نحن الأغنام العربية الموقّعة بحوافرها أدناه، بعد التوكلِ على ألطافِ الله سبحانه وتعالى، وكتابة وصيتنا، والتأمين على رؤوسنا ضدّ القطع لدى شركة أميركان لايف انشورنس .. قررنا أن نكتب في شؤوننا (الغَنَميَّة) إلى سيدنا السلطان .. وزوجته قَمرَ الزمان ..
نرجو قبل كل شيء أن تسامحونا على رداءة خطنا .. وضعفنا في قواعد اللغة العربية …
فنحن ـ كما سبق أن قلنا في أول هذا الاستدعاء ـ نكتب بحوافرنا .. لأنكم صادرتم كل دفاتر الكتابة، وكل أقلام الحبر السائل والناشف الموجودة في السوق، واعتبرتموها من المواد الكمالية .. كالعطور .. والمشدّات .. ورافعات النهود ..
ثم نرجو أن تغفروا لنا ضعفنا في الصرف والنحو والإملاء لثلاثة أسباب:
ـ أولاً: لأن غلاء الأقساط المدرسية لا يسمح لنا بالذهاب إلى المدرسة لاستكمال تعليمنا.
ـ ثانياً: (وهو السبب الأهم) لأن الفصاحة ليست مطلوبة في الوقت الحاضر، لأن كلّ فصيح هو عميل حتى تثبت براءته.
وهكذا بقينا في مرحلة الثغاء …
لأن أمهاتنا تضرّعن إلى الله، ليلة القدر، كي يبقينا في مرحلة أكل الشعير .. ويحمينا من شر الكتابة والقراءة والتفكير .. إنه على كل شيء قدير ..
وقد استجاب الله لدعوات أمِّنا ((الغنمة)) .. فأبقانا مواطنين صالحين ننام مع الدجاج في الساعة الخامسة بعد الظهر، ونتناسل دون تحفظ على الطريقة المصرية .. لأننا لا نملك ثمن حبوب منع الحمل …
كانت أمهاتنا سعيدات بنا .. لأننا لا ندخّن .. ولا نتعاطى الكحول .. ولا نتعاطى الجرائد والكتب .. ولا ننظم الشعر .. ولا نجلس في المقهى .. ولا نعاشر أولاد الحرام ..
وكانت العائلة مسرورة بحسن سيرتنا وسلوكنا، لأننا لم نكن نفهم شيئاً في الشؤون الدولية، أو في تاريخ الثورات، أو في حرب العصابات .. ولم نكن نعرف ما هو الفرق النوعي بين الكونغرس وبين الكنيست .. وبين مناحيم بيغن وأدولف هتلر ..
صحيح أهم وضعوا لنا في الإسطبل تلفزيونات ملونة (بال وسيكام)، وصحيح أنهم سمحوا لنا بمشاهدة الرسوم المتحركة، ومسلسلات المرأة الالكترونية، والرجل العنكبوت، ومباريات محمد علي كلاي .. ونشرة الأحوال الجوية ..
وصحيح أهم سمحوا لنا بقراءة المجلات النسائية، وكتب التدبير المنزلي .. وكتب الأبراج والكلمات المتقاطعة ..
إلا أننا كنا نشعر ـ رغم كل هذا اللطف والدلال ـ بأننا نعاني من عقدة مستعصية اسمها الحرية.
لقد قرأنا عن (الحرية) في كتاب عَثَرَتْ عليه زميلة من زميلاتنا وهي ترعى في أحد الحقول، وبدلاً من أن تأكله .. حملته إلينا من المرعى، دون أن يراها صاحب القطيع .. وحرسه .. وكلابه ..
وقد تولت شرح وتفسير ما جاء في الكتاب غنمة (مثقفة) خالفت وصايا أمها .. وأكملت دراستها …
بعدما انتهت زميلتنا من قراءة الكتاب الممنوع .. بكينا كثيراً .. ولطمنا خدودنا كثيراً .. وأسفنا على شبابنا الضائع، وحظنا الأسود، واكتشفنا بعد أن شابت فروة جلودنا، أن ثمة حيوانات في الكونغو .. وفي كينيا .. وفي زائير .. تتمتع بقسط أعظم من الحرية، وتستطيع أن تزأر متى تشاء .. وتغضب متى تشاء .. وتدافع عن نفسها متى تشاء ..
واكتشفنا أيضاً ـ بعدما قرأنا الكتاب ـ أن الأغنام العربية التي تُسمّى مجازاً الجماهير العربية، محرومة من جميع الحقوق التي أعطتها منظمة الأمم المتحدة، وهيئة الصليب الأحمر الدولي، وجمعيات الرفق بالحيوان لبقية الأغنام في العالم، ولا سيما الأبقار السويسرية السعيدة الحظ التي تتناول طعامها على إيقاع الموسيقى الكلاسيكية .. وتتبختر في مراعيها الخضراء على رنين الأجراس النحاسية المعلقة في رقابها للزينة والغواية واحتفالاً بعيد ميلادها ..
أما الأغنام العربية، فممنوع عليها أن تحتفل بعيد ميلادها، أو بعيد المعلم .. أو بعيد الأم .. أو بعيد الشجرة ..
إن العيد الوحيد الذي يُسمح للأغنام العربية بالاحتفال به هو (عيد الأضحى) …
نحن الأغنام العربية التي تلعق الأسفلت .. وتُقَرقِشُ المسامير .. والحجارة .. وعلب المالبورو الفارغة ..
نحن الأغنام العربية التي أطفأوا عيونها حتى لا ترى .. وقَصُّوا قرونَها حتى لا تنطح .. وغسلوا أدمغتها حتى لا تفكر ..
نحن الأغنام العربية المسافرة من رعب إلى رعب .. والممنوعة من استعمال الهاتف .. والذهاب إلى مركز البريد .. وشراء تذكرة سفر بالبحر أو بالبر أو بالطائرة ..
نحن الأغنام العربية التي يُستعمل لحمها مشوياً في المآدب الرسمية، ويُستعمل جلدها مدبوغاً لصناعة الأحذية ..
نحن الأغنام المكسورة الخاطر التي علّموها منذ طفولتها أن (الصبر مفتاح الفَرَج) ومفتاح فلسطين .. ومفتاح الفردوس، ومفتاح الوحدة العربية العتيدة، تأكد لنا بعد أن شابت فروة رؤوسنا .. أن مفتاح الصبر لا يفتح شيئاً، وأن كل الحِكَم العربية المأثورة التي حفّظونا إياها عن ظهر قلب ونحن صغار، لم تكن سوى وَصفات طبية مهدئة .. لقتل طموح الأغنام، وإبقائها في مرحلة أكل البرسيم .. وقشر البطيخ …
نواصل الكتابة بحوافرنا ..
طبعاً نحن نشعر برهبة عظيمة ونحن نكتب هذا الخطاب إلى مولانا السلطان وزوجته قمر الزمان ..
ولا نكتمكم أننا تبولنا على أنفسنا أكثر من مرة من شدة الخوف .. قبل إرسال هذا الخطاب المصيري ..
إننا غير متعودين على رفع الصوت أمام حكامنا وأولياء نعمتنا .. فالكلام في حضرتهم وقاحة وقلة أدب ..
أنتم بالنسبة إلينا أشباح .. نسمع عنها ولا نراها ..
منذ عصور سحيقة لم نتكلم معكم .. ولم يحدد لنا مدير مراسمكم حتى الآن موعداً للتشرف بمقابلتكم .. ونرجو أن يتمكن أولادنا أو أحفادنا من بعدنا من مشاهدة طلعتكم البهيّة ..
نحن لا نتذكر أننا رأيناكم على شاشة التلفزيون إلا في المناسبات التاريخية الكبرى .. كعيد ميلادكم .. أو زواجكم .. أو خِتان أحد أولادكم .. أو خطبة إحدى كريماتكم ..
ثم كنا نراكم في العيد القومي مرة واحدة في السنة تستعرضون أرتال الدبابات، والمصفحات، وحاملات الصواريخ .. فنتساءل إذا كانت هذه الأسلحة الجهنمية سوف تستعمل للهجوم على إسرائيل .. أم للهجوم على الغنم ..
نحن لم نسمع في حياتنا أن دبابة تحولت إلى قطعة ديكور إلا عندنا .. ولم نسمع أن صاروخاً أصبح لوحة تزيينية في الصالونات وغرف النوم .. إلا في بلادنا السعيدة ..
فماذا تفيدنا المجنزرات ذات الأسنان الهائلة .. ما دامت في آخر الأمر لا تنهش إلا لحمنا .. ولا تمشي إلا على أجسادنا .. ؟
نحن الأغنام العربية المحكوم عليها أن تبقى أغناماً إلى يوم الدينونة .. والمطلوب منها أن لا تتذمر .. ولا تناقش .. ولا تعترض ..
نودُّ أن نشرح ـ بكل احترام ـ لملتزمي تقديم اللحوم إلى مولانا السلطان .. وزوجته قمر الزمان .. وأولادهما .. وأولاد أولادهما .. وقططهما .. وكلابهما .. ونسانيسهما .. وببغاواتهما ..
نود أن نشرح ـ بكل احترام ـ أن لحمنا ليس كافياً لهذه الوليمة الكبرى ..
ليس هذا من باب البخل أو التلكؤ في خدمة الوطن. نحن مع الوطن ما دام يعطينا حق الثغاء .. وحق استنشاق الهواء .. وليس مع الوطن الذي يسلخ جلدنا .. وينتف صوفنا لتنجيد فراش السلطان وزوجته قمر الزمان ..
إن الوطن ليس علاقة بين مالك ومملوك .. وبين ذابح ومذبوح .. وبين راكب ومركوب ..
لكنه علاقة أغصان الشجرة بالشجرة، وبؤبؤ العين بالعين، وموسيقى القصيدة بالقصيدة ..
نحن الأغنام العربية الموقعة بدموعها أدناه …
لقد سمعنا كثيراً عن مبادئ الثورة الفرنسية، وثورة أكتوبر البولشفية، وثورة 23 يوليو .. وثورة الزنج .. وثورة القرامطة ..
ولكن يوم القيامة بعيد .. وأنهار اللبن والعسل لا تزال قصدية رومانسية جميلة .. والقصور التي وُعدنا بها، أخذها الأغنياء وسجلوها بأسمائهم في الدوائر العقارية ..
لقد حلمنا طويلاً بالورد والريحان، وأشجار اللوز والرمّان، والحُور المقصورات في الجنان ..
لكن حلمنا انكسر .. وبقيت علاقتنا التاريخية مع البرسيم والزؤان .. وبقينا نقدم الحليب والجبن والقشطة والنقانق، ليفطر عليها أولاد سيدنا السلطان كل صباح قبل أن يأخذهم ((الأوتوكار)) إلى المدرسة …
نحن الأغنام العربية الموقعة بعظامها وقرونها المقصوصة .. أدناه.
بعد الإتكال على ما جاء في كتاب (الأغاني) .. عن النخوة والشهامة والعفو عند المقدرة ..
وبعد الاعتماد على رحمة الله، وشرعة حقوق الانسان، ومؤتمرات عدم الانحياز، ومقررات باندونغ وهافانا .. وقوانين الرفق بالحيوان ..
قررنا أن نضرب الطينة بحائط السلطان ..
فإما أن تلصق الطينة، وإما أن يفر منا السلطان بآلة ((المولينكس)) .. وبالمناسبة فإن آلة ((المولينكس)) ليست اختراعاً فرنسياً كما تتصورون .. ولكنها آلة عربية اليد والوجه واللسان ..
وهي متوفرة على تيار 110 و 220 فولت في كل السجون والمعتقلات العربية.
وإلى أن نلتقي في العالم الآخر، في كنف الغفور الرحيم .. نوصيكم بأولادنا خيراً …
تشرين الثاني (نوفمبر) 1982