بتـــــاريخ : 11/13/2008 7:07:57 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1024 2


    يومية مرعوب

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد بلقاسم خمار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

     

    أين ابنائي الآن..؟ وفي أي مكان يوجد كل واحد منهم...!. لقد تأخروا كثيراً عن موعد رجوعهم إلى/ الشاليه / ! لابد لي من شق أدغال الغابة للبحث عنهم.. إن غابات جبل/ الشريعة/(1). رغم روعتها- خطيرة وصعبة. إنها مليئة بالكلاب المتوحشة، والذئاب المسعورة، والخنازير البرية الشرسة .. إذن سأحمل معي سكين المطبخ.. وانطلق قبل أن يحين موعد الغروب..!‏

     

    وبعد ساعة من المشي الحثيث أصعد جبلاً، وانزل آخر، بين أشجار الصنوبر والأرز.. وجدت نفسي داخل منطقة منخفضة كثيفة الأعشاب والنباتات الشوكية المتعرجة، سامقة الأشجار الضخمة، تنحدر المياه بين جنباتها كشلالات صغيرة، وتملأ فضاءاتها الطيور، والغربان والبوم والعصافير، بمختلف الأصوات المتباينة.‏

     

    كان الوقت عصراً.. ولكن الظلال المتراكمة، جعلتني أتصور كأنني في قلب الليل، وكانت هواجس الخوف، تنتابني بين الفينة والأخرى.‏

     

    سمعت أنيناً رقيقاً متقطعاً ، كأنه آت من مكان بعيد، وأحسست بأن الأنين يصدر من قلبي، فلمست جانبي الأيسر بكفي، وتألمت.. تحول الأنين إلى صراخ حاد ، ينطلق من حنجرة امرأة يائسة تطلب النجدة.‏

     

    ركضت أماماً، ويميناً، وشمالاً.. صعدت اكمة ورأيت الفاجعة..‏

     

    .. كانت فتاة في مقتبل العمر..منفوشة الشعر، رائعة الجمال، شاردة الملامح، فاتنة القوام، ممزقة الثياب، بيضاء البشرة، حافية القدمين،..‏

     

    كانت تستند بظهرها على جذع شجرة عملاقة. وتلوح في حركات عشوئية بيديها وساقيها. وهي تصرخ، وحولها مجموعة من الذئاب المفترسة تهر مكشرة عن إنيابها، تتحفز لنهشها، وكانت إحدى ساقيها مخضّبة بالدماء...‏

     

    هجمت كالليث الغضوب على الذئاب، فمزقتها إرباً، إرباً.. كنت أحسها بين قبضتي كالخراف الواهية.. اتلقفها بسرعة سحرية واضرب بها الأرض، وجذوع الأشجار، فتتحطم رؤوسها وأضلاعها فتعض ألسنتها الطويلة وتفارق الحياة، وتظل عيونها البشعة مفتوحة، كنت اعجب من نفسي كيف جاءتني كل تلك القوة الخارقة!؟‏

     

    أسندت ذراع الفتاة على كتفي، وأجلستها تحت جذع شجرة بعيدة عن مكان المعركة..‏

     

    -قالت لي: لقد أنقذت حياتي أيها البطل، وإنني منذ الآن أمة لك، وطوع إرادتك. وحياتي ملك يديك..‏

     

    -قلت لها.. لايهمك الأمر .. لنعالج ساقك قبل كل شىء.‏

     

    -قالت: إنها مجرد خدوش سطحية بسيطة.. وبصقت في كفها ومررتها فوق ساقها، ثم حسرت ثوبها، ومسحتها به فلمحت استدارة فخذها، كفلق من نور ناعم، وتحركت داخلي نوازع رغبة جامحة في احتضانها. وتقبيلها..! تذكرت زوجتي.. ثم أبنائي، فسألتها : ألم تشاهدي مجموعة من الشباب في هذه الناحية من الغابة..؟ وعاودني القلق عليهم.. قالت: لا.. وإذا بصوت كالرعد يزمجر خلفي: ابتعد.. عنها أيها الوغد..!‏

     

    وقفت مجفلاٍ.. والتفت خلفي ، وإذا بي أرى رجالاً ثلاثة، ملثمين، كأنهم أموات أحياء.. يرتدون أكفاناً ناصعة البياض، وبيد كل واحد منهم خنجر يعلوه الصدأ.. قلت لهم كاذباً، وأنا أرتعد من الرعب: إنها زوجتي.. وأنتم ما دخلكم..؟‏

     

    -قالت هي، في شبه توسل: نعم.. إنه زوجي.. فاتركونا بسلام من فضلكم ..!‏

     

    -قهقه احدهم، وقال : يالكما من فاسقين.. إننا نعرفكما جيداً وسترون عقوبة فعلتكما الشنعاء..‏

     

    -أقسم بالله أننا لم نفعل منكراً..قلت.. قال آخر: أخرس.‏

     

    اقترب أحدهم من الفتاة، فطوقها بذراعيه حتى لاتهرب، كما بدا لي.. بينما قام إثنان بتقييدي من يدي ورجلي وربطاني إلى جذع شجرة.‏

     

    كانت الفتاة تقاوم بشجاعة، وتدافع للتخلص من قبضتي الرجل، وكانت تحتج وتصرخ بأعلى صوتها..‏

     

    وكنت في أشد حالات الرعب والغضب والهيجان، وقد استطعت أن أسدد أكثر من رفسة لهما، إلا أنهما كانا أقوى مني، فتمكنا من شد وثاقي..‏

     

    شعرت بأن صراخ الفتاة، تحول إلى أنين متحشرج مكتوم.. فرميت بنظرة شاردة نحوها.. وإذ بي أرى ذلك النذل الذي كان يطوقها بذراعيه.. يقوم بأغتصابها ويبدو أن المسكينة كانت غائبة عن الوعي. حيث كانت ساكنة كالأموات، لاتظهر عليها أية حركة.‏

     

    دب الوهن في أطرافي، ثم أحسست بموجة من اللهب تجتاح كياني..‏

     

    صرخت..: دعها أيها الكلب.. ضحك الأثنان مني بأستهزاء.. حاولت تمزيق القيود، بلعت ريقي بصعوبة، لم أتحمل مواصلة النظر إلى ذلك المنظر المقزز.. البشع.. أدرت راسي، وأغمضت عينيّ..تخيلت أنني في حلم مزعج ..سمعت أحدهم يقول للآخر هيا..لقد جاء دورك الآن.. وبعد برهة، جاءت الدعوة للثالث ليقوم بنفس الفعلة الشنعاء. فتحت عيني فرأيته يرتمي فوقها كالوحش.. كانت الفتاة تبدو وكأنها ميتة.. اكتسحني تيار عنيف من الهيستيريا.. تشنجت، صرخت: أيها المجرمون.. الأنذال.. أتركوها، لقد فقدت الحياة.. حرام.. حرام.. ! وأغمضت عيني، وأنا أرتعد..‏

     

    عاودني الإحساس بأنني أعيش حلماً مرعباً.. لم أصدق أنني مستيقظ.. تذكرت شقيقتي.. لقد كانت مريضة تشكو من آلام الروماتيزم يوم تركتها في زيارتي الأخيرة لها .. ثم تذكرت زوجتي.. توهمت أن هذه الضحية المغتصبة هي زوجتي نفسها، احسست بشواظ من نار ، يندفع من عمق امعائي إلى حنجرتي.. وكان كل شىء حولي ظلام في ظلام..!‏

     

    ربما أصابتني إغفاءة كالأغماء..فانتبهت أنني أسمع شخيراً قوياً متواصلاً، وضربات أقدام تحفر الأرض..!‏

     

    حملقت بعيني في اتجاه الفتاة الضحية.. ويالهول ما رأيت..!؟‏

     

    كانت على بعد خطوات مني ، تتخبط داخل بركة من الدماء الفائرة، وهي بلا رأس.. وكان إلى جانبها احدهم، وهو يحمل بيمناه خنجراً نازفاً بقطرات حمراء.. وبيسراه جدائل من الشعر الكثيف القاني، يتدلى منه وجه مضمخ مشوه.. وكان الثلاثة ينظرون نحوي والشر يتطاير منهم..‏

     

    أوقفت تنفسي.. ضغطت عضلاتي عصرت نفسي.. انتفخت كالفيل، تحولت إلى عملاق جبار.. نهضت بعنف ، قلعت الشجرة من جذورها، مزقت قيودي، وهجمت نحوهم..‏

     

    سفاحون قتلة.. سفاحون قتلة ..‏

     

    فتحت ذراعي لألتقطهم مرة واحدة.. وأرمي بهم خارج هذا الكون.. ولكن..‏

     

    قبل أن المسهم، أفقت.. أبصرت زوجتي تقف أمامي فوق السرير، ملتصقة بي، ترتجف مثلي، تحضنني وهي تردد بصوت مضطرب: بسم الله .. بسم الله .. بسم الله.. استيقظ.. لاباس عليك.. لقد كان كابوساً مزعجاً.. بسم الله الرحمن الرحيم..!؟‏

     

    كانت أضواء الفجر، قد أخذت في التسرب بين خصائص نافذة غرفة النوم.. اتجهت نحو الحمام، وذهبت زوجتي لتعد لي كأساً من الشاي، كانت الدموع تبلل جفني.. وكنت أردد في سري: ياله من حلم عجيب.. إن مشاهد الوحشية المؤلمة. لن تزول عن ذاكرتي أبداً. إنه أمر لا يصدق..!؟‏

     

    قالت لي أم البنين، وهي تناولني كأس الشاي مبتسمة: خير إن شاء الله.. إحك لي ما رأيت.. لقد كان حلماً مزعجاً ..‏

     

    رويت لها بالتفاصيل ما شاهدته وأنا نائم، فاصفر وجهها، وشردت قليلاً .. ثم أعادت كلمة : خير إن شاء الله.. ورفعت وجهها نحو السماء وقالت : لطفك بنا يارب..‏

     

    ***‏

     

    عندما أشرقت الشمس، قام أبنائي، فتناولوا فطورهم وارتدوا ثيابهم، وهموا كعادتهم بالخروج،..‏

     

    فاعترضت طريقهم وأمرتهم بعدم مغادرة المنزل خلال هذا اليوم، لأسباب هامة..! والواقع ان ذلك الحلم البشع، هو الذي زادني تشاؤما على تشاؤمي.. فاطاعوني، ورجع كل واحد إلى غرفته.. وقررت بدوري أن لا اذهب إلى عملي.. وما فائدة الذهاب، ونحن منذ سنوات لاننتج أو نستهلك غير حكايات القتل والغدر، والانفجارات والدمار ..!؟.. كل العقلاء في هذه الأيام ، أصبحوا لايغادرون منازلهم إلا مضطرين، وتحت حراسة الأهل ورغم ذلك كل فرد ينتظر بقلق ورعب، متى يحين دوره، وتنزل الكارثة على راسه..!؟‏

     

    بعد ساعة.. قمت بدورية مراقبة، اتفقد غرف الأولاد.. وأرى ما يفعلون..؟ وجدت الصغيرين داخل غرفتيهما يطالعان.. أما الكبيران، فلم أعثر لهما على أثر.. ورفعت صوتي منادياً بأسميهما، ولكن دون إجابة.. صاح الولد الصغير من غرفته: لقد ذهبا إلى المدينة... قالا إن لديهما عملاً مستعجلاً.. لاتقلق ياابي..!‏

     

    - لاتقلق ياابي .. كلام فارغ، كلام صبي ساذج..! كيف لا أقلق، ومنذ يومين انفجرت سيارة ملغمة، فأودت بحياة كل من كان في الشارع..عشرات.. وبالأمس فقط وقع أشتباك بالرشاشات داخل أحد الأحياء.. فقتل من قتل وجرح من جرح..! أي مدينة هذه التي صارت، لا تنام، ولا تستيقظ إلا على دوي الرصاص، وصرخات الفزع، وأخبار الموت والدمار...!؟‏

     

    أين ذهب الولدان يا ترى..؟ اللهم سترك وحفظك يارب..‏

     

    سمعت زوجتي تأمر أحد الصغيرين بالذهاب لشراء الخبز..فقلت لها: دعيهم يقرآن.. سأذهب أنا..‏

     

    -قالت لي: كم أنت عنيد.. لماذا لا تعمل بنصائح الأصدقاء، ولا تستمع لكلامي.. لقد قلنا لك أكثر من مرة بأن تقلل من خروجك.. ألا تعلم بأنك مستهدف للخطر، ككل الصحفيين، ألا تعطي قيمة لحياتك.. أو حياتنا على الأقل..؟‏

     

    لقد صممت على الخروج، خاصة بعد ان تدخلت هي في الموضوع،لقد صار تصميمي اشد.. وارتديت الثياب، وخرجت.. ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) ومع ذلك كنت أتوجس خيفة من أي بشري أراه قادماً أو ذاهباً أمامي، والتفت بحذر وذعر، إلى أية خطوة أحس بوقعها خلفي.. والتصق بحائط الرصيف كلما مرت بي سيارة صغيرة.. من يدري.. فقد يهطل علي من إحدى نوافذها، وابل من الرصاص..! وذلك الذي يخطو أمامي ! لماذا وضع يده في جيبه..؟ لعله يتلمس مسدسه، أستعداداً لإفراغه في رأسي .. إنني بالفعل أشعر كأن مسماراً من الصداع، يثقب جمجمتي.. لاريب أن ذلك من تأثير حلم البارحة .. زوجتي معها الحق. كان من الأحسن أن لا أغادر المنزل..! ولكن .. هراء.. كل هذه التخيلات إنها مجرد وساوس لا معنى لها..؟ لو كان هناك من يريد قتلي، لنالني حتى وأنا في عقر داري، ألم يحدث ذلك من قبل، لقد تحصنوا خلف أبواب الحديد، فأذابوها، ودخلوا عليهم، وذبحوهم..! ومع ذلك يبقى الحذر والاحتياط لابد منهما.. لماذا خرجت في مثل هذا الجو المشحون بالرعب..!؟‏

     

    لم تكن المخبزة بعيدة عن منزلي، كانت تقع داخل سوق الحي الذي أقطنه.. ووقفت في آخر الطابور المستطيل أمام بابها، شغلت نفسي بإحصاء الزبائن الذين أمامي، فوجدتهم اثنين وعشرين نسمة، أو عاصفة..! جلت بطرفي في رحاب السوق المستدير، كان مزدحماًبحاملي السلال، كأن الناس يستعدون لاستقبال العيد غداً..‏

     

    جاء شاب، ووقف خلفي ضمن الطابور، انزعجت منه.. تلفت ودققت النظر في وجهه حتى أحرجته فأسدل جفونه.. يبدو أنه شاب طيب وخجول..‏

     

    بدأ الطابور الذي أمامي يتناقص تدريجياً، بينما يزداد طوله خلفي.خرج شيخ من المخبزة يحمل عشرين خبزة ، وقع منها رغيف على الأرض، فانحنيت لأعيده إلى يديه. وهنا _ وفجأة هزنا جميعاً، دوي أنفجار هائل آت من بعيد.. إلا أننا أحسسنا بأن الأرض تحركت تحت أقدامنا، فارتعدت الفرائص، وأشرأبت الأعناق، ثم دبت البلبلة والفوضى بين الناس فأخذوا يتراكضون عائدين إلى منازلهم، في مختلف الاتجاهات..!‏

     

    تساءلت بصوت مسموع: اين يكون ولداي الآن..؟ لطفك يارب..‏

     

    وعدت مستعجلاً إلى منزلي وكانت خبزة الشيخ مازالت في يدي..!؟‏

     

    وجدت أم الأولاد مع صغيريها أمام الباب الخارجي، وهم في أشد حالات الهلع والاضطراب.. سألتني بلهفة، ماذا حدث.. أين وقع الانفجار؟ فأجبتها: الله أعلم.. ودفعتهم.. ودخلنا..!‏

     

    لم يعد في فمي ريق.. كنت أبتلع الهواء الجاف، فيحدث قرقعة في حلقي، ويتوقف . كانت تحبسه مرارة كالحنظل تتصاعد من معدتي.. وفي كل حالة بلع كنت أشهق .. طلبت كأس ماء.. كان المغص المتناوب يطحن أمعائي..ووخزت باردة كالثلج تدغدغ قدمي، فلم أتمكن من إيقافها.. ولم أقو على مواصلة الوقوف. جلست .. ولم أستطع صبراً على الجلوس فوقفت.‏

     

    اتجهت نحو الباب الخارجي..وغصت في دوامة انتظار الولدين، وتسمرت مقلتاي في آخر الشارع الذي يقدمان منه..؟‏

     

    كانت الساعة تقترب من الواحدة زوالاً.. وكان فصل شتاء ، والجو قارس البرودة، والسماء ملبدة بالغيوم، كأنها تريد أن تمطر..وكانت الرعشة ما زالت متحكمة في مفاصلي، متشبثة بارجوحتها في ساقي، وجبهتي تتصبب عرقاً ندياً.. وتفور كالجحيم.‏

     

    اقبلت زوجتي.. وترجتني أن أدخل فأفرغت بعض ما أكظم من غيظ عليها، وشتمتها، وكدت أضربها لولا انها أنصرفت بسرعة..‏

     

    كانت كل الاحتمالات والصور الكريهة البشعة تتراقص كالأشباح أمام رؤى خواطري.. تخيلت الولدين قرب مكان الانفجار.. قبل .. وبعد حدوثه..! فكرت في سيارات الاسعاف، والمستشفيات، واهمال الممرضات..!وحالات. وأشكال الضحايا..! تصورت مناظر الموتى.. أخذت الدموع تنهمر من عيني.. كانت ركبتاي ترتعشان أفقياً.. وصرت من زحمة البكاء اهتز عمودياً.. بدأ الشارع يلف ويدور حولي، واجتاحتني نوبة غثيان.. فانحنيت لأتقيأ أو أقع على الأرض .. لولا ولدي الصغير، الذي جذبني من الخلف وهو يبتسم، ويقول لي بابا.. بابا.. لقد تلفن أخي، وهما بخير، وفي طريقهما إلى الدار..!‏

     

    -لك الحمد يارب. وواصلت البكاء الصامت.. ولكن بكيفية غريبة،ولأسباب غامضة.. لقد كنت في أشد الحاجة إلى أن أضحك وأنا أبكي!‏

     

    بعد وقت قصير، وصل الشابان يمرحان ويضحكان، وكأنهما قادمان من كوكب آخر لا علاقة له بعالمنا المتدهور.. لعنتهما، وعانقتهما وشتمتهما بأقذع السباب.. وعندما أحتجت أمهما شتمتها هي أيضاً.. مرة أخرى .. ثم قبلتها من خدها .. وظل الأولاد يضحكون. غمرتني سعادة لا توصف.. كنت أشبه بذلك البريء الذي حكم عليه ظلماً.بالإعدام.. وقبل تنفيذ الحكم بدقائق، عانقته البراءة بوجهها المشرق الجميل.‏

     

    ولم تدم الفرحة.. فعلى الساعة الرابعة مساء جاءني معاوني في مكتبي بالإدارة، شاحب الوجه، متوتر الأعصاب وأخبرني بعد تردد_أنه تلقى مكالمة هاتفية - منذ ساعة - في مكتبي، من طرف سيدة مجهولة، تقول إنها صديقة قديمة لي، وأكدت عليه ضرورة تبليغي اليوم بأنني ضمن قائمة الذي سيصفون جسدياً أخر هذا الشهر،... وتقترح. حفاظاً على سلامتي. ان أغادر الوطن في أقرب وقت ممكن.‏

     

    كانت زوجتي والأولاد حاضرين عندما تلقيت الخبر. فلمحتُ علامات الحيرة بادية على الجميع.. إلا أنني شخصياً. لم أتاثر كثيراً بالموضوع.. قلت لهم، إنها مجرد مزحة ثقلية.. أو مؤامرة من حاقد يسعى إلى تشريدي.. ثم.. لماذا يقتلونني.. إنني من مجاهدي الجزائر، ومن المدافعين عن العروبة والاسلام، وليس بيني وبين السلطة أي صراع، وقد أمضيت عمري كله وأنا أكتب من أجل نصرة العدل والحق، وتثبيت المبادئ السامية والقيم، وحب الوطن، والارتفاع بمستوى الشعب..‏

     

    -قال ولدي الأكبر، من أجل هذه الأفكار، هذه الأعمال سيقتلونك.. لا تتهاون ياأبي فالأمر جاد. وخطير..!‏

     

    - قالت زوجتي، يجب أن تغادر البلاد حالاً..‏

     

    وأمضينا بقية اليوم والليل في جو كله ذعر، ورعب. وحزن وأسى... وحملتني الطائرة خارج حدود المتوقع.. وبعد.. أين أولادي الآن؟. وفي أي مكان يقف كل واحد منهم..؟ وهل عادوا إلى المنزل قبل الغروب؟. الحقيقية. أن مأساتي في الغربة أعمق. ويومية الرعب لم تنته بعد.‏

    (1) الشريعة، اسم لمصيف جميل يقع قرب مدينة البليدة

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()