ليس في مقدورك أن تكون عابراً محايداً، فالأرض لا تخرج من الذاكرة، ولا تستطيع المدن الكبيرة أن تبتلعها أيضاً.. الأرض راسية في مينائك الروحي، وستعود إليها يوماً فتضمك تحت إهابها الكريم، وتغمرك مُخَلَّصاً من اللهاث والتلفت.. وإلا، فما الذي أعادك اليوم؟ ألتشهد جني الزيتون بعد سحابة من السنين؟! أم لتجرب إن كنت تقدر على صعود هذا الطريق مرة أخرى بغير طاقة من الزهر ودمعتين وفاتحة؟! جثمان "أحمد" مايزال في الأعلى تحت شجرة السنديان مسجّى ملفعاً بالعلم السوري، ومن حوله يتجدد الزمن والريحان وموسم الزيتون.. كما يتجدد موتك في المدينة الكبيرة كل يوم..
تمضي السيارة بك على هواها، مغمورة بالغيم ورائحة الأرض والذكريات.. تتوغل في مهابة الحرم الساحلي، والطريق كالعمر يقصر.. ينسحب إلى الخلف كأغنية حزينة.. تتناقص أعمدة الهاتف الموصلة إلى القرية في العد التنازلي.. وتتزايد ضربات القلب الموصلة إلى الضريح.. الطريق يصعد، والمساء ينحدر.. تتزاحم في نفسك صور الطفولة، والحرب، وحبات الزيتون تطرز الأرض، وأصابع "خولة" تلتقطها حبة حبة كعصفور نهم وفرحان.. وتحت شاربي أحمد تتفتح أزهار المضعف، وتورق "العتابا" .. ثم تُدوِّم في الوادي كسرب من الحمام، وكرجع الصدى تعود.. تتوافد إلى الذاكرة رسائل مغلّفة حملها ساعي البريد، وطائرات أطلقت دويها فوق أشجار الزيتون ولم تُرَ.. وجماعات تحلقت حول المذياع، تندلع أصواتها بين الحين والحين كريح صرصر.. وتتعالى مزمجرة كمطر غزير طوقته العاصفة.. تجفل "خولة" ورفيقاتها من أصوات الرجال.. وخولة وحدها مرتعشة تمسك بغصن الزيتون.. تداري ارتباكها بتحري شجرة الزيتون عن حبات باقيات، وتشد "المحزم" على قامتها الرشيقة.. تتوافد إلى الذاكرة صور أخرى.. وبين دوي الرصاص، والزغاريد، والطائرات.. بين هجوم الجند وهجوم البكاء تدخل النفس في دوامة، والأرض في ملحمة.. و"أحمد" يرصدك من عل.. كأن وجهه قمر برتقالي ينعكس على صفحة البحر، ثم يدخل في الظهور والغياب.. مرة بين ضفائر الغيوم.. ومرة بين ضفائر "خولة".. مرة ملفوفاً بأغصان شجرة الزيتون.. ومرة ملفوفاً بالعلم السوري...
آه يا أحمد..
أيها المبحر من غير وصايا.. أيها الحجل الذي منح جبال الزيتون سحب "العتابا" وقطرات العرق، وكان سخياً بدم القلب.. ترى بم بعدك تضاء الروح؟
هاهو ذا الطريق يصعد إليك.. مظاهرة صامتة من أشجار السرو والزنزلخت والكينا والزيتون.. تمسح ريح تشرين دموعها المتساقطة.. والبيوت تصعد واجمة في قيلولة المساء.. وهاهو ذا استشهادك البهي يغتسل بالعينين المتأملتين.. ويبقى.. وهاهي ذي "خولة" فوق الضريح واقفة.. وسفح الزيتون بمطر الحزن يرتحم.. وهاهي ذي النفوس على المفارق.. فطوبى للشهداء..
وأنت جئت إذن تشهد جني الزيتون؟.. متأخراً أتيت.. وحائراً تتأمل هذه الأشجار الفتية وهي تشد أوصالها وتنهض.. كنت نسمة نائمة بين الانكفاء والسفر، فصرت أرجوحة من عذاب.. إن الجرح مازال حارا، والأرضُ مطالبةٌ بالمطر.. وليس في فمك مايقال.. تريث قليلاً وسترى أنه ليس في مقدورك أن تكون عابراً محايداً..سيكون دخول القرية عصياً عليك.. فأحمد عند أبوابها على الرابية، في صمت وجلال ينتظر.. وخولة منتصبة ملتصقة بالضريح كشاهدة.. بل على مدى التلفت، وعلى مدى النظر حولك ينتصب ألف أحمد وألف خولة كحقل من القصب المخضر تعزف فيه الريح أغنية لا تنتهي...