بتـــــاريخ : 11/17/2008 6:21:39 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1518 0


    أمل.. بنت بلدي

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : وصال سمير | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    من مقعدها.. حيث كانت تجلس.. كان ينبثق نور شفيف، يشرنقها من رأسها وحتى أخمص قدميها.. كل ما فيها مضيء.. شعرها الأسود البراق.. وجهها ناصع البياض.. عيناها، شفتاها، ساقاها.. وقد التفتا باسترخاء وثقة عجيبين.‏

    -من هذه المرأة الفاتنة؟.. سألت نفسي بتردد وانبهار أتعجب امرأة بامرأة أخرى؟ هذه ليست حالاً طبيعية. يقولون: إن المرأة عدوة المرأة..‏

    ويقولون أيضاً: إن المرأة تغار من المرأة..‏

    ولكن.. هذه.. كانت صنفاً من النساء غريباً..‏

    أحسست بانجذاب شديد إليها.. انطلقت، أتحدث، وأتحدث، ولا أمل من الحديث.. وشاركتني هي الحديث كان اسمها أمل..‏

    وكم كانت دهشتي كبيرة.. حين تلاقت أفكارنا.. ونحن نتحدث عن الطبيعة، والحياة.. عن الحب، وعن تلك الأغنية الأزلية التي غناها الرجل والمرأة منذ الأزل.. وما زالا يغنيانها دون توقف.‏

    انتقل الحوار إلى مواضيع الساعة.. الشرق الأوسط، أميركا، أوروبا، الدول العربية، إسرائيل والصهيونية.‏

    حديثها المنطقي أفصح بسهولة عن سعة إطلاعها.. ودبّت بها حماسة كبيرة حين بدأت تتحدث عن بطولات شعبنا وقوته المعنوية الرائعة.‏

    قد يمحي الزمن في ثوان.. وقد يتوقف العالم في لحظة ما. صديقتها التي كانت جالسة إلى جانبها، كانت تتأمل وجهها بحب وحنان كبيرين.‏

    وحين عرفتني عليها، قالت: إنها صديقتي ورفيقتي.. وهي ساعدي الأيمن في المدرسة.. ورفيقتي في التجوال.‏

    صاح حازم مستغرباً ومحتجاً: كيف تمحور الحديث بينك وبين أمل؟.. أدقائق معدودة تخلق صداقة قوية؟.. ضحكت وضحك الثلاثة الآخرون.. وقلت مازحة:‏

    -أتغار.. يا حازم؟ نعم إنني أحس بتلك الصداقة التي وصفتها.. إنها صداقة ترتفع عن منطق الزمن، تتجاوزه، ترجع به إلى الوراء، وتتقدم به إلى الأمام.. تنسج انسجاماً عمره ساعة، أو بعض الساعة.. ولكنه طويل، ومستمر.. عميق، وممتد.‏

    سعادتي بلقاء أمل جعلتني أتساءل: كيف كفرت بنساء بلدي؟؟.‏

    وها هي أمامي واحدة منهن.. يا لي من ساذجة.. إنها حقيقية.. من لحم ودم، ومن روح وشعور شفيف.‏

    تجسمت فجأة، كما رسمتها في خيالي، جميلة.. مثقفة، واثقة بنفسها، عميقة التفكير.‏

    حسبت في الدقائق الأولى، أنها لم تتجاوز الثلاثين من عمرها.. وأنها ما زالت صبية، تنتظر عريسها.. وفوجئت حين سمعتها، تتحدث عن أبنائها الأربعة.. وعن زوجها وبيتها.‏

    بانت على قسمات وجهها الدهشة، حين قلت لها بثقة واضحة:‏

    -أمل.. أعتقد أن زوجك رجل عظيم،‏

    وجاء جوابها سريعاً:‏

    -كيف عرفت؟ وكيف توصلت إلى هذه النتيجة؟.‏

    أجبتها، كما كانت تجيب أمي في مثل هذا الموقف:‏

    -المرأة هي مرآة الرجل.. وها أنت ماثلة أمامي.. مرآة صافية نظيفة، جميلة، صريحة، لا تشوبك شائبة.. ففي حالتك، يعود الفضل كل الفضل لزوجك.. الذي لم يكبح جماحك، بل تركك تنمين كزهرة برية عبقة.. يفوح ضوعها في كل مكان.‏

    صادقت على كل كلمة من كلماتي.. وأكّدت بزهو أن زوجها عظيم حقا، كما وصفته لها.. وربما هو أكثر من ذلك..‏

    انطلقت تصفه لنا: وحب غامر، فاض من عينيها ومن نبرات صوتها.. قالت: إن شخصيته القوية والمتماسكة هي سبب انجذابها إليه.‏

    يتركني، أتخذ قراراتي.. ويتيح لي الاعتماد على نفسي في أشياء كثيرة وهامة.‏

    تضرجت وجنتاها، حين رددت اسمه.. وكأنها عادت بذاكرتها إلى أيامها الأولى معه.. حين اختارها من بين فتيات كثيرات كان يفتش بينهن عنها..‏

    حديثها الذي يفيض بكنوزها الدفينة، أثار كوامن نفسي فرحت أناجي امرأة طالما حلمت بها في الماضي الطويل.. وكنت قد تعرفت على مثيلاتها في الجاهلية والإسلام.. حضرن الغزوات، ووقفن إلى جانب الرجل، يشجعنه، ويبعثن ما فتر من الهمة فيه.. يسقينه من أرواحهن شجاعة وإقداما..‏

    ثم عدت بذاكرتي إلى عهود التدهور.. في ظل الحكم التركي.. الذي خرب ودمر قيما عظيمة كانت.. وسجن المرأة خلف الجدران الشاهقة، سجنها ضمن جدران نفسها... فتآكلت من الداخل الداخل.. وانقلبت إلى "حرمة" عليها كل الواجبات، وليس لها حق من الحقوق ففقدت النطق، وعجزت عن التعبير عما يجيش في خاطرها.‏

    سبقها الرجل.. وتخلفت مسافات طويلة عنه..‏

    كل تلك الصور، تتابعت في خيالي.. وأنا أتأمل تلك المرأة الجالسة بثقة أمامي.. فأبتسم لكل العظماء الذين ساهموا في تحرير المرأة.. وإعادتها إلى الصفوف الأمامية لتتبوأ دورها في الحياة.‏

    اشتد الحوار بيننا نحن الأربعة.. واشتد الحماس..‏

    كنت أحلل أفكار أمل.. وأتابع إجابات حازم ونهى..‏

    وكنت ألتقي مع أمل بمعظم أفكارها.‏

    إنها تهفو لأشياء كثيرة.. كما اهفو أنا..‏

    وتحلم بمواضيع كبيرة، تعيد لعالمها العربي ألقه، ونوره الساطع كما أحلم أنا.‏

    وتشجع صداقات رائعة، تعقدها مع الرجل الذي يحترم المرأة.. كما أشجع أنا.‏

    مرت ساعات، وحوارنا لم ينقطع.. بل يتوالد، ويتشعب، ويعطي زنا بق فكر جديدة.‏

    أما حازم، فكان يوافقنا على أمور، ويخالفنا في أمور أخرى كثيرة..‏

    وأطلت نهى، تردد أفكارنا.. مؤيدة ومناصرة لأمل.. وفجأة.. تركتنا أمل، ومضت إلى حيث نادتها آذنة المدرسة.. وحين عادت بعد أقل من ساعة.. كان وجهها محتقناً.. وقد استقر غضب شديد في قاع عينيها، وما أن اتخذت جلستها من جديد.. حتى انطلقت تفسر لنا موقفها.‏

    -تخيلوا ماذا فعلت الموجهة.. كادت توقع بفتاة مراهقة وتدفع أهلها لقتلها..‏

    -وكيف حدث ذلك؟‏

    -أكدت لأم الفتاة أن ابنتها عابثة.. وتحرض الفتيات الأخريات على الانحراف.‏

    -ماذا تقولين؟؟ أيعقل هذا؟‏

    -نعم.. وجدتُ الأم هناك تبكي، وتنعي حظها في ابنتها..‏

    -وماذا حدث بعد ذلك؟‏

    شرحت للأم كلمات الموجهة بأسلوب آخر.. بعيد عن الاستفزاز.. وأكدت لها أن ابنتها كبقية الفتيات في مثل سنها تريد أن تؤكد أنها جميلة.. والموجهة تخشى عليها من ألاعيب الشباب.. وربما بالغت الموجهة في لومها للفتاة.. نعم الموجهة هي المخطئة.. فنحن لم نلحظ سلوكاً منها منافياً للحشمة.‏

    ثم بينتُ لها.. أن البنات هنا.. جميعهن بناتنا.. ونحن مسؤولون عنهن ما دمن لدينا.‏

    وبذلك.. نجحت في إسكات ثورة الأم.. وجعلت الموجهة تبكي. .. نعم تركتها تبكي.. لتنال عقابها عما فعلت، فليس من حقها أن تفعل ذلك. كيف ترمي السهام القاتلة إلى قلب الأم المسكينة..‏

    تنبهت أمل لغضبها وثورتها.. فاعتذرت اعتذاراً كشف عن سلوكها التربوي الكبير..‏

    تأملتُها مليّاً وقلت بفخر:‏

    لو كانت نساؤنا جميعاً مثلك، لظهر جيل جديد.. تتفاخر به أمتنا العربية.. فأنت الأم.. التي تهز السرير بيمينها، وتهز العالم بيسارها.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()