بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:29:25 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1426 0


    الــعقل والــورق

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    في جملة ما تقرأ من التاريخ العربي: "وكانت أوربا الشرقية تبتاع ورقها من بلاد الشرق العربي، كما يدل الورق الدمشقي (شارتادا ماسينا)، وكذا عرف عندها ورق الطير الذي كان رقيقاً تكتب فيه البطائق وتعلق بأجنحة "حمام الزاجل"، وكذا صنع الورق بحلب ولشهرته سمي فيها حي باسم حي الوراقة... وبقليل من التأمل، وربما التحسر تجد نفسك مضطراً إلى المقارنة بين العقل العربي القديم وبين العقل العربي اليوم. فقبيل نهاية القرن الثاني الهجري كان الورق -ما لم يكتب عليه- رخيصاً مبذولاً، فإذا ما كتب عليه صار غالياً يبحث عنه تجار، وسماسرة، وعلماء، ودلالون... ويتسابقون إلى ذلك!. لكأنهم يومذاك كانوا يقدرون قيمة ما يكتب. أما اليوم فما كتب عليه قد يكون أرخص وأقل كلفة، وكأننا اليوم لا نقدر قيمة ما يكتب (خذ الصحف مثلاً)... لكن هذا الافتراض أو التصور غير دقيق، والمعايير المادية خاصة لا تصلح لقياس عصر على عصر... أما المعايير العلمية فينبغي أن تصلح، ومثلما كان العلم فريضة في صدر الإسلام وفي العصر العباسي ينبغي أن يكون فريضة اليوم، وبدهي أن أداته الأولى: الورق، وكالقديم ينبغي أن يكون في حوزة الدولة، أو مسؤوليتها (...ويذكر الجهشياري أن الخليفة أبا جعفر المنصور، وقف على كثرة القراطيس في خزائنه فدعا بصالح، صاحب المصلّى، فقال له: إني أمرت بإخراج حاصل القراطيس من خزائننا فوجدته شيئاً كثيراً جداً، فتولَّ بيعه، وإن لم تُعْطَ بكل طومار إلا دانقاً)... أما اليوم فالأمر متروك للتجار، وقناعة بعضهم بالدخل المعقول من التجارة بالورق والعقول شبه منتفية، وشكواهم من ارتفاع أسعار الورق متلاحقة. قد تقول: هم على حق، فالورق غال عالمياً. ولكن هذه الكثرة المتكاثرة من دور النشر، وتلك الطلبات المتزاحمة لأخذ "تراخيص" بافتتاح دور أخرى مسألة تلفت نظر المتأمل!.. وما أظن هذه الظاهرة دليلاً خالصاً على حب العلم عند هؤلاء، أو على تبني رسالة إنسانية أو قضية قومية أساسها الثقافة.. ثمة أشياء خبيئة إذن والقارئون ضائعون في متاهاتها، أو هم ضحيتها... ونحن -أيتما حال- لا يحق لنا أن نظن سوءاً بأحد، وقد رُوِّضنا على ذلك، فبعض الظن إثم.. ولكن عالم الورق هذا هو عالمنا الذي نفيء إليه، ونجد فيه بعض السلوان، ولذا قد نتساءل في حيرة: ما مصير أمة تشغل بأزمة الخبز، وتغفل عن أزمة الورق؟‍‍! أجل، الخبز ضروري، وقديم، ومقدس، وحاجة للجميع.. ولكن الورق (أداة العلم) هو السبيل إلى تأمينه وغيره، إلى حل مجمل مشكلاتنا.. أمن المعقول مثلاً أن يكون ثمن معجم "تاج العروس" وهو ضروري للأجيال العربية ما يعادل خمسين ألف ليرة سورية؟! راتب أستاذ في الجامعة عن كل عام، بل أكثر؟! أفلا يُحْرَج -حالئذ- إن نصح طلابه باقتنائه؟!.‏

    وللمسألة وجه آخر لا يستطيع العقل إلا أن يستغربه، أعني ذلك الترف في الموقف الموزع بين الاقتناء والاغتناء.. عن هذا الوجه حدثني أحد أصحاب دور النشر قائلاً:‏

    جاءني أخ من قطر عربي ما، واستعرض الكتب في رفوفها بسرعة، ثم أخرج من جيبه خيطاً وقاس من رف بطول الخيط وقال: أريد هذه الكتب، فلونها البني -الخشبي يناسب (ديكور) بيتي، قلت له: ولكن بهذا القياس ستقسم المجموعة، أعني هنا سلسلة مرقمة تباع كاملة، قال: ماذا أعمل بالباقي؟ أنا مكتبتي بهذا الحجم، وعلى كل حال أنا أدفع لك ماتريد.‏

    وأضاف صاحب دار النشر: اتصل بي مرة محام مشهور لا حاجة لذكر اسمه وطلب مجموعة من الكتب ذات الأحجام الصغيرة على ألا يتجاوز طول الكتاب كذا سنتيمتراً ليضعها فوق حاملة جهاز التلفاز. أوقعني الطلب في حيرة ولا حظ المحامي ذلك فاستدرك قائلاً: أنت تعرف نوعية الكتب التي أحب... وأنهى المكاملة‍‍‍!...‏

    وفي معرض الكتاب السنوي بجامعة صنعاء صادفت مرة فاضلاً وقد اصطحب معه بعض أبنائه، وكان الجميع محملين بالكتب، سلمت على الرجل وقلت: ما شاء اللّه، ما شاء اللّه، أراكم أكثرتم من الجليس الأنيس!... قال ضاحكاً: غداً سآتي مع الأولاد لآخذ مثلها.. تشتهي أن يكون جاري صاحب مكتبة عامرة في بيته وببيتي مكتبة فقيرة هزيلة؟! قلت: معاذ اللّه.‏

    الورق (للديكور)!! وتشهد الساحة والمرحلة إقبالاً ملحوظاً على تحصيل شهادات علمية عالية قد تكون -عند أصحابها- للديكور أيضاً، وقد يقال: تلك في النهاية ظاهرة إيجابية.. حسناً، ولكن ما يزال في المسألة خلل أساسي، والمطالبة بعدالة توزيع مادة العلم، في مجتمع عربي تعرف الإحصاءات نسبة الأمية فيه أمر ضروري، وإذا ما فكرت الدول المتقدمة بدعم الخبز والرز، فعلى الدول المتأخرة أن تفكر بدعم الورق، وإلا بقي وضعنا العقلي قلقاً، وصورة مهزوزة موزعة بين العلم كقضية والعلم كمظهر.. بين قيمة العقل، وقيمة الورق...وضيَّعنا من يريد أن يتعلم إن لم يكن ثمة اهتمام جدي..‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()