أخرج إلى الحديقة. تلتصق بي قطتي البيضاء. تموء بلطف. أطعمها. أرتدي ملابسي. أخرج. ترافقني إلى الفرع الثالث ثم تعود. أكمل الطريق وحدي. أصل الشارع العام. أسرع إلى منطقة الباص. أقف منتظرة تحيط بي وجوه مألوفة لامبالية. تقترب مني امرأة تسألني "هل مر الباص؟".
تطمئن عندما أومئ لها مثل كل مرة بكلا. تجلس لاهثة على المصطبة. أستغرب أنني لم أر هذه المرأة إلا وكانت منتفخة البطن!.
يصل الأصدقاء الصغار الثلاثة يناقشون دروسهم بصوت عال. يصل الرجل الهرم.. تخفت أصوات الصغار. يجلس في مكانه يتأمل الجميع -من دون أن يبدو أنه يلمحهم حتى- بوجه شاحب ونظرات تحمل تهكماً غريباً تضفي عليه هالة من الغموض والشرود الدائمين. يجلس في مكان لايجرؤ أحد على الجلوس فيه إذا ماغاب أو تأخر.
تصل الأم التي تحمل صغيرها لتبدأ من بعيد صورة فتاة شاحبة تحث الخطى نحو منطقة الباص. تتوقف دقائق قليلة. تتأمل الجهة المعاكسة، بعدها تبدأ في الرواح والمجيء، يرافقها تعليق شاب نزق تتوقف مشاكساته حالما يصل شاب أسمر حالم النظرات يقطع على الفتاة رواحها ومجيئها وتحديقها في الساعة، فترافقه صامتة ويتركان المكان سيراً على الأقدام من دون أن يلتفتا.
يأتي الباص. يتدافع الجميع عند باب الصعود. يقول السائق المرح جملته اليومية "هناك أمكنة فارغة تكفي الجميع" ثم يواصل أغنية عراقية قديمة حزينة يغنيها بمرح.
أجلس في مكاني المعتاد قرب النافذة. أمسح البخار المتكون على النافذة بأصابعي على شكل دوائر يزداد عددها يوماً بعد آخر... تصغر... تتداخل مع قطرات الندى على وجه النافذة الآخر... أنظر من خلالها إلى الخارج بعينين خاويتين... باللامبالاة نفسها التي عهدتها في نفسي.. غير أن الفارق البسيط الذي أتعلق به.. أراهن عليه هو تعمق هذا الشعور مع كل صباح جديد وبقايا ذكرى غائمة لرغبة كانت عارمة يوماً ما.. رغبة في ملامسة شيء جديد استحالت انتظاراً، تراجع كل شيء، إثره ولم يتبق منه سوى ذكرى بعيدة أحملها معي في الصباحات فقط.
لم أودعه. أعرف أن الأمر كان قاسياً عليه مثل قسوته عليّ. لم أرغب في أن يكون وجهي آخر شيء تقع عليه نظراته وهو يغادر. كنت أخشى إحساسي بأنني لن أرى الشخص الذي عرفت بعد تلك اللحظة وأنه لن يكون نفسه عندما يعود. وكان يعي ذلك تماماً.
تصورت عينيه وهما تبحثان عني بين الجموع. شعرت بهما وأنا في بيتي على مسافة كيلو مترات. أحسست به.. بلهفته لرؤيتي.. بلهفته لكي لايراني.. بنظراته وهي تبحث عني متمنية أن لا تجدني، تماماً مثلما أنا واثقة بما يشعر به وأنا أنتظر هاتفه الصباحي. كان يعرف أني أنتظره ولا أرغب بشيء آخر سوى انتظاره.. الجلوس ساعات طويلة.. التحديق إلى الهاتف. كان يدرك جيداً أني بدأت لا أحسن شيئاً سوى انتظاره (وهل يصبح الانتظار تعويضاً عن غياب الأمل؟).
ذهب ولم يعد. لم يكن غيابه سهلاً. كان يحتاج من القوة والشجاعة مالا تحتمله امرأة مثلي اعتادت أن تعيش حياة ممتلئة. كانت تلك الحياة قوتي وضعفي وكنت أخشى كليهما. الورقة الوحيدة التي أمتلكها لمجابهة حياة يرى أصحابها في امرأة تعيش مستسلمة لحياة باردة... وحيدة... فارغة، لابد أن تتمرد عليها يوماً ما. لذا كان عليّ أن أخوض معركة التمسك بالانتظار لحمايتي من السقوط في مستنقع الانسجام مع الخارج والتسلح بسلاحه: الخطيئة.
كل صباح اللعبة نفسها والوجوه نفسها والصمت نفسه كنا متفقين على الأدوار. نراقب بعضنا بعضاً خفية بدون تخطيط مسبق.. من دون كلمات... من دون أن يزعج أحدنا الآخر.
لم أشترك يوماً في ألفتهم.. عالمهم الذي تشكل على مهل. كنت أحبهم وكانوا غير معترضين. كنت خارج اللعبة وداخلها محصنة بذلك الانتظار: انتظاره الذي شكل عالمي وجعل من الصمت سوراً له حتى وجدت حضورها الغائب يقتحم عالمي.
بدأت أراها تصل منطقة الباص بخطوات وئيدة. تتوقف دقائق قليلة. تتأمل الجهة المعاكسة بعدها تبدأ تروح وتجيء. تنظر إلى ساعتها وتترك المكان سيراً على الأقدام من دون أن تلتفت.
وحيدة أنتظر، يوماً وآخر ولم يأت أحد: المرأة الحامل.. الصبيان الثلاثة.. الفتاة الشابة.... الشاب النزق.. الأم.. طفلها.. لم يأت أحد.
وحيدة كنت.
لقد حضرت الحرب.
لا أحد غيرنا: الرجل الهرم والجنود والطيور المرتعدة وانتظاري كانت الطيور تلتجئ عند سقيفة منطقة الباص قبل أن تنطلق صافرة الإنذار.. تتخبط في السماء.. تضرب السقيفة بأجنحتها قبل بدء الغارات.. الطيور التي أصبحت سوداء اللون من الدخان المتصاعد والغيوم السوداء والانفجارات. وحلت صافرة الإنذار محل ضحكة الطفل ولهاث المرأة الحامل وهمسات الطفل ومشاكسات الفتى النزق وإيقاع رواح ومجيء الفتاة وصمت الرجل الهرم الذي انتظرت أن يتكلم بقلق غامض مصحوباً بخشية من أن يكسر ذلك الحديث المنساب من جلال صمت ألفته.
في الحرب لامواعيد دقيقة للباص.. يأتي مثل الموت بلا موعد وتخبط الطيور إشارة متأخرة لوصوله.
يصل الباص الذي تغير ركابه وسائقه. أحشر نفسي بين الأجساد مفتقدة مكاني عند الشباك والوجوه التي أعرف. أتذكر كلمات بطل الساعة الخامسة والعشرين وهو يفكر بلوحات بيكاسو وكيف أنه بدأ يفهمها في شاحنات الاعتقال. أردد أني بدأت أفهمها أنا الأخرى.
بين صافرة إنذار وأخرى تمتد مساحة طويلة من انتظار وجوه أحببتها وها أنا الآن أفتقدها. أبحث عنها في وجوه الجنود. تخيلت قصصاً عنها وقرابات يمكن أن تربطها بهذه الوجوه: صاحب هذا الوجه، مثلاً، يمكن أن يكون أباً لذلك الطالب.. هذا الرجل الرصين يمكن أن يكون زوجاً لتلك المرأة الحامل.. و ... و... بدأ الأمر لعبة آنية وأصبح حقيقة.
كنت أنتظر حضور الجنود مثلما كنت أفعل من قبل. وكان انتظاري بديلاً مسكناً لغيابه. (هل يمكن أن يكون في الكون رجل آخر أجد صورتي فيه مثلما كان الأمر معه!) مع هذا كنت أشعر بغربة وأنا أفتقد تلك الفتاة... انتظارها. حاولت أكثر من مرة أن أستحضر رجلها.. أستحضرها بوجه من وجوه الجنود. بحثت في الوجوه عن شاب نحيل أسمر حالم النظرات لكني لم أفلح.
من أين لي أن أجد وجهاً حالماً بين هذه الوجوه. الوجوه متعبة، زائغة النظرات لكنها ليست حالمة بالتأكيد.
الحرب والأحلام كيف يمكن أن يلتقيا؟
جربت أن أبث معالم وجهه ووجهها في وجوه الجنود الذين كانوا يسيرون في كل الاتجاهات راجلين أو متشبثين بحواف عربات عسكرية يقودها جنود يحدقون في الطرق بعيون مفتوحة هرباً من النعاس. عيون غائرة بلا بريق لا تنتظر سوى الموت.
حملت انتظاري.. انتظارها كفرس جريح أخشى موته. جلت به بين المحطات المكتظة بالجنود. سرت معه برفقة شاب كان يحمل راية خضراء. تابعته وهو يقرع الأبواب الخرساء، داعياً الناس لمرافقته إلى الفردوس.
عند جسر الأحرار افترقنا. واصل تجواله حاملاً رايته الخضراء وواصلت تجوالي حاملة نعش موتنا المتبادل وصورة سماء شهدنا سقوطها منذ زمن بعيد.
تذكرت كلماته في هذا المكان وهو يتحدث عن التضامن مع الآخر. ترى هل كان خلاصي بجسر هجرته النوارس بعد أن أرعبتها أصوات القصف والبيوت المهجورة عند ضفة نهر أمس غريني المياه... أسود اللون حتى في الصباح؟.
كنت أجول عبر ذلك الامتداد الذي لاينتهي من ساعات الصمت الصاخبة بالموت والضياع حتى أدركت أن الهروب إلى الداخل.. إلى انتظاره أبعدني عن الخطيئة لكنه لم يكن خلاصي الأبدي.
حملت عذابي بعد أن فاضت به الروح ونبذته بكل الوسائل بالتجاهل مرة واللامبالاة الكاذبة أخرى. حملته لكني- أيضاً- لم أجد مكاناً أتركه فيه وأرحل. إذا لا متسع للعذاب بحضور الموت الموقوف على لعبة الاحتمالات ولا لون لسماء مثقلة بالدمار والدخان والموت (المتحضر) ولا مكان لطيور في سماء كابية ولا غيوم بيض أودعها أشواقي إليه.
فالطيور تنتظم على الجدران سوداء ذليلة وقطتي البيضاء ماتت رعباً والشوارع تكتظ بالجنود الذين لايعرفون كيف تجمعوا ومن أين أتوا.
كانت العربات تنقلهم إلى الجنوب في شتاء قصير النهارات طويل الليالي أتى متأخراً بينما أبت الأمطار الهطول وكأنها تنتظر توقف هطول المطر وعندما يئست من الانتظار هطلت سوداء مشبعة بالموت هي الأخرى!.
الليالي طويلة تزحف ببطء.. يتسابق الموت معها. يهزمها الموت الذي لم يكن ليرعبنا بسرعته. كان يأتي متخفياً تحت جنح الظلام ثم ينتهي كل شيء بسرعة قدومه قبل أن يدرك ماكان يخيف هو انبلاج الفجر والسير في الشوارع.. الاستماع إلى أخبار الناس الذين رحلوا بلا ألم... رحلوا غير مبالين بالذين سيسمعون عنهم في الصباح. رحلوا وتركونا ننتظر عنا وعنهم. لم يعد انتظاري.. حزني وصورة فتاة منتظرة هو ما أحمله معي فقط. حملت انتظار الذين رحلوا: الطيور، النهر.. وجوه من قاع المدينة تدور بحثاً عن الطعام.. جسر الشهداء بعزلته وفوانيسه الملبدة بالسخام.. نشيج امرأة وجدتها تبكي ذكرياتها عند جسر الجمهورية.. أناس رحلوا من دون أن يتركوا ما يدل عليهم.
مدينة تعج بالحزن كنت أحملها معي.. أحمل حزنها وأصبه في إيقاع متراخ لأغنية قديمة كنت أغنيها بوهن وأنا أسير تحت سماء مشبعة بالغيوم السود والروائح الثقيلة المنبعثة من دماء جنود منسيين. كنت أستنشق تلك الرائحة مع كل نغمة شجن تصاحب تلك الأغنية: أغنية عراقية حزينة بدأت ذكرى ترافقني وأصبحت خلاصاً.
في البداية ظننت أنها خلاصي الفردي غير أني وبعد فترة اكتشفت خطأي. رأيتها في هيئة الرجل والهرم الذي بدا لي في أول يوم رأيته فيه من ذلك النوع الذي يبتعد عن الدخول في مخاطرة أو مجازفة مالكي يتجنب أي خطأ ممكن الحدوث. سمعت الأغنية بالرغم من إطباق شفتيه وكلما تعالى صوت الموت تعالى صوت الأغنية. يتعالى صوت الموت.. تخرج الأغنية.. تسير... تتغلغل إلى عيني زوج المرأة الحامل.. إلى سحنة أخ الشاب النزق.. إلى كل الأصدقاء الغرباء.
يتعالى صوت الموت.. تدور الأغنية بين العيون. تنتزع الدموع من آبارها.. تقتحم الحناجر.. تدور بينها بتضامن متفق عليه. صوت بدء صافرة الإنذار كان بداية الأغنية.
تنطلق من عيني الرجل الهرم.. تتلقفها حنجرتي ثم حنجرة الرجل الرصين.. الشاب النزق. انتهاؤها كان نقطة تشترك عندها جميع الحناجر.. وصوت نشاز لانتهاء صافرة إنذار يموت بينما تستمر الأغنية.
كنا عند منطقة الباص عندما توقفت آخر صافرة إنذار. لم نغن. لم نفعل شيئاً بينما أرخى الرجل الهرم ربطة عنقه واندفع باتجاه بركة مياه سوداء وأخذ يرقص بجد وكبرياء ملبداً بالحزن والقهقهات (المتصنعة). ترك مكانه فارغاً يحدق الجنود إليه برعب لم أره في أشد أيام القصف. انتظرته وكنت أدرك أنه بداية انتظار جديد.
غاب. لملمت الحرب رداءها الأسود الواسع. خفت صوت الأغنية أنيناً مكتوماً. كنت أعرف أني سأواصل الأغنية من أجل تسديد فاتورة نسياننا الأبدي وواصلت أغنيتي في ذلك اليوم الذي حضر فيه الجميع وغابوا!.
كانوا في كل مكان ولم يكونوا. اكتظت بهم الشوارع.. مناطق الباص.
رأيتهم وهم يرفعون الأشرطة اللاصقة من على النوافذ والأبواب.. وهم يزيلون الغبار.. شظايا الزجاج (من يلملم ماتشظى في داخلنا؟) يفتحون مكاتبهم.. محلاتهم.. أسواقهم.. يسيرون بسرعة وهم ينظرون إلى ساعاتهم.
***
استيقظت المدينة بخجلها المألوف واستيقظت قبلها. توقفت عند النافذة المطلة على الحديقة متأملة بيأس الأدغال والأعشاب وهي تكتسحها. خرجت. أسرعت إلى منطقة الباص. وقفت منتظرة تحيط بي وجوه مألوفة لامبالية. اقتربت مني امرأة سألتني "هل مرّ الباص؟" اطمأنت عندما أومأت لها بكلا.
ثلاثة أولاد لم يعودوا صغاراً أراهم يصلون والسجائر لاتفارق شفاههم وهم يناقشون أمراً بصوت عال -يخفت حالما رمقوا مكان الرجل الهرم الفارغ. تصل الأم بدون طفلها لكنّها تقف منحنية وكأنها تحمله. من بعيد تقترب صورة الفتاة المنتظرة متشحة بالسواد. تقف من دون أن تحدق إلى ساعتها أو تروح أو تجيء.
يرمقها الشاب النزق بخجل.
يصل الباص. يتدافع الجميع عند باب الباص. يقول السائق المرح الذي لم يعد شاباً هناك "أمكنة فارغة تكفي الجميع".
ويواصل أغنية مرحة يغنيها بحزن.
يصعد الجميع. تتخذ الفتاة المتشحة بالسواد مكاني عند النافذة. أقف عند الرصيف. أرى أناملها تمسح ضباباً أسود غطى النافذة. نظرت إليّ من خلاله. تبادلنا ابتسامة هادئة متفهمة امتزجت مع رماد الندى فأتت حنون معتقة. تحرك الباص. التفت إلى الوراء. يبتعد الباص. تتلاشى.
أعود بانتظاري وأجلس في مكان الرجل الهرم!.