بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:08:19 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1432 0


    لمـــــاذا أنـــا حـــي؟

    الناقل : mahmoud | العمر :34 | الكاتب الأصلى : حســــــب الله يحــيى | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    لماذا أنا حي.. وكل شيء حولي بدأ يتضاءل وينكمش ويموت؟‏

    الكلمات التي كنت أصوغها قلائد لمن أحب.. بدأت تستعصي على فمي.. فأقفلته وفضلت الصمت، والأغاني التي كنت أصغي إليها وأتفاعل معها، مللت منها جميعاً..

    وأنفي الذي كانت توقظه عطور الحديقة، أصيب بحساسية شم الزهور.. وعيناي اللتان كنت أرى فيهما كل جمال الطبيعة كأنما انطلقا نورهما.. وبت لا أرى سوى ظلام روحي..‏

    لماذا أنا حي.. وكل حواسي معطلة؟‏

    قلت مخاطباً نفسي:‏

    - لابد من أن أقرأ.. فأنا أعشق القراءة عشقاً لا حدود له.. سأقرأ، وإلا كيف أرمي بالملل خارج نافذة روحي؟ توجهت نحو مكتبتي العامرة.. فوقع نظري على عنوان كتاب: (طريق نينوى) لمؤلفه: أوستن هنري لايرد.‏

    ووجدت في نفسي مسرة مفاجئة، وأنا شخصياً أهوى الطريق إلى مدينتي نينوى.. كون الأفق خارج نافذة السيارة التي تقلني.. أفق متسع بالخضرة والغربة والمجهول.. وقرأت هذه السطور:‏

    "كرتلي أوغلو أحد ولاة الموصل، أعلن عن مرضه ومن ثم وفاته، فخرج الناس إلى الشوارع معلنين عن فرحتهم واستبشارهم. وفي قمة الفرح ظهر كرتلي أوغلو بكامل عافيته.. محاط بجنده وحرسه.. وتم القاء القبض على المتظاهرين، فمن كان غنياً دفع فدية عن نفسه، أما الفقراء فقد أودعوا السجن ولم يعد أحد يسأل عن مصيرهم..).‏

    طويت صفحات الكتاب، ورحت أتأمل أحزاني.. وأحاول أن أحدد وأشخص طبيعة كل أسى مررت أو سأمر به.. فوجدت أن أحزاني عصية على الاحصاء..‏

    - والتقطت ذاكرتي.. صورتي وأنا أقف عند بائع الخضراوات صباحاً، عندما سمعت أحد معارف البائع يسأل:‏

    - هل يمكنك أن تقول لي: ما هو الفرق بين الأستاذ الجامعي والخروف؟‏

    أجابه بائع الخضروات: وهل هذه مقارنة عادلة؟‏

    أجاب الآخر: لست مسؤولاً عن العدالة، ولكنني مسؤول عن نقل الحقيقة إليك..‏

    - وما هي الحقيقة؟‏

    - هناك ثلاثة أمور يتساوى فيها الأستاذ الجامعي مع الخروف وهي: أن كلاهما ممنوع من التصدير، وكلاهما خاضع للوزن، وكلاهما يعتمد على غذاء نباتي.‏

    ضحك بائع الخضراوات، وأضاف:‏

    - هناك فرق واحد بينهما.‏

    - ما هو؟‏

    - إن الخروف يرتفع ثمنه في زماننا.. سواء كان حياً أم مذبوحاً، أما الأستاذ الجامعي، فإنه.. زهيد، زهيد الثمن، حياً وميتاً وفيما كنت أسمع وأنا أتضاءل ويتسع حزني، تنبه البائع إلى وجودي وسألني: هل يطلب الأستاذ شيئاً؟ وعجبت لكلمة (الأستاذ) على لسان البائع، فربما كشف مظهري ببذلتي العتيقة التي ضاعت ألوانها، وربطة عنقي القديمة ونظارتي البائسة.. ليخاطبني بكلمة (أستاذ)..‏

    وحاولت أن أصرف خجلي.. سألته:‏

    - هذا التمر.. بكم؟‏

    - وكنت أتشهى هذا التمر بالذات وأحس بطعمه في فمي.‏

    خاطبني البائع برقة:‏

    - هذا التمر.. لا يفيدك يا أستاذ.‏

    - وكيف عرفت أنه لا يفيدني وأنا قد اخترته بنفسي..؟!‏

    - للنفس ما تشتهي.. وأنا واثق أنه لا يفيدك.. ألست موظفاً؟‏

    - بل يفيدني.. قلت: وتجاهلت بقية كلامه..‏

    - سعر الكيلو من هذا التمر 150 ديناراً.. فهل يفيدك؟‏

    انصرفت من دون أن أجيب، وأنا أسمع ضحكات البائع وصاحبه تلاحقني، تجري ورائي وتريد أن تمسك بي وتسخر مني. ولولا عجزي.. لركضت بعيداً..‏

    وصلت إلى مسكني والارهاق والحزن ينوءان بي.. فاستقبلتني زوجتي وأطفالي.. وأخذوا مني أكياس النايلون الفارغة.. وتبادلنا الخجل بصمت:‏

    قالت زوجتي وهي تداري خجلي: لدينا طعام يكفينا..‏

    قال ولدي الصغير: ولا حاجة لنا بالفواكة..الشاي ألذ.. تناولت صحن البطاطة لليوم السابع مع رغيف خبز تجاوزت جفافه بغمره في الماء.. وحين انتهيت، فوجئت بابنتي وهي ترتدي ثوباً جديداً.‏

    - مبارك.. أنه جميل يليق بك.‏

    - إنه لصديقتي.. نحن نتبادل ثيابنا بين حين وآخر..‏

    - حتى تظهرن بأنكن مترفات، ولديكن الكثير من الثياب.‏

    - الدنيا مظاهر يا أبي.‏

    ضحكت، وأنا أحس بأوجاعي تتراكم، وأنا أؤجلها.‏

    - وإلى أين ذاهبة يا ابنتي الجميلة؟‏

    - إلى الحفلة.. حفلة التخرج.. هل نسيت يا أبي؟!‏

    - لم أنس.. لم أنس، ولكنني أردت الاعتذار عن حضور الحفلة معك..‏

    - هل يغيب أبي عن حفل تخرج ابنته العزيزة؟‏

    - لا، ولكن..‏

    - ولكن ماذا؟‏

    - ثيابي قديمة ولا تليق بالحال.‏

    - أنت.. أنت الأستاذ الجامعي.. تقول هذا يا أبي..؟‏

    - يا ابنتي.. ألم تقولي قبل قليل أن الدنيا مظاهر..!‏

    - هذه المسألة لا تنطبق على أبي..‏

    - ولماذا؟‏

    - لأن أبي حالة استثنائية.. فقد اكتسب من غزارة علمه ومعرفته كثرة من يتولون مراكز وظيفية حساسة. أبي حاضر بشخصه لا بثيابه.‏

    ووجدت نفسي استسلم لالحاح ابنتي، وأعد نفسي لمرافقتها..‏

    أمسكت بيدي، وقادتني إلى طريق فرعي.. قالت:‏

    - أبي.. صديقي وحبيبي يرافقني..‏

    ولكن الطريق ليس من هنا يا ابنتي..‏

    - بل من هنا..‏

    وسكتت قليلاً ثم قالت: أليس الطريق المستقيم أقصر الطرق يا أبي.‏

    - لم أعرف طريقاً ملتوياً أسير به يا ابنتي.‏

    - أعرف هذا.. أعرفه جيداً.. ولهذا نحن هكذا؟‏

    - وماذا بنا.. نأكل ونشرب ونتنفس ونقرأ.. ألا يكفي كل هذا؟‏

    ابتسمت ابنتي، ووجدتها تغتصب الابتسامة لتلصقها على شفتيها الورديتين.. قالت:‏

    - حصان الناعور يا أبي.. يشرب ويتنفس كذلك..‏

    - ولكنه لا يقرأ ولا يفكر.. لا يسمع الموسيقى ولا يشم عطور الحدائق.. ولا يرى ضوء الشمس.. ولا يفرق بين الليل والنهار لأنه يعيش بعينين معصوبتين.‏

    - أبي.. هل أنت مقتنع بهذا الكلام؟‏

    سكت، بينما كانت نظراتها تنتقل في ملامح وجهي بحرية.. وحين حاولت السير مجدداً وفق قاعدة الخط المستقيم أقصر الطرق، سحبتني من يدي نحو طريق ملتو.‏

    - أبي.. لماذا تحرجني؟ أخشى أن يشاهدني أحد من الجيران، وأنا أرتدي ثوب صديقتي التي شاهدوها وهي ترتديه مراراً!‏

    سكت هذه المرة أيضاً وأحسست بساقي لا تقويان على حمل جسدي، غير أنني ألزمت نفسي على السير مكرهاً، بينما راحت أنفاسي، تثقل علي.. وفي رأسي دوار.. راقبتني ابنتي.. وقالت:‏

    - آسفة.. آسفة يا أبي، وأنا أصارحك.‏

    كان السكوت قد لازمني.. وبات ملاذي الوحيد.‏

    .. وفي الحفل.. كانت ابنتي تتألق بثوبها المزهر.. فيما كنت أحس بالثياب تلبسني..‏

    .. وفي الحفل.. كان علي أن أقطع جزءاً من دائرة الحلوى.. المترفة.. وحين أمسكت بالسكين المضيء.. فوجئت بقطعة الحلوى تصرخ بي والسكين تقطع جزءاً من أصابعي.. وأسرعت أكفن أصابعي بمنديلي.‏

    وكنت حسن الحظ، إذ لم ينتبه أحد إلى وجودي ولا إلى ما اقترفته بحق أصابعي، وأنا أهم بقطع القليل من دائرة الحلوى.. ابنتي كانت فخورة بي في حفل تخرجها.. تعرفني بزميلاتها وزملائها وأنا أكتفي بالتحية الإيمائية والابتسامة الباردة التي كنت أغتصبها على شفتي..‏

    أحست ابنتي بي، وسرني أن تكون ابنتي في حالة الاحساس واليقظة..‏

    ابتسمت على نحو آس وهي تتعرف على أصابعي الجريحة التي نسيت قطع الحلوى منذ زمن، وصارت خشنة تمارس بداوتها وأميتها على أشياء بات النظر إليها مستحيلاً! وفي المساء، عاقبت نفسي بالنظر الإلزامي إلى أغان تلفازية بت أقرف منها لكثرة تكرارها.‏

    وفي المساء أيضاً، جلست أحدق في ظلمة حديقة بيتنا الصغيرة.. فانتابني إحساس بالخيبة.. حين وجدت الأشجار المخضرة والأزهار الملونة وقد اكتست جميعاً بلون أسود.. فيما يتباهى القمر بزيف بياضه، وكأنه لم يسرق نوره من طلعة الشمس المدفونة..‏

    قلت لنفسي:‏

     

    - لماذا أنا حي، وكل شيء حولي يتلاشى ويغيب تماماً؟ كنت أجد في حالة الذوبان.. كنت أغيب شيئاً فشيئاً.. وقبل أن أغيب تماماً سجلت هذه السطور، ثم وضعت القلم على بقية الورق البيضاء.. منتظراً موتي البطيء.‏

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()