بتـــــاريخ : 11/13/2008 7:02:28 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1362 0


    الذاكرة الآلية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد بلقاسم خمار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    أخيراً اكتشفت أنني عبقري .. وأنني قد سبقت عصري بمرحلة كبيرة ، ووجدت في هذا الزمن المتقدم في تأخره ، وكان من المفروض أن أظهر بعد عشرات السنين من هذا الوقت ..!‏

     

    أما مضمون هذا الاكتشاف ، فهو ببساطة ، كوني خلقت . بعد مرحلة الشباب . نسايا ..! لماذا ..! ذلك . حسب ما يبدو لي . ان قوة الذاكرة .. هي دليل . في بعض توجهاتها . على البدائية ، والتأخر ، وعهود الانحطاط .. وأن الفيل يعتبر من أكثر الحيوانات سذاجة، وانصياعاً ، وطيبة.. لا لشيء.. إلا لذاكرته القوية، كما يقولون ..‏

     

    في المجتمعات القديمة الأوّلية .. كانت ذاكرة الفرد هي التي تحدد دائرة معارفه . هي آلة تصويره ، وساعته، ودفتره ، ومسجلته ، وحاسوبه ، وسينماؤه، ودليله،وبوصلته، وتيلفونه، وفاكسه ... وسكرتيرته الجميلة الملازمة، كانت الذاكرة هي كل شىء بالنسبة للإنسان القديم، وكانت تشتغل بصفة دائمة ، دون انقطاع ، لذلك كانت قوية ، نشطة ، لا تعرف الخمول، أو التحول ، أو النسيان ..‏

     

    ومن جراء قوة الذاكرة البدائية تطورت وازدهرت علوم الفلك ، ومواقع النجوم ، ورصد العواصف، والقيافة، وتتبع الأثر، ومعرفة الانساب، والقبائل، ومتابعة الثارات، وتسلسل انتقاماتها، خاصة إذا كانت تمس العرض والشرف ،... وكانت الذاكرة هي العصبة .. وهي التاريخ بكل أفراحه أو مآسيه .. لم يكن الإنسان القديم ينسى حتى الموتى .. وكان يعيش بحاضره المليء بالأحداث ، لتلبية وصايا ماضية المقدس . من أجل تاسيس مستقبله المعلوم..!‏

     

    وبمجرد أن أخذت حياة الإنسان في التطور ، بفضل تقدم العلوم، وفتوحات التكنولوجيا ، بدأت الذاكرة البشرية تتخلى شيئاً فشيئاً عن مهامها ، لتفسح المجال أمام المخترعات الحديثة ، لتحل محلها ، وتقوم مقامها،.. وقد يأتي يوم ينتهي فيه دور الذاكرة البشرية بصورة شاملة، ويصبح الإنسان / نسايا / بديمومة وإطلاق وساعتها يكون كل مخلوق آدمي ، مزوداً بذاكرة آلية ، مزروعة في مناطق دماغه الحسية، بحيث لا يتذكر تاريخاً أو شكلاً ، أو لوناً ، أو طعماً أو رائحة إلا بواسطة إيحاءات تلك الآلة الذاكرة العجيبة ..!‏

     

    بالنسبة لي ، ولاعتبار أنني أعيش / نسايا / في عصر غير عصري ، فقد أنقذني الله من حمل الذاكرة الآلية المستقبلية، وعوضني باستخدام ذاكرة أبنائي وأقاربي، وأصدقائي، ومحفظتي الجلدية، وفي هذا خير كبير، ونعمة لا تقدر ..‏

     

    عندما قلت . أن الذاكرة القوية، دليل على البدائية ، والتأخر .. و.. و.." فأنا بالطبع لا أقصد أن أنفي الخير والسعادة ، أو أمس مظاهر العزة والشهامة والمروءة عند أجيالنا القديمة جداً ، بل بالعكس فإن عهود الذاكرة القوية، مفعمة بملاحم البطولة والكرامة.. بينما قد نجد / مستقبلاً / عهد الذاكرة الآلية، مليئاً بالمذلة والاحتقار .‏

     

    وبعد.. أرى من الواجب علي، أن أكرر حمدي لله، لأنه جعلني نسايا/ في غير زمني / ولم يجعل لي ذاكرة آلية، خاصة وأنني من مواطني العالم الثالث.. ومن الجزائر بالذات.. ولكي أشرح أسباب هذه / الحمدلة / أقول:‏

     

    إن الذين يعيشون معي الآن / في زمنهم/ مذبذبون في ذاكرتهم، وفي نسيانهم فهم غالباً ما يتذكرون أشياء كان من المفروض أن تكون منسية لديهم.. وينسون أموراً لا يجوز نسيانها ..!‏

     

    يتذكرون بسرعة من يتبوّأ منصباً سامياً، ولو كان منسياً عندهم منذ سنين .. وينسون من عاكستهم الحظوظ في الجاه أو في المال ، وان كانوا من قبل يسبحون بحمدهم، ليل نهار ..! ومثل هؤلاء ، تكون في الغالب ذاكرتهم بصرية، لا بصيرية .. يوقظها اللمعان الخاطف، ولو كان حارقاً، ويخمدها منظر الظلال، ولو كانت موئلاّ للعزة والأنفة والشرف ..‏

     

    فمثلاّ ..هل بالإمكان نسيان الأرض، والشهداء والشعر، وحقد، الصهاينة. ومأساة الشتات .. أي ذاكرة مسلوبة منبهرة هذه ..!؟‏

     

    ان اغلب الذين بدأت تظهر عليهم أثار الذاكرة الآلية، من سكان العالم الثالث، وبدأت ذاكرتهم البشرية في الضمور والانحلال، هؤلاء الناس مع الأسف ، يمكن اعتبارهم من بين ابشع ضّحايا عصر التيكنولوجيا. ونستطيع عدهم من بين معطوبي الإرادة والشخصية ومعوقي الوعي ..!ولا فرق بينهم، وبين ضحايا العبودية في العصور القديمة ، إلا في المظهر فقط ..!؟‏

     

    إن الذاكرة الآلية هي من صنع الدول القوية المتفوقة، وهي ( مفبركة ) ، ومكيفة، ومبرمجة بقصد ، لتتلاءم وتتناسب مع مناخ اصحابها، وميولهم، وافكارهم، وسلوكهم، وطموحاتهم الشخصية ..‏

     

    ونظراً لمواقفنا الانعزالية ضد التوحد والتضامن والتعاون فإننا لا نستطيع . في حالة التمزق هذه أن نصنع أية ذاكرة أو نتمكن من استعمالها .. لذلك .. فالأقوياء المتحدون هم الذين يصنعون لنا ذاكرتنا الآلية ، بما ينسجم مع طاقاتنا المحدودة، وهم الذين يركبونها لنا ، ويكيفونها، ويبرمجونها حسب مايريدون، وكما يحلو، لهم،.. ومن جراء ذلك، فإننا لن نستطيع أن نتذكر إلاّ مايريدون هم منا أن نتذكره ، وننسى كل مايريدون منا نسيانه ..!؟‏

     

    إنهم- اليوم - يوجهون نحونا أقمارهم الصناعية، ويبيعون لنا / الهوائيات المقعرة/ ويبثون بيننا البرامج التي يختارونها لمقاسنا .. يطبعون الجرائد اليومية والمجلات، ويخصوننا بنسخ خاصة .. الكتب، والألعاب، والألبسة، والرسوم .. حتى المصانع والأسلحة، والأغذية.. كل شىء يبيعونه في أسواقنا، حسب مقاييس محددة، وصلاحيات محسوبة .. تتناسب مع التمهيد / لترويض/ ذاكرتنا الحالية، حتى تكون على استعداد للتلاشي واحلال الذاكرة الآلية محلها ..!‏

     

    وكم هو رهيب ذلك اليوم الذي تبدأ فيه عمليات تصدير الذاكرات الآلية..‏

     

    إنه بالفعل سيكون يوم نهاية التاريخ ..!؟‏

     

    كم أتمنى أن نحافظ على تأخرنا، بحكمة ووعي وان نبعد مواقع ضعفنا الحضاري عن عبث المتطورين ..! وأن نحمي ذاكرتنا البشرية العربية من غزو الذاكرة الأجنبية، وان نتخبط في وحلنا، دون مساعدة أي يد تمد لنا من الضفاف الأخرى للبحر، ثم نمسك بأيدي بعضنا كما يفعل / الرحابة/ أو أصحاب / الدبكة/ ونتقدم خطوة خطوة إلى أن نصل بأنفسنا، ماوصل إليه غيرنا بنفسه ، وبذلك فقط، نستطيع أن نعتمد على ذاكرتنا، حتى ولو جعلناها آلية لأنها ستكون من ابتكارنا وصنعنا وسنكون نحن من يركبها ويكيّفها حسب مقتضى الحال.‏

     

    احسست بشيء مكهرب، يوضع فوق كتفي الأيمن، فقفزت واقفاً كالملسوع، واستدرت بسرعة فائقة ، وانا أرتعش لأواجه، بلا وعي، هذا الرعب الداهم.. وانطفأت كشعلة عود كبريت، داهمتها نسمة عابرة وهي في عنف توهجها ..!‏

     

    -عزيزي محمود.. لقد افزعتني كثيراً، وأنت تضع يدك بغتة على كتفي..! كان من الممكن أن تقتلني بمثل هذه الحركة .. أرجوك لاتكرر معي هذه المباغتة مرة أخرى.. إنني مازلت أعيش كابوس الارهاب ..!؟ وعلى كل حال ، الحمد الله على السلامة .‏

     

    -شكراً .. ومعذرة .. لم يكن قصدي أن ارعبك .. ويبدو أنك قد تحسنت كثيراً ، عما تركتك عليه منذ شهرين..‏

     

    -نعم .. تحسنت فكرياً، أما نفسيتي فمتدهورة.. ربما بسبب العزلة التي عانيتها منذ سفرك، ومما يضاعف قلقي أنني إلى حد ألان ، لم أجد لنفسي مبرراً مقنعاً عن سبب أختياري المجيء إلى هنا .. إنني متأكد من وجوده.. ولكن متى اتذكره .. متى ..!؟‏

     

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()