بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:17:31 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1125 0


    جدار المدينة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جاسم عاصي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    هل أدخل المدينة...؟!

    هذا السؤال في رأسي، وأنا أشارف حافاتها وبساتينها ومداخلها الأولى، ثم كررت السؤال: فيما إذا دخلتُ، فمن أين أبدأ خطوتي..؟! وكثرت الأسئلة، ما إن ينتهي أحدها ويضمحل، كالفقاعة، حتى ينبجس آخر، وآخر ، تاركاً إثر ذلك صوراً مضطربة للمدينة من الداخل، فأنا متوجس من دخولها، ولا أدري هل هي حالة من الحنين..؟! أوهي نتيجة الابتعاد عنها كل تلك السنين؟! أو سماعي لأخبارها التي رواها الرواة..؟! ولربما أخاف من نظرات الأصدقاء والمعارف، حيث تحتشد أسئلتهم باتجاهي معاتبة.. ماذا؟! وكيف..؟! ولِمَ هذا العقوق؟! وكثير من هذا القول، والحديث الذي يعرّضني إلى الحرج، ومن ثم الحزن والهرب خارج المدينة، ملبياً إلحاح ضعفي وخوفي وترددي، سادّاً باب محبتي، وحين أقول لهم: والله شاهد على ذلك: إني لم أتركها إلاّ لأسباب ذاتية، وإني محب لكل نقطة فيها. فلربما لا يصدقون ذلك، ويرمونني بنظرات أعرف معناها ومغزاها، حيث تصب حمماً تتوقد في داخلي، وتحيط جسدي كالسوار المتقد، تكويه، فتتشظى أجزاؤه إلى قطع مرمية في الزوايا والفضاء مستذكراً قول صديقي/ ما الذي رمانا هكذا في هذه المدينة..؟! أحدق في وجهه الذي يبوح بالتعب والأسئلة، فأجيب: لا أدري والله. ويسأل: هل هي صدفة أن نلتقي في مدينة المفترق هذه؟! فأدركه: ربما هي صدفة، ولكن هذا لا يهم، فنحن غربيان.....‏

    حيث يردد معي، بابتسامة مؤلمة، وكل غريب للغريب قريب...!!‏

    وهذا ما قرأته في بعض قصائده، مؤكداً لنفسي؛ أن هذا الرجل له مشاعر تشبه ما أنا عليه من حال:، مقرراً الدخول إلى المدينة سيراً على الأقدام. فحين ذكرت لصاحبي ذلك، أخذ يبتسم، وينظر نحوي قائلاً: هل أصدق ذلك، ماذا تقصد؟!../ هذا التشابه/ بأي شيء يارجل أنت شوقتني لأشياء غامضة/ الدخول/ لمن؟!/. للمدن./ لكل المدن.؟! كلا بل للمدينة الأم، كيف تتفق رغبتك مع رغبتي في الدخول إليها..؟!/ أنت أيضاً تدخلها سيراً على الأقدام..؟/ وأبدأ من أول نقطة منها.‏

    ثم واصلت السير متذكراً ذلك. كانت النقطة التي أضع فوقها قدمي، تشرع من الجسر الحديدي العتيد، حيث ثبت في خارطة رأسي مثل هذا متذكراً قولهم، إن الجسر لا يستطيع مد جسده وعموده الفقري. لكي يقلّني كالمارد إلى الضفة الأخرى، فقد تعرض لقصف مميت أثناء الحرب. ولم أصدق، إذ ابتدأت من نقطة تصاعده فبدت مهشمة، وقد تشظت أجزاؤه، وتبعثرت، لذا انحنيت إلى الجانب منه، حتى شارفت على ماتبقى منه، مفتقداً السياج الذي حفرت عليه اسمي وتأريخ ما على ناصيته، كان أشبه بأنف طويل خرافي انبثق من الماء واتجه نحو السماء، أما بقية الأجزاء، فقد تلاشت تماماً. وإلى جانبه جسر عائم يشبه خيطاً نسيجياً. يتمايل بين حين وآخر، كتمت حزني. ولم ترق لي مشاهدته على هذه الصورة، وهذا ما يعرفه، كل من بقي صبياً في المدينة، ومايربطه بهذا الجسر، والظروف التي شُيد فيها، لقد كان كرنفالاً يومياً، دام سنين ، ونحن نزوره يومياً يقفل أصحاب الدكاكين محلاتهم، ويكونون في مواقع العمل كالسيّاح. نتطلع إلى تلك المكائن والرافعات العملاقة التي تشبه حيوانات خرافية، إلى تلك المطرقة التي كانت تدك رأس المدينة، وهي تضرب على مسمار عملاق، يتوغل إلى باطن الأرض، مخترقاً أعماق المياه وصخوره، وكم كان بودي لو كان صاحبي معي، لكي يقف ويرى ويسجل في ذاكرته، وكيف لي أن أزجه معي في هذه الصور المبعثرة، والمؤلمة في المدينة، التي كانت ترقد بسلام أمام حضرة نهرها الهادئ، يستقبل الفرح وجريان المياه، يستقبلنا صبية وشباباً وشيوخاً. واشتدت حاجتي أكثر لصاحبي، وأنا أقف أمام الساحة الواسعة ذات الحوض الواسع الذي انتصبت وسطه حديقة كبيرة يتوسطها تمثال هيئته ضخمة. كانت الساحة تستقبل بشكل منتظم السيارات. وهي تتوزع على شوارعها الأربعة، وثمة أرصفة انزرعت عليها المقاعد الاسمنتية، كانت على جانب من الازدحام والتلوث، مارّة كثيرون، وشارع ينبض بالحركة لم أشهد حركته هكذا سابقاً، بينما انتصب جدار عريض ومرتفع، حيث افترشته الإعلانات المختلفة، وتراكمت عليه اللافتات السود، ولشد ما استغربت وزاد حزني، وأنا أقرأ الأسماء المكتوبة على تلك اللافتات، والتواريخ البعيدة، والقريبة، التي ثبتت عليها، هل يعقل أن كل هؤلاء، رحلوا ؟! ومن تبقى منكم أيها الأصدقاء..؟! فلان بن فلان.. تقام الفاتحة على روحه الطاهرة في.. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. تقام الفاتحة.. وقل اعملوا فسيرى الله... على روح الفقيد فلان بن فلان.. الشهيد فلان بن فلان.. والفقيد فلان بن فلان.. إثر حادث مؤسف... تراكم شديد وألوان حالكة السواد، لكنها تحتفظ كالذاكرة بهذه الأسماء.. أصدقاء ومعارف وأبناء مدينة ووجوهها، جميعهم شهدوا أسماء دون وجوه من خلال جدار المدينة هذا، والذي بدا لي منتصباً عريضاً، كما لو أنه شُيد لهذا الغرض، إنه لا يشبه جدار السنوات الخوالي، بل اتسع كالذاكرة ليحتوي هذه اللافتات والأسماء والتواريخ والأماكن،إنه ذاكرة الموت. رحت أتصفح زواياه، وأدرج في ذاكرتي أسماءهم وتواريخ وفاتهم واستشهادهم، وأنا بعيد عنهم.! وكم تمنيت أن يكون صاحبي معي الآن ليرى ما أنا أراه ويدرك الإحساس الذي أعيشه، وأن يرى المدينة، وهي قد اتخذت لها جداراً للوداع لأبنائها تعزيهم من خلاله، وسأوصيه برغبتي في أن تكون لافتتي مع هذا الحشد من الأسماء، وأن يكون وداعي هكذا من خلال هذا الجدار الأصيل، لا أن أرمى نفاية في المدن الغريبة، لا لافتة ولا شعار، لا أسماء ولا جدار ولا إلفة، حشد من الأصدقاء يحتضن بعضنا الآخر، ويقبل البعض، نسير مودعين بعضنا والمدينة، ونلتقي هكذا، لنودع من بقوا في المدينة المائية هذه.‏

    ربما يوافقني أو لا يتفق على ذلك، إذ يعتصر كفي مواسياً ومدارياً، أو ربما تدمع عيناه على مالا يمكن أن يتم. غيرأني أؤكد أنها وصية صديق. وهي رغبة ليس إلاّ. ولم أستطع مفارقة الجدار، إلاّ بعد أن شعرت بكتفي يمسك، ويد تعتصره، وذراعين تحتضناني فارتميت على كتفه، مختنقاً بالبكاء الذي تدفق بقوة كالصنبور، وأطلق لساني هذياناً. أبعدني عنه وهو يسأل:‏

    - مابك كيف أراك هكذا في لحظة لقائي هذا بعد سنين طويلة...؟!‏

    - أدرت رأسي نحو الجدار، حدّق صوبه أيضاً قائلاً:‏

    - إنها حالة اعتيادية كما تراها ، ونحن نطالعه كل يوم.‏

    - وأنا هل أجده كذلك. لقد اندفع مشهده أمامي فجأة..!!‏

    - ماذا نكون دون هذا الجدار ياصديقي..؟!‏

    - لاشيء، إنه ألبوم كبير.‏

    - هذا صحيح.‏

    - هل رحل كل هؤلاء حقاً..؟!!‏

    - كما ترى.‏

    - ومن بقي بعدهم؟!‏

    - الكثير يا أخي، لكنهم مبعثرون.‏

    - كيف..؟!‏

    - اللافتات تحفظ تحتها تراكمات لا نستطيع عدّها.‏

    أمسك بكفي ثم سحبني قائلاً:‏

    - لا عليك.. لا تقلق..‏

    وأنا أحس بأني مرغم على مفارقة الجدار، وكان بودي أن أُقلب اللافتات وطياتها، وقراءة الأسماء، لأعرف من بقي لي من الأصدقاء. ومن يكون بعدهم.. وأن أقول رغبتي في أن أجد لافتتي معلقة مع حشدهم هذا على الجدار، حيث أستقر على طابوقاته بين الحشد من الأصدقاء والأحبة والمعارف. كان انقيادي معه بطيئاً، وقد أرخى يده، تاركاً حركتي على بطئها، فاستجبت له مدارياً مشاعره الطيبة، وحين سرنا مسافة ليست طويلة التفت خلالها إلى الجدار، إذ لاحظت مجموعة من الشباب، وهم يحملون سلّماً خشبياً، كانوا على عجالة من أمرهم، وضع أحدهم السلّم على الجدار، فيما ارتقى الآخر، وهو يحمل قطعة قماش سوداء. فضّها، ثم ثبت أحد أطرافها من الأعلى والأسفل. نقل السلّم إلى الجهة الأخرى، وأخذ يسحب القطعة، حيث ظهرت لافتة كبيرة سوداء، كتب عليها بالطلاء الأبيض تركت كفه، وعدت إلى الجدار، وهو يسألني ملاحقاً:‏

    - إلى أين...؟!‏

    - لأرى من يكون هذه المرة..؟!‏

    اقتربت، فيما الشاب أخذ يضبط تواتران اللافتة وتثبيتها على الجدار، شعرت بضربات قلبي تزداد، وبفرح يطغى على روحي. تجمع الشباب أمام اللافتة ناظرين بإمعان. طأطأوا رؤوسهم، وأخذ كل منهم يمسح عينيه بباطن كفه، ثم غادروا المكان، وأنا أتلو ماكتب على اللافتة، حتى أدركني صاحبي وأمسك بيدي متسائلاً:‏

    - دع عنك هذا يا أخي.؟!‏

    - ألا تقرأ مامكتوب عليها..؟!‏

    - إقرأ. إنها حالة يومية.‏

    - بل إقرأ جيداً..؟‏

    ولم أقل له شيئاً، بل كتمت ما قرأته، ولم أستطع القول: ألا تلاحظ أن اسمي واسم أبي مثبت على اللافتة السوداء.. حدّق بوجهي، ولا أدري ما الذي اكتشفه فيه، ثم سرت معه ببطء شديد، كأني أخرج تواً من رحم اللافتة، حاملاً كل صور الجدار وتواريخها.. جدار المدينة العتيد

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()