بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:46:20 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1394 0


    الــيأس الــمـــبارك

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د.هيفاء بيطار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    قائلة بلهجة موبخة: والله أنت امرأة غير طبيعية، سنوات طويلة مرت، وفي كل مرة أزور الوطن أقول لنفسي بالتأكيد سأجدك هذه المرة مع رجل، مع حبيب، أو زوج أو عشيق، لكني أجدك أبداً امرأة وحيدة، أنت محنطة حقاً، وعلا صوتها مستنكراً بشدة: عجباً كيف ترضين أن تضيع سنوات شبابك وأنتِ بلا رجل؟! كنت أتأملها في انفعالها، وأنا أتساءل دون أن يؤثر بي كلامها -لكأنه لا يخصني- ترى ألا يخطر ببالها كم كلامها قاسٍ وجارح؟ لكني ملت للحال للتبرير لأن صور صداقة طفولتنا وشبابنا كانت تحّفُ بنا مشكلةً حولنا سياجاً من الحنان يمتص كل المنغصات.‏

    أحسستُ أن عليّ أن أجيب، صمتُ لحظة مكتشفة أن كل ما قالته منطقي وصحيح، وأنه من غير الإنساني أن تعيش إمراة وحيدة لسنوات لكن؟ أوه ماذا عساي أقول؟ وجدت نفسي أبداً بكلمة: في الحقيقة.. وتبددت الكلمات على شفتي، لم يكن شيء في أعماقي يتكون ويولّد كلاماً، كنت بحالة أقرب للتأمل، في حين كانت هي مصرة على الكلام بتعبير أدق على الشجار..‏

    استأنفت حملتها الهجومية على قائلة: أنت شابة وجميلة ومثقفة هل يعقل أنك لم تجدي رجلاً يناسبك؟ ألم تقتلك الوحدة؟ ألا تتحسرين على السنوات التي تمر ببساطة من عمرك دون صديق يؤنس وحدتك، ويشعرك بأنوثتك؟ إيه ما بك صامتة كجبل من هم، عجباً، كيف ترضين أن تعيشي هكذا؟ والله لو كنت معي في أمريكا، لألفوا عنك كتباً في التعقيد و..‏

    وجدتني انتفض وأقاطعها، وقد نقلتني كلمتها الأخيرة للحال لخانة الانفعال: مهلاً، مهلاً، لا تكملي، لا أظنني معقدة أبداً، أوافقك على أن الوحدة شيء قاس وصعب، لكني لا أستطيع ملأها بأي رجل.‏

    حملقت إليّ وكأنها تنتظر توضيحاً عاجلاً: أي رجل؟ ماذا تقصدين؟‏

    -أقصد أنني لو وجدتُ الرجل المناسب، لما كنت وحيدة أبداً.‏

    -الرجل المناسب! هذا كلام المتخلفات، الرجل مغامرة، تكتشفينه بالعشرة، يكفي أن يكون هناك انجذاب أولي، قبول مبدئي بينك وبينه، ثم تأتي العلاقة والتعود.‏

    لم أفهم كلماتها رغم بساطة مفرداتها ووضوحها، لكن ماذا تعني بقولها الرجل مغامرة، تكتشفينه بالعشرة؟ أية أبعاد كارثية لهذه الكلمات، هل تدعوني لإلقاء نفسي بأحضان أي رجل يُوليني اهتمامه، وأعتقد أنني أميل إليه، دون أن أمهل نفسي لأتعرف إليه، ويتعرف إلي.‏

    سألتها: لم أفهم كلامك؟‏

    قالت: يا صديقتي الغالية، يجب أن تكوني مع رجل، أتفهمين، وكزّت على أسنانها مؤكدة جملتها الأخيرة: يجب أن تكوني مع رجل.‏

    أطرقتُ منزعجة -لأنني ما كنت أطيق لهجة الأمر، ترجّع، صدى كلامها في ذهني، يجب أن أعيش مع رجل وتخيلت نفسي أركض في الشوارع بكل الاتجاهات، دون مراعات لإشارات المرور، لاهثة، مشعثة أبحث عن رجل، وانفلتت مني ضحكة قصيرة لأن خيالي صوّرني بشكل هزلي..‏

    سألتني: ما بك تضحكين؟‏

    قلت لها مدارية شعوراً طاغياً بالسخرية من كلامها: يبدو أن الغربة تغير الإنسان حقاً.‏

    قالت: تقصدين أنني تغيرت لأنني أعيش في أمريكا.. صدقيني لو سافرتِ مثلي لفكرتِ كما أفكر..‏

    فكرت بكلامها وقلت، لا أظن.‏

    يبدو أنها أحست أنها قست علي وجرحتني بانفعالها الهجومي، سألتني وصوتها يرق: ألا تؤلمك الوحدة؟ تمليت وجهها وابتسمت: هذا الوجه أعرفه منذ ثلاثين عاماً، كم هو أليف ومحفور عميقاً في روحي، قلت لها وقد فاجأني جوابي الذي بدا وكأنه ساقط علي من علو ما: -أفضل الجوع على تناول طعام مسموم.‏

    ورسم وجهها علامة عدم الفهم، في حين وجدتني أهنئ نفسي على تلك الجملة التي بدت لي رائعة..‏

    وجدتني أنقاد بالحديث أمامها وكأنني أحاور ذاتي: في الحقيقة كنت أرتعب من كلمة الوحدة، صدقيني لا أبالغ أبداً باستعمالي كلمة رعب، وكان رعبي من الوحدة، يوترني للغاية، يكهربني، ويجرني لمواقف لا أرضاها في أعماقي، لكني كنت أعتقد أنه من واجبي أن أحارب الوحدة بأية وسيلة وأي شكل، وكنت في النتيجة لا أجني سوى الخيبة أو الهزيمة.‏

    بدا عليها الاهتمام وسألت: كيف؟‏

    تنهدت بعمق وأنا أتذكر تجربة أليمة وقلت: بإرادتي الذاتية غرقت في الظلمة الكثيفة، أحببت رجلاً، أو ارتميت بأحضانه هرباً من الوحدة، رغم أن شعوراً صادقاً في نفسي نبهني لخطأ سلوكي، إلا أنني لم أتورع عن خنقه بلا رحمة، والمضي بخطاً حثيثة في علاقتي مع هذا الرجل معتقدة أنني أقضي على وحدتي، آه، كيف سأشرح لك؟ الخطأ ماكر وخبيث حتى أننا في أغلب الأحيان لا نلاحظ حضوره في جميع أفعالنا، التي تبدو لنا حسنة، لكني من وقت لآخر كنت أشعر بنار آكلة في أحشائي تحرقني، وشعور يتفجر كالبركان، وبلا انذار في داخلي يشعرني أنني بلا كرامة، ليس ضرورياً أن أغوص في التفاصيل إنه رجل غير مناسب أبداً، وقد استمررت معه ما يقارب السنة، وفي كل مرة كنت أود قطع علاقتي به. كنت أنهزم خوفاً من الوحدة.‏

    باختصار ، لم اشعر بأنني ذات كرامة معه، وكنت أحاول تشويه حقيقة الأمور لمجرد استمراري معه، استمراري المبطن بالخوف من الوحدة، إلى أن انفجرت ذات يوم وقطعت علاقتي معه، وهيأت نفسي لأمواه من الحزن تُغرقني، وحضرت الحبوب المهدئة والمضادة للاكتئاب، لكن ما حدث معي أدهشني، وجدتني بعد أيام قليلة من عذاب فقدانه أصاب بانشراح غير مفسر.. كانت حالة من اليأس المبارك تتلبسني. قاطعتني بدهشة: اليأس تابعت: أجل، يأس مبارك، كنت وحيدة مع أشيائي وذاتي، تصالحت مع نفسي، عادت طبيعتي الأصلية تتشكل من جديد، بعد أن هشمتُها بعلاقتي معه، عادت لي قناعاتي وأفكاري وأحاسيسي بعد نفي قسري من قبلي، لمجرد أن استمر معه، صرت بحالة انتباه واعٍ لحياتي، لنفسي وأدركت بعد أن امتلأت أياماً بدونه، أن علاقتي معه كانت مأساوية فعلاً، كانت تعني تحديداً خوفاً مرضياً وغير مبرر من الوحدة، وها هي الوحدة بعد أن خبرتها، إنها أليفة، حنون، متسامحة، غير مؤذية، مسالمة تجلس إلى جوارك صامتة، كانت علاقتي معه ضياعاً تاماً، مملوءاً ألماً، بصراحة كنت أحيا بطريقة مذلة.‏

    فجأة امتلأت عينا صديقتي بالدموع وتعكرت صفحة وجهها وتمتمت: علاقة مذلة، كنت أبحث عن هذه الكلمة منذ زمن.‏

    أحسست بالذنب، ترى هل جرحتها دون قصدٍ مني سألتها: ما بها! لكن دموعها أخذت تنهمر بغزارة ، وأتاني صوتها واهناً ضائعاً: في الحقيقة لا أحد مرتاح في هذه الحياة، لا أظن أن هناك سعادة.. واختنق صوتها انكشف لي ألمها الحاد والحقيقي في تلك اللحظات، يا إلهي كم كانت تثير الشفقة وهي تبكي مرتجفة تمسح دموعها وتتمخط..‏

    ربتُ على يدها وقلت لها: ما بك؟ ما الذي فجرّ حزنك هكذا؟ هل قلت شيئاً أزعجك، أرجوك انسي كل ما قلته.‏

    قاطعتني بصوت غارق في الدموع: لا، كل ما قلته، دقيق، رائع، صحيح قلت لها:‏

    أرجوك تكلمي، ما الذي يضايقك؟‏

    أخذت نفساً عميقاً ورشفت ما تبقى في فنجان قهوتها، ثم قالت وهي تتحاشى النظر في عيني، بل تزوغ بنظرتها في كل مكان:‏

    -عشر سنوات وأنا أعيش معه، لا يرضى أن نتزوج و لا أن يمنحني طفلاً..‏

    صمَت، لم أعلق بكلمة، لأنني كنت أنتظر أن تسترسل بالكلام، لكنها لم تزد كلمة. حل صمت ثقيل كالجدار بيننا، وتردد صدى جملتها مراراً في أذني ربما سمعت تساؤلي من خلال الصمت المطبق: ولماذا تستمرين معه؟! سمعت جوابها يعبر جدار الصمت بيننا: أستمر معه خوفاً من الوحدة.‏

    واشتبكت عيوننا لحظة بنظرة خاطفة أضاءت أعماقنا كومضة برق حادة، اكتشفت كل منا مدى الخيبة العميقة في أعماق صديقتها، وجدتني أسألها: هل تحبينه؟‏

    وأتاني جوابها سريعاً، لا إرادياً: بل أكرهه.‏

    جمدتني هذه الكلمة، لم أتوقع سماعها، قالت مؤكدة: أجل أكرهه، في البداية، أحببته عشنا معاً كأي عاشقين، ساعدتنا الغربة لنتعلق أحدنا بالآخر، كيف سأصف لك الوحدة في أمريكا، لا أحد يدق بابك، يمكن أن تموتي ولا يشعر بك أحد حتى تتعفني، بدأت أكتشف كم نحن مختلفان، ومع ذلك استمررنا.‏

    قاطعتها ولماذا لم تتركيه وتبحثي عن غيره؟ أقصد عن رجل يحبك ويقدرك...‏

    تململت قائلة:‏

    -لا أعرف كيف سأشرح لك، الأمر معقد فعلاً، أحس أنني تورطت معه، خيوط حياتي تشابكت مع خيوط حياته.‏

    قاطعتها: لكنك وصلت إلى حد الكره، وهذا شيء مرعب.‏

    قالت: أجل، أحياناً أحس أنني حالما سأتركه سيتزوج فتاة تصغره بعشرين عاماً، تختارها له أمه، وأحياناً أشعر أنني أريد أن أستمر معه لأحرجه ونتزوج، وأنجب طفلاً، ثم إنك لا تعرفين كم هو صعب تأمين البديل. من جهة لم أعد صغيرة، والمدينة التي نعيش فيها صغيرة، والكل يعرف أنني صاحبة فلان، كما أنني لا أعرف كيف سيكون هذا البديل؟.‏

    قلت محاولة تلطيف الجو المكفهر بيننا: تقصدين الذي نعرفه خير من الذي لا نعرفه.‏

    قالت: ربما: ألم أقل لك وضعي صعب ومعقد..‏

    وجدتني أقول لها: ليتك تركته منذ البداية.‏

    تنهدت قائلة من أعماق روحها: يا ليت...‏

    ابتسمت لها مواسية، قلت لها: لا بأس.‏

    لم أجد كلاماً يمكن أن أعزيها به، تذكرت كيف ابتدأنا حوارنا، وكيف انتهينا، وددت لوأملك الجرأة وأسألها ما مبرر حماسها العظيم، لأعيش مع رجل، أي رجل! وهي تعاني كل هذه الخيبات والمرارت.‏

    لكنها فاجأتني وهي تخرج مفكرة صغيرة من حقيبتها، وتكتب بقلم الكحل الذي لم تجد سواه ، اليأس المبارك، قائلة: أعجبتني فعلاً هذه الجملة. ضحكنا، ضحكة صافية أِشبه بضحكتنا يوم كنا طفلتين نمشي متلاصقتين في باحة المدرسة.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()