّ بين قامات عملاقة... هاهنَّ يختفين واحدةً فأخرى.. لكنّ كثيرات تَخَلّفنَ معها عن اللحاق بالغزلان السارحة فعزمت على إكمال السباق لمجرد أنها بَدَأَتْهُ.‏

    تعبَ ذراعاها، فتنبّهت لخطأها في شدّهما للأعلى، وأسدلتهما باستقامة تخلّصاً من بوادر التّصلُب مما تسبّبَ في إبطائها ومَكَّنَ بعضهنّ من تخطّيها قليلاً، أما تلك الصفراء الرامحة فبدأت تبتدع فنوناً في (إلقاء) الأخريات وراء ظهرها مسافةً بالغة. إنها تتلّوى كراية تتناهى إلى الصغر كلما ابتعدت، وتأكدت /ليا/ أنها ستختفي بالمرّة عن الأنظار وستشرب العصير بانتعاش مع المتفرجين حين تفد أول الواصلات فتجد شريط (الشَرَف) مسدلاً على الأرض.‏

    قدّرت /ليا/ المتقدمات عليها بخمسَ عشرةَ لاعبة فيئست تماماً.‏

    باتَ أقصى رجائها احتلال مركز بينَ العشرة، فقد تنجح في اجتياز بعضهنَّ، ضاعفت سرعتها بلا جدوى فالشارع أمامها يستقيم على حين تلعب المنحنيات دوراً تحريضياً في إحياء قواها رغمَ القوة النابذة للريح التي تلطم الصدور وتزعزع توازن الخطا. وجفلت لخطىً ترددت قُربها فغالبت ترهُّلَها وفتحت /فنشاً/ لمسافة مئتي متر متنصّلة من الخصمات خلفها.‏

    بدأ الطريق يتمايل بخروج السباق إلى الشرفات الجبلية، فأحسّت /ليا/ باليد السحرية تفك الأثقال عن بطّتي ساقيها، وتحرر وركَيْها من اليباس وقواها من الضمور مع إيقاع جسم ينطلق بخفة تلقائية على قوس جبلي مقداره أربع مئة متراً، وأيقنت أنّ الحركة السفلية تبدأ من عجزها، وأنّ مَدَاسَها على كعبيها فعَمّها الرضا.. وخلال التعريجات رأت المتسابقات الأوائل متناثرات بين طيّات الهضاب وشعاب الوديان، وعثرت بعد كَدّ على ثلاثة منهنّ في متناول سيطرتها... استماتت لكسر البعد الفاصل، وبجهد خارق ألقت بهن خلفاً، ولم تعجب لتشظيّ أنفاسها واحتقان صدرها، أما ذلك الشعور بالغثيان فطبيعي بعد سرعة فجائيّة...‏

    ودّت /ليا/ لو تطرف بلحظها لتحدد موقعها من المتقدمات علّها تضع تصوراً لمرحلة تالية.. وبرقت في ذهنها تحذيرات مدربّها قاطعةً كسيف:‏

    (لا تلتفتي مقدار إنش إلى أية جهة)‏

    تخيلت شقيقها الأصغر يقرفص على عتبة الدار متلهفاً لرجوعها:‏

    "- هيه...، أحرزت مركزاً؟!" تنفي بهز رأسها وتدخل البيت مكسورة الخاطر..‏

    وعدَ أبوها أن يلحق بها على دراجة هوائية، قد يُجلس أخاها في حُضنه، يا لهُ من (سنفور) لا تشبع قطّ من مصمصة خدّيه وتقبيله بجنون هاتفةً: "-يا سكّر نبات.. يا غَزَل البنات..."‏

    وتمّنت ألاّ يَبّر أبوها بوعدهِ لئلاّ يرى انحطاطها وخِذيانها.‏

    لاحظت /ليا/ أنها تسابق نفسها منذُ وقت ولا تكاد تحسّ بمخلوق، وشعرت برائحة التربة المفلوحة في البساتين وبتوغّل الفلاحين والسّقائين في بحار الخضرة المترامية، واستغربت خلُوّ المنطقة من مراقبي السباق، حتى شرطيي المرور يستمتعون بمواكبة الرياضيّات في المقدمة ولا يبالون بأمر المتأخرات. وعلى عتبة التفاف جديد ميزت انسحاب عدّاءة مرهقة من السباق، إنها بالضبط التي ناصفتها مركزها...‏

    حثَّت خُطاها بحماس، منافساتُها البعيدات يحرصنَ على التّراص في فواصل متقاربة، فأدركت أنّ السباق يدخل مرحلة الكيلو متر الأخيرة، فبعدَ دقائق ستجهد الواحدة منهن لسبق قريناتها بشق الصّدر...‏

    وكأنما بالعدوى...، انهدَّ حَيلُ /ليا/، وفقدت تحكُّمها في جسمها وساقها التأمُّل إلى إهمال ضبط تنفّسها، فوَخَزَها قلبُها ووهنت ركبتاها. إنها تجري اللحظة بمخزونها من التحمّل فيما تتناقص سرعتُها على نحو مخزٍ...‏

    هاجَمَها دوّار فرمشت أهدابُها المثقلة بالعَرَق. وجرعت هَبّة هواء حطّت كحجر على رئتيْها الصغيرتين، ولمّا احتارت بشدة بين متابعة السباق أو الانسحاب...، وساعة أوشكَ الطريق على وداع البساتين ملتفاً إلى مدخل العاصمة حيثُ تشهق منارات الاستاد الرياضي بالارتفاع... انفلتَ من مزرعة قريبة كلب أَحلك من ليل في كهف واندفعَ كأنما ليعدو خلف /ليا/.‏

    لم تؤمن /ليا/ المسكينة خلال أعوامها السبعة عشرَ بصداقة الإنسان للحيوان. وكان شعوران يتناهبانها بصدد هذه المخلوقات: القرف أو الخوف، أحياناً الاثنين. ولم تستطع ان تفتح صفحة ودّ مع الصيصان والعصافير فكيف الحال مع الكلاب؟!...‏

    إنها تخافُها إلى حدّ الهَلَع وارتعاش الفرائص وتشك بقدرة العلاج النفسي على تهذيب هذا الشعور وفضّ عقدتها (الكلبيّة).‏

    لا مكان للفرار، ولا أثر لمنقذ أو مُجيب نداء، الساحة مكشوفة لصراع مضمون العواقب..‏

    وامتدَّ الطريق باستقامة...، لا يُجدي إلا الخوض أماماً...‏

    - عوّ... عو عو عو ...‏

    أحرقت /ليا/ (السفن من خلفها) وبالبقيّة الباقية من (كازِها) أطلقت قنابل خوفها في وجه الريح. أطبقت فكّيها بشدّة، وهصرت حَنْكَهَا مغالبةً الوخز في قلبها وكبدها. أما ساقاها فحلّقتا بلا وزن في الهواء ولم تكن تحس بارتطام كعبيها بالأرض.‏

    لم تركض، إنما طارت طيراناً... وعواء الكلب الأسود يمزق نياط قلبها.‏

    احتقنت عيناها بالدمع وصدرُها بالانفعال وأنفها بالمخاط...، أين سيعضُها هذا المسعور؟ لابدّ سيغرز كلاليبهُ في قصبة ساقها، لَم لا، إنها دسمة...، وإذا وثب ماطّاً قامته فسينهش ساعدِها ويقضم تفاحة كتفها المكتنزة.‏

    - عوّ ... عوّ وّ وّ وّ ...‏

    استبسلت /ليا/ في فرار أُعجوبي من اللعنة السوداء خلفها و (العوعَوّ) التي تطاردها كفوهة مسدس طائش، ولم تعي بلَل فخذيها بإفرازات مالحة، ولو وَعت لتساءلت إن كانت من منشأ بولي أم عرقي فهي تسبح في العرق من نافوخها إلى مُقعّر قدمها.‏

    لا تذكر بالتحديد من أفادها بمعلومة عن علاقة اللون الأسود باهتياج الكلاب، ولا تستطيع الجزم بدقّتها. يكفي أن تضبط الكلاب كائناً يجري كي تطاردُه بغريزة عدوانية عمياء...‏

    لص؟!‏

    (عفواً، إنني لستُ لصّة أيها الغبي). أرادت أن تصرخ فُنباح الكلب لم يتوقف، لكن هل يتهيّأ لها أنهُ يخفت؟! لو التفتت (إنشاً) لأعطت الحيوان مبرراً إضافياً لمطاردتها واتهامها بشيء... وهكذا، غالبت ضعفها واختلاط مشاعرها بين رعب وألم وغضب وتعب وابتهال وشفقة على نفسها، وشعرت جسمَها مفرغاً من الداخل كأنه بلا أحشاء والهواء يسبح بين جدرانه، وهي تطير، تطير، تمسخ الأبعاد وتحتضن الجهات، ...وأهمّ ما فاتها في حمّى هلَعها تصوّر المسافة التي سلختها، والسرعة الإعجازيّة التي جعلتها تنقذف برشاقة زرافة، وشراسة محارب، ومضاء باشق، ولم تعلم كم كتفاً لطم كتفها؟ وبكم ذراع وخاصرة احتكت يدها؟ وكم وجهاً التفتَ صوبها مبهوراً.. .‏

    تحركت أمامها وحولها أشباح ممّوهة الحقيقة مجهولة الماهيّة وسمعت نداءات مشتبكة وأصوات عاصفة ورأت مخلوقات تخبخب عن يمينها ويسارها ثم تنطفئ تدريجياً حتى لم يبقَ شيء... أما الكلب الذي انشغلَ عنها لشأن من شؤونه فبقيَ صوته يرتجّ في أذنها بغطرسة وفخامة كمطرقة تقرع صاجاً نحاسياً:‏

    - عَوّ عو عو عو .. .‏

    ومن الكُوى المفتوحة في غَبَش عينيها، أبصرت /ليا/ على مقربة باب ملعب أولمبي يُشرع صدرهُ لاحتوائها، وشريط عرضاني بطول أربعة أمتار وعرض عشرة سنتي مترات ينتظر ملامسة خصرها...‏

    ولم تصدق عينيها فأسرعت تحثها صيحات الناس وفرقعة الأكفّ اللاهبة لتلمس ما رأت لمس اليد، وظلت تجري غير مصدقة إلا أنّ أحداً يُمازحُها أو حلماً يُراوغها. وانبعثَ من بين الخيالات العارضة ما جعلها تؤمن بالحقيقة وتلمس الواقع بحواسَ صادقة، فها هوَ رجل تعرفه جيداً يسبقها على درّاجة هوائية. خلفهُ في صندوق خشبي صغير مطَّ ولدٌ لطيف جذعهُ الغضَ، ولوّح لها هاتفاً بفرح:‏

    - ليا ااااا ...... نحنُ هنا ااااا ...‏

    أخيراً انسحبَ الشريط بخفّة وَهفهفَ على الأرض، ودخلت (ليا) الاستاد بذراعين مرفوعتين وسعادة ذاهلة فهاج الجمهور ... صفرَ وصفقَ وهلّل وزمر، وكانت الكاميرا المحمولة تواكب المشية المختالة لبطلة خمسة الآلاف متراً ولوحة الكومبيوتر العملاقة تسجّل رقماً قياسياً جديداً، أما حكّام النهاية فيدوّنون في الجداول الرقم (133) إلى يمين المركز الأول.‏

    وفوق منصّة التتويج وقفت شاباتٌ ثلاث.. ..‏

    واحدة تبتسم بقناعة واكتفاء.‏

    وواحدة واجمة في زيّ أصفر وقمطة خضراء‏

    وواحدة تبكي فرحاً...‏

    وإذا سُئلت هذه الباكية لمن تهدي فوزها......؟ فستفكّر كثيراً وقد تجيب:‏

    إلى كلب في لون ردائي.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()