بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:18:30 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1331 0


    الحصان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جاسم عاصي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الحصان جاسم عاصي

    لابد من القيام بالعمل هذا...‏

    فلا هو لا يدري لماذا..؟ ولا من رآه عرف السبب، الكل مشغول بما حوله، بل ربما المدينة الرمادية ذات الدخان المتصاعد، والتقاطع في الخطوات، في الخروج والدخول، هي السبب في عدم اكتراث الرجل بكل مايجري، ولا كيف يجري تماماً، بل اندفع إلى هذه النقطة التي وجد نفسه محاصراً داخلها، منطلقاً منها، وهو على أية حال يجوب المدينة التي تستقبله بأزقتها، وهو رجل طاعن في السن عار، إلا مما يستر عورته، ويتوسط مكان الحصان، لعربة كبيرة نوعاً ما، يضع ساعديه على العمودين الخشبيين اللذين يمتدان أمام العربة بشكل متوازٍ متوسطاً إياهما، وممسكاً بهما بقوة، دافعاً العمودين إلى الأسفل، حيث ترتفع العربة من الخلف، وتصبح متوازية مع جسده، لحظتها تنط أعصابه وعظامه وتوالي خرزات ظهره المنكشف للسماء والشمس. السماء النارية، والشمس المحرقة، والمدينة كأنها خرجت تواً من بركان اغتالها لوقت طويل، وسالت محتوياته المتوقدة الفائرة لأيام، مالئاً الطرقات والأزقة والبيوت، مخلفاً حرائق ودخان، وأقدام تتقاطع هاربة من هنا إلى هناك، هدوء مخيف مبطن بالخوف، وأصوات مكبوتة، ينتابها الهلع. والرجل يجري، ويجري داخل الأزقة، والحواري والشوارع المستقيمة والملتوية في المدينة دون هوادة، يجري دون أن ينظر. يركض دون أن يلمح أحداً أو يدقق بشيء ما، ربما قرر ذلك، وربما امتلأ بإحساس غامض، لكن كل أمره أن يجري هكذا، وتنط عضلاته المتوترة: وتبرز نتوءات عظامه، ساحباً العربة بنشاط منذ الصباح، سرعان مايقل رويداً رويداً، كلما انسحبت الشمس عن المدينة، وشحبت، حتى ليبدو أنه إنسان شمسي، يبترد لغروبها، وتثقل عليه العربة، لحظتها، وهو يدرك هذا الثقل، وكل من حاول اللحاق به لا يستطيع إدراكه بسهولة، لكنه يبقى على أمل العودة إلى نفس الزقاق هذا.. أو الشارع ذاك، ومن ثم العثور عليه هكذا، فالانتظار أفضل لبعضهم من اللحاق به مسرعاً لا يدري أي شيء، كان الثقل يزداد عليه، وأحياناً يخف، ويجهد نفسه على أن يكون متوازناً، حيث تزداد حركته وجريه، وحين تخف العربة من حملها، لا يتوانى في ذلك، ببذل الجهود المضاعفة لكي لا يظهر عجزه عن الجري في حالة امتلائها بالتوابيت.‏

    عند مروره بالأزقة والشوارع كان الجميع إما أن يأخذوا منه أحد تلك التوابيت كي يضعوا جثة عزيز عليهم داخلها، أو أنهم يرمون بآخر كان قد فرغ بعد أن توارى الجسد في التراب، والرجل المسن يجري، ولا يدري بهذا أو ذاك، ناتئ العظام فقط، محافظاً على توازن جريه، لا يدرك من يراه أو يلمحه، والأيام تمضي عليه، وهو لا يفقه أيضاً، ولا يستطيع أحد إيقافه، ولا هو يتمكن من إيقاف نفسه عن الجري منذ انبلاج الشمس إلى لحظة اختفائها، حيث ينط من مكمنه، ويسعى هكذا، وحين تميل الشمس إلى المغيب بهدوء، يسكن ويخلد إلى الراحة، يومه هكذا يجري، شديد البصمات على نفسه وجسده.‏

    مالت الشمس إلى المغيب، وهو قد ابتدأ بالعد التنازلي، وحين خفت تماماً بدأ الظلام يزحف. توقف تماماً عن الحركة دون أن يشعر عند أول نقطة وصلها. ترك العمودين الطويلين يرقدان على الأرض بهدوء، كما لو أنه يفك وثاق ولجام الحصان. خرج كعادته، من بين توازن العمودين، قاصداً أول جدار، وكالعادة اتكأ عليه. شاعراً بالدبيب يسري في جسده، والتعب ينهض فجأة ليحاصره بالأنين، لعن في نفسه اللحظة التي توقف فيها عن الجري، فبان الإعياء عليه.‏

    وبسرعة، دون أن يشعر، كما في كل مرة، حدّق بالعربة المائلة، لاحظ ثمة تابوت يرقد على سطحها، نهض من فوره بمعدة فارغة، خاوية، رفع الغطاء ثم صعد إلى سطح العربة يتمدد داخل التابوت، رفع الغطاء بصعوبة، وهو نائم هكذا، يقربه قليلاً قليلاً من الأعلى، بيدين مرتعشتين تنط عظامهما إذ يستقر الغطاء على التابوت. ينعزل الرجل المسن تماماً عن العالم. يحس أنه في عزلة فائقة لا أصوات تأتيه، يرقد ويستسلم إلى نوم هادئ، أو تنتابه الهواجس، والكوابيس وجيوش الألم تدب في جسده، لكنه على أية حال، ينقاد من طلوع الشمس يرفع الغطاء عنه محتلاً الفسحة التي تتوسط بين العمودين المتوازيين واضعاً ساعديه على العمودين، يخفضهما إلى الأسفل، فترتفع العربة إلى الأعلى بموازاة جسده، ثم يبدأ دورته اليومية، يجري ويركض بين الأزقة الضيقة، والشوارع والطرقات. لا يلوي على شيء يعرفه. عربته تفرّغ، فيخف عنده السحب نحو الأمام فترتخي عضلاته، وتمتلئ بالتوابيت فيشعر بثقل الأجساد الساكنة فيزداد لهاثه وتوتر أعصابه، وتنط عظامه ، هكذا يجري شاعراً بخفتها مرة وثقلها أخرى... تحت شمس ساطعة ومليئة بالدخان.. ورائحة احتراق الأجساد...!‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الحصان جاسم عاصي

    تعليقات الزوار ()