بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:27:16 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 996 0


    القسم الثاني التَرِكةَ

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جاسم عاصي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    هم حاصدوك أيها الرأس‏

    ولم يبقَ بين يديكَ غير القلم...‏

    الإبداع‏

    رغم كل ماذكره الآخرون، من أني تسرعت في إجراء فعل كهذا، إلا أني لم أدع كل تقولاتهم دون تعليق... إذ تساءلت: ترى أين كانوا وقتها، وهم يحاصروني، بحيث سدّوا مثل هذه المخارج التي سلكتها..؟! غير أنهم كعادتهم. لفهم صمت مباغت بات كالرداء السميك، يتقون به كلامي ونظراتي. لذا فأنا غير معني بهم، وبتقولاتهم قدر اهتمامي بما آل إليه الحال. ورحت أستدرج ذاكرتي عن كل ما اقتفرته من فعل. وهو افتراض بأني مدان، أرغموني عليه، غير أني كنتُ هكذا، أنطوي على سريره غامضة، ومحور لا يدركه الآخر.‏

    صحيح أن ماقد يظهر مني خلال تصرفي أو صمتي، يثير الشك، لكني أعتمد حكمة، كون الرجال صناديق, لا يمكن فتح مغاليقها بسهولة، وأمام أي كان. ورغم كل ذلك. فقد كنت بينهم باستمرار رغم أني صامت ومنغلق على نفسي. وما معاناتي إلاّ جزء مما يعانون أو يكابدون، لكن الفرق بيننا في البوح والشكوى، فهم بكاؤون دائماً ، بينما يثيرهم كتماني هذا الذي مازال يحيطني وينسج صيرورتي، خصوصاً ما آلت إليه حالي، إذ أنهم استمدوا المعلومات من مصدر لا أعرفه، أو قل بالخطأ عرفوا فجاؤوا لائمين فعلتي التي أطلق عليها بعضهم بالشنعاء...! وحسبته من باب فروسية الكلام والمعرفة، وفكرت، ربما اعتبروا وضعي مادة للحديث على موائدهم، حيث تشح الموضوعات في جلساتهم الخاصة والعامة. أما الصمت فهو قاتلهم لأنه السلاح الذي امتلكه أنا ولوحده قلت في نفسي: أنا متأكد أني لم أرتكب جرماً، أؤاخذ عليه، بل انصعت إلى الحاجة، والضغط، دفاعاً عن جوع وعري الصغار والكبار، لذا فإن الرجل المحسن لم يبخل بإحسانه عليّ، بعد أن راقبني مراراً، هكذا مفكراً، غارقاً في الذهول وحساب الأيام وقسوتها، فرثى لحالي. وحين عرض أمامي المشروع الذي يمسك بالحل، لم يجبرني إطلاقاً، بل طلب التفكير فيه، لحظتها دورت كل شيء في رأسي، فليست للرجل مصلحة عندي، فقط لحل أزمتي، ثم إني لا أمتلك سقفاً أو حلية، كي أتركها وديعة عنده مقابل إسعافي بالمال.‏

    فهو لا يمتلك بين يديه شيئاً مادياً يسحبني بواسطته إلى الإحراج، والخسارة، والشعور بالخوف من السقوط في الهاوية، كما ذكروا وتصوروا، وبأنه نصب لي شباكاً كالصياد الماهر الذي يستدرج الطيور إلى فخاخه بالصبر والأناة والانتظار، قلت له وقتها:‏

    - إني فكرت..‏

    - وماذا قررت...؟!‏

    - لا مانع لدي.‏

    - على بركة الله.‏

    - متى...؟!‏

    - حين تستكمل كل الإجراءات.‏

    - وهل هنالك إجراءات؟!‏

    - وماذا تتوقع..؟! هل أهدر مالي هكذا، وهو تعب السنين..؟!‏

    وجدتُها مسألة معقولة، قلت:‏

    - لابأس بأي إجراءات.‏

    - لا.. إنه إجراء خطي ليس إلاَّ، وهو اعتراف وتأكيد على وجود المال عندك رهينة لقاء شيء أضعه مقابل مالي الذي هو مال أسرتي كما تعلم.‏

    - هكذا. إنه حق. وأنا مستعد.‏

    - فقط يكون ثمة تعهد خطي أمام كاتب العدل.‏

    ثم ذهبنا سوية كما طلب، وهذا كل الأمر، سلّم ورقة معدة بالآلة الكاتبة بإتقان على مايبدو وظهر عليها، ليس من خلال تمعن كاتب العدل في سطورها، بل من جراء ما استغرقه من وقت في قراءتها. حيث بانت الحيرة على وجهه، بعدها رفع رأسه قائلاً:‏

    - من يكون سعيد الناصري..؟!‏

    قلت له:‏

    - أنا يا سيادة كاتب العدل.‏

    - أنت..؟! وما اسم الأب..؟!‏

    - علي... أستاذ..‏

    - يعني هذا أنك سعيد علي الناصري..؟!‏

    ودوّن هذا على الورقة قائلاً:‏

    - والشخص الآخر الراهن...؟!‏

    قال الرجل:‏

    - نعم أنا هو...‏

    ثم التفت نحوي متسائلاً:‏

    - هل قرأت ماكتب فيها؟!‏

    - كلا بل ناقشنا ذلك مراراً، ثم اتفقنا‏

    - ورغم ذلك ، لابد من تلاوتها أمامك لكي توقع وتؤكد على ماجاء في مضمونها أمامي، وتتقيد بمحتواها.‏

    ثم بدأ بالتلاوة، وأنا مصغ إليه.‏

    [تعهد.. أني سعيد علي الناصري، أقر وأعترف وملزم أمام السيد سلمان بن يوسف بدفع مبلغ ثلاثة آلاف دينار، حيث أروم الدفع وفك الرهن، لقاء إيداع رأسي عنده، وأقصد استعماله لأغراضي، وإزاء ذلك يكون الطرف الثاني من يمتلك حق التصرف واستعمال رأسي كأداة للتفكير فقط، لأي غرض كان، وله حق التفكير به وبهذا يتعذر قانونياً استخدامه لأي غرض مما ورد أعلاه لصالحي، وبعكسه أكون ملزماً بدفع مبلغ ثلاثين ألفاً، دفعاً مباشراً دون اللجوء إلى المحاكم، ولأجله وقعت].‏

    نظر نحوي الكاتب. في حين كتمت انفعالي وتأثري ، قال:‏

    - هل أنت موافق على ماجاء فيه..؟!‏

    قلت: - نعم، ولكن لي اعتراض، أو في الحقيقة رجاء في استخدام رأسي سيما وإني أعمل معلماً، وأحتاجه في إعداد خطة للتعليم، والبحث عن الوسائل المناسبة والصالحة لتعليمهم، كذلك في استخدام عيني وباصرتي في اختيار الطريق الصحيح للوصول من وإلى محل عملي، ومتابعة شؤون أولادي المدرسية وهو رجاء فقط.‏

    قال:‏

    - إنه مرهون بالرجل، بالطرف الثاني.‏

    نظرت إليه بتوسل وضعف وأنا خائف من عدم موافقته، وهذا يعني ضياع كل شيء. ودام هذا دهوراً ثقيلة، كان من الصعب تحملها، انبرى بسرعة بعدها، لم أتوقع منه هذا:‏

    - لابأس ياسيادة الكاتب، فهذا عمل إنساني أدركه، شرط. أن لا يتطاول في استخدامه في أمور أخرى..‏

    قلت: - سوف ترى.‏

    وأخذ كاتب العدل يدون ماذكر في أسفل المطبوع، وتمت إجراءات التصديق، وخرجت من المحكمة وأنا أتحسس المبلغ في جيبي..‏

    هذا كل مالامني عليه من كانوا يحيطون بي، وماكانوا يرددونه من ملاحظاتهم لي في الفترة الأخيرة، رغم أني واصلت استخدامه بما تمليهِ شروط الوثيقة، متجنباً لقائي مع أفراد الأسرة التعليمية، وقضاء أوقات الاستراحة في الصف أو الساحة خوفاً من الدخول في حديث قد يثير أحاسيسي، ويدفعني لاستخدام رأسي لأمور التفكير بالأدب والثقافة والكتابة. كذلك قررت أن أكون كالنائم وأنا أعود إلى البيت، وأن لا أتصل بأحد أو أتبضع من السوق حيث تثيرني أسعار السلع وارتفاعها المذهل. غير أني غدوت بفعل القراءة أيضاً كالبالون الذي تواصل فيه ضخ الهواء، إذ لابد له من التنفيس والتفريغ، فقد ألحت عليّ مفردات قراءاتي وتقليب مشاريعي في الكتابة، وهي حالة اعتدتها طيلة حياتي ، وتوجست من التمادي في الكبت هذا، والذي قد سبب لي مرضاً، حيث سيضيع كل شيء.. أخذت أفكر وأتابع واقرأ خلسة عنه.. متناسياً ما أملاه عليَّ في الوثيقة. ومما شجعني على ذلك هو أني عندما كنتُ ألتقيه في مكتبه أو في الشارع، أجده مطمئناً على الأمر، حيث يسأل عن أحوالي، وصحتي وعيالي، فأشكره على اهتمامه هذا. ولما أصبحت مطمئناً على أنه غير عارف بكل ما أفعل، مخالفاً التعهد معه فقد كسبت الوقت معه فهو لم يظهر أنه عارف بفعل هذه المخالفة، والأيام تتوالى بالعد وتجري كالمياه الساقطة من أعلى، وكثرت بها معرفتي، وزاد ضغطها على دواخلي وأحاسيسي، حتى غدا كل شيء ينذر بالانفجار، وبناء على تصوري بعدم معرفته بخفايا الأمور، قررت البدء في الكتابة التي لاحظ الآخرون بفعل تأثيرها عليّ اصفرار وجهي وجحوظ عيني وشرود ذهني، وذهولي، لكنهم وبسبب معرفتهم بي ذكروا أني وضعتُ نفسي داخل قفص ضيق، فماذا أفعل مما زاد من إصراري على تحطيم كل شيء، وعدم ترك نفسي ترتمي في غير ما أحب، أو أرغب إذ ليس من المعقول أن هذا الرجل يصّر على رأيه ذاك، كذلك فإنه سيبقى على عدم المعرفة مازلت لا أجهر بما أفعل. فقررت الكتابة، وتجاوز كل العقبات، فقد أرقني، ذلك الإحساس طيلة الليالي، ودفع بي إلى حالة القلق والاضطراب الدائم مع أسرتي وتلاميذي في الصف، حيث انقطعت عن لقائه، وتعمدت عدم المرور على مكتبه، مستمرءاً الحالة هذه فزادني ذلك استقراراً بعودتي إلى عالم أحبه كثيراً، أفنيتُ عمري لأجله.‏

    هكذا جهزت الأمور وعلى سرية تامة، لكنه في يوم ما وجدته أمام باب داري، كان يحمل نسخة من صحيفة يومية، كنت قد نشرت فيها قصة على غفلة منه، وقف أمامي، والأسئلة تنط من فمه وترتسم على عينيه...كمن أهين فجأة قال:‏

    - هل كان اتفاقنا هكذا؟؟!‏

    كنتُ على حيرة من أمري تداركت الأمر قائلاً :‏

    - كلا.. إنها قصة كتبتها قبل الاتفاق... حاولت الاستفادة منها مادياً..‏

    لكنه قال بإصرار وثقة:‏

    - أنظر ، هذا، وهذا.. إنك تواصل نشاطك الصحفي، ثم إن تعليقاتك على هذه الكتب حديث أي مابعد التعهد، فقط سألت عن الكتب، فذكروا لي تأريخ صدورها، وكلها مابعد الاتفاق عكس ماتدعيه..!!‏

    - ولكن أعطني فرصة..!‏

    - لا أعتقد، وثق أني أعرف اهتماماتك الأدبية ومتأكد من نقضك للتعهد.. لكنك كبدتني خسائر، فقد كنت أشتري الصحف يومياً لأتابعك، كنت على حيرة من أمري أكثر.. وازداد حرجي، وغدوتُ كمن ضبط بجرم، محاصر كجرذ في المصيدة، غير أنه لم ينتظر جوابي، بل انبرى قائلاً:‏

    - هل تدفع المبلغ الذي اتفقنا عليه في حالة خرق التعهد الآن؟‏

    لم أجب مطلقاً، فأنا محاصر به، وبوثيقته، وبنسخ الصحف هذه التي تشكل أداة إدانة لي.. غادرني بعد أن قال:‏

    - سنلتقي ، ولكن في المكان المناسب ‎، وبين يدي مايدينك.‏

    واستقل سيارته، وتركني هكذا، وحيداً لا أستطيع التفكير، يحاصرني لوم الآخرين، وصواب تحذيراتهم على مافعلت بنفسي سابقاً، وليس بما يخلصني من الموقف هذا..!!

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()