بتـــــاريخ : 11/15/2008 8:46:26 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1423 0


    فسيفساء

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جمال جنيد | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة فسيفساء جمال جنيد

    - القط‏

    الليل زجاج أسود..‏

    القمر غائب..‏

    والجنود مثقلون بالسلاح..‏

    السكوت قبر خلف بيت قريب.‏

    عينان فضيتان لهرة، وشابان، أحدهما يمسّد شعر الهرة الناعم. ويتأبط أوراقاً باليد الأخرى، أما الآخر فمشغول بربط علبة سردين فارغة، بقطعة حبل قصيرة. وإلى جانبه كيس ينتفخ بالمؤن...‏

    الصمت غول...‏

    الجندي (إيال):‏

    -متى يطلع الفجر؟!..‏

    -حين تطلع الشمس!..‏

    يتمسك الجندي إيال بالبندقية، كأنها طوق النجاة..‏

    يتابع عميرام:‏

    -اذهب ونم في السيارة مع الآخرين!.‏

    -اللعنة على منع التجول.. هؤلاء العرب لا تعرف من أين يأتون ولا كيف يختفون!.‏

    حين أضاءت العينان زجاج الليل، ربط الشاب طرف الحبل بذنب الهرة. مسح على شعرها الناعم. سمع صوت رضاها. ثم همس في أذنها. وهو يضرب على ظهرها ضربة خفيفة:‏

    -هيا.. يا عنبر!.‏

    فجأة..‏

    انكسر زجاج الليل. وتحول الصمت إلى عفاريت تقفز هنا وهناك.‏

    نهض الجنود النائمون. وقفز قلب (إيال) من صدره وكأنه خرج من فمه. وسقطت بندقيته المحشوة، فزاد خوفه خوفاً..‏

    تشنجت أصابع عميرام، ولم يستطع حراكاً..‏

    حشرج إيال:‏

    -الملثمون!.‏

    وجرَّ نفسه نحو السيارة. واستعمل عميرام بندقيته عكازاً ليصل السيارة.‏

    في لمح البصر. اختفت السيارة، وفي لمح البصر اختفى منع التجول..‏

    العينان المضيئتان لعنبر تزرعان الحارة جيئة وذهاباً، وتقهقه الأرض تحت علبة سردين فارغة على الجنود الهاربين.‏

    قال الشاب الأول لرفيقه:‏

    -هيا!...‏

    نشر الشاب الأول رزمة الأوراق في الحارات المحيطة.‏

    تندد بالاحتلال. ووزع الشاب الثاني المؤن على بيوت الحارة المحاصرة..‏

    حينئذٍ ، عاد القمر الغائب خلف السحاب، وغطى الأرض بلون فضي. هازماً زجاج الليل الأسود.‏

    ***‏

    2-المسامير‏

    عاد محمد أبو زريعة من حقل البطاطا، حيث يعمل في مزرعة (ميرون).‏

    كانت الشمس قد غطست خلف مخيم (قلنديا). شمال القدس مثل كرة ملتهبة انطفأت بالماء.‏

    وفي حارات المخيم وأزقته انتشرت الحجارة مثلما تنتشر النجوم في السماء..‏

    كان أبو زريعة يحمل كيساً من البطاطا على كتفه، ويتجه صوب بيته. حلقه صحراء، ورجلاه قطعتا حديد، أوقفه أحد الجنود، وطلب منه أن يفتح الكيس... قال أبو زريعة بلهجة ساخرة:‏

    -هذه بطاطا وليست حجارة!.‏

    حين وضع أبو زريعة كيس البطاطا في صحن الدار.‏

    خرجت زوجته من الغرفة الوحيدة التي ينامان فيها مع أربعة أطفال، ناتفة خصلات شعرها وهي تصيح:‏

    -حسين يا محمد.. حسين!.‏

    -ماله ابني حسين؟!..‏

    -دخل الجنود الدار وأخذوه!.‏

    جلس محمد أبو زريعة على كيس البطاطا مهدوداً. وعصر رأسه بيديه المتربتين...‏

    لم ينم تلك الليلة...‏

    ظلَّت عيناه تحدقان في سقف (الزينكو)، ومثل لمعة برق عادت إليه جملته التي قالها ساخراً للجندي: -هذه بطاطا وليست حجارة!.‏

    ثم قال لنفسه:‏

    -سأترك العمل عند (ميرون)، وأعود إلى مهنتي السابقة، النجارة،‏

    وعاد حنينه إلى المسامير، يضربها بشاكوشه. بقوة. بقوة أكثر. رأس المسمار ينغرس أيضاً في البطاطا. كما ينغرس في الخشب... آه.. نعم..‏

    في البطاطا. مسامير في البطاطا، أوجع من الحجارة.. نهض صباحاً.. ابتسم في وجه زوجته.. استغربت عدم اهتمامه بما حدث لابنه...‏

    قال لها وكأنه يقرأ أفكارها:‏

    -ابنك حسين واحد من آلاف الشباب في السجن.. لكل واحد منهم أب وأم وأخوة، نحن مثلهم..‏

    ثم أشار إلى كيس البطاطا:‏

    -لا تطبخي لنا بطاطا هذا اليوم!.. خبئي هذا الكيس تحت السرير. لن نطبخ بطاطا بعد اليوم!..‏

    حين تكدست أكياس البطاطا حول السرير، ووصلت حتى السقف، اشترى محمد أبو زريعة كيساً من المسامير الحادة الرؤوس، وبدأ العمل عند آذان العشاء.. عند الفجر، كانت أكياس البطاطا مكدسة أمام بيت محمد أبو زريعة، الذي أخذ يصرخ بحاملي الحجارة:‏

    -خذوا يا أخوان.. هذه حجارة جديدة.. هذه حجارة محمد أبو زريعة، جربوها، ولن تندموا... لن تندموا أبداً!.‏

    هذه المرة..‏

    لم تكن الشمس قد غطست مطفأة بالماء، بل مرَّت. إلى جانبها سحابة بيضاء شفافة مثل كيس من النايلون. فتشكلت مع أشعتها حبة بطاطا نبتت لها رؤوس حادة.‏

    ***‏

    3- الخوف‏

    الخوف قط له عينان تضيئان الظلام..‏

    الخوف.. غطاء أسود..‏

    الخوف.. قطران يذيب القلب..‏

    الخوف.. عمود في مقدمة سيارة مدججة بالجنود والسلاح.‏

    دخل (يرهميئل) الضابط، مع صديقته المجنده (نوريت) على أحد المختصين لمواجهة الحجارة والقطط والمسامير.. و.. الخوف..‏

    قال يرهميئل:‏

    -سيدي.. عمود أمام كل سيارة ينقذنا من الحجارة!.‏

    صرخ المختص:‏

    -لعنة الله على الحجارة!.‏

    -سيدي.. الحجر ليس له شكل.. ولا تعرف من أين يأتيك!.‏

    -قل.. ما قصة العمود؟!..‏

    تحدثت (نوريت) التي تعيش في ضاحية (بات رام) جنوب تل أبيب في فيلا أنيقة...‏

    -نثبت عموداً ثبتت فيه كراسٍ في مقدمة سياراتنا.. ونربط المعتقلين بهذا العمود.. عندئذٍ..‏

    خبط المختص الطاولة بقبضته، ونهض. وخلع نظارته السوداء، وبرقت عيناه:‏

    -فكرة جميلة و.. مبدعه!.‏

    كانت الشمس مازالت باردة حين اقتيد المعتقلون ورُبطوا على أعمدة في مقدمة سيارات الجنود، ودارت السيارات شوارع عين مريك. كفرعين، سلفيت. كفر جمال. بيت تعمر، الطيبة، قلقيلية، كفر مالك، حي الثوري في القدس، أم التينة، بثير، تل صرة، عزموط، برقة. حادث، ومخيمات الشويكة، الشاطئ، البريج، الدهيشة، المغازي، مخيم جنين، طولكرم، الأمعري، قدورة...‏

    أخذ المعتقلون يرسمون بأصابعهم علامة النصر، في مقدمة سيارات الجنود، وبثت عدسات الصحفيين الصور إلى الوكالات العالمية مرفقة بكلمة واحدة.. الخوف..‏

    وزع الناس المسامير على الطرقات، فأخذت العجلات تنفجر. وينفجر معها غضب الجنود..‏

    انزوى الضابط (يرهميئل) مع صديقته المجندة (نوريت) . في فيلتها الأنقية في ضاحية (بات رام) جنوب تل أبيب.‏

    كانا يقضمان أظافرهما. وهما ينامان عاريين إلى جانب بعضهما في سرير واحد، لأن فكرتهما نشلت خوف (الدولة) من الأعماق إلى السطح...‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة فسيفساء جمال جنيد

    تعليقات الزوار ()