بتـــــاريخ : 11/19/2008 9:26:50 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1020 0


    أوراق الورد

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نزار نجار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    و... كنت أسمع اسمه يتردّد في دارنا، وأسمعه يتردّد في حارتنا الصّغيرة واسمعه أيضاً يتردّد في السوق، عند مدخل الجامع، أو قرب البوّابة الحجرية، أو أمام الفرن، ولم أكن -وأنا صغير بطول السلامية- قد رأيته، أو وقعت عيني عليه، حتى في الأيام التي استهواني اللعب، أو أخذتني فيها حمّى الانطلاق من قيود الدار والمدرسة، والسوق، والدكّان، لم أكن قد بصرت به، على الرغم من أنّ اسمه صار محفوراً في ذاكرة الحارة من أولها إلى آخرها.. جعفر الطّيار!

    يجيء صباح، لم يكن مثل أي صباح! لم يكن مشرقاً ولا مضيئاً، لم يكن يحملني على جناحي فراشه، أو يطير بي في دنيا مبهمة بهيجة، كان صباحاً معتكراً، جعلني أتعس الأولاد، وأشقاهم، كنت أكثرهم حزناً وكآبة، وامتهاناً، أنا التلميذ المجتهد الذي ينال أعلى الدرجات في المواد الدرسية، أنا التلميذ الصغير، قدوة تلاميذ مدرسة " نور الدين الشهيد" أُطرد من المدرسة!!‏

    ذلك الصّباح الحزين..‏

    وقفت في الباحة، وقد اشتعل قلبي بالحب لاستقبال نهار جديد، ودروس جديدة، وتوق إلى الكشف والمغامرة والانطلاق في دروب العرفان، ذلك الصّباح حضر المدير والمعلم والمناوب، قُرِئت أسماء التلاميذ الذين لم يدفعوا لـ "صندوق التوفير" واسمي في رأس القائمة..‏

    فصلونا عن الأرتال المتوجّهة إلى الصّفوف، ثم بعصّيهم ساقونا إلى الباب. صرنا خارج المدرسة، أول مرة أجد نفسي في الطريق، ومَنْ سينقذني ليرتين من أجل صندوق التوفير، مَنْ يدفع عنّي غائلة التسيّب والعطالة والتشرّد خارج سور المدرسة التي شيّعتها بدمعتين تدحرجتا فوق وجهي الملتاع!‏

    ليرتان للتوفير، وما التوفير! وما الصندوق؟ ولماذا لم نترك حتى نهاية الدوام المدرسي!.. تراقصت العصا أمام وجوهنا، تراقصت المرئيات.. انطلق بعض التلاميذ ضاحكين، لقد ظفروا بنهار حافل جديد من اللّعب.. لم يكن يهمّهم شيء.. أما أنا فإلى الدار.. مثل عصفور ضاع عن سربه!‏

    وعلى الدرجة الحجرية، أمام بابنا الخشبي جلست.. كنت أبكي. ولبكائي نشيج يشقّ الصّدر، لن يعطيني أبي الليرتين، لأنه لم يشتغل منذ أسبوع، وليس مع أحد ما يردّ عني تشرّدي وعطالتي!‏

    ورأيت، من خلال دموعي، قدمين توقّفتا أمام الدار! قنباز مقلّم قد حزم عند الخصر بزنّار حريري وقامة إلى القصر أميل، ورأس بطربوش أحمر، رأس برز فيه شاربان أسودان، معقوفان امتدّت كفّ حانية إليّ، وجاءني صوت أجش:‏

    -لماذا تبكي، يا ولد!‏

    -طُردت من المدرسة.. لم أدفع الـ.. تـ.. و.. فـ.. يـ.. ر كنت أختنق بالبكاء، وأشرق بدموعي.‏

    -طردوك وجه النهار!‏

    -هـ.. هـ.. هـ..‏

    -تعال!‏

    أخذني من يدي، ولم أعرف كيف عدت من جديد..‏

    في غرفة الإدارة، وكان الباب موارباً، توقفْتُ هناك توقفْتُ بخشوع، وأنا أرى الرجل وقد استند إلى طاولة المدير، وجلجل صوته بمهابة.. كان طربوشه الأحمر ينسجم مع الصّوت البهيّ..‏

    -طفل يُطرد من أجل ليرتين.. أبوه مريض.. و.. و..‏

    لم أعد أسمع شيئاً..‏

    لقد امتلأت نفسي بامتنان، فاضت بالحبّ لهذا الرجل، وجدت أنه شغل ساحة رؤياي، كبرت قامته، رأسه في السماء، وطربوشه الأحمر بعيد هناك يسبح في علّيين، ووجهه بشاربيه الأسودين يشعّ بنور أخّاذ.. غابت غرفة الإدارة، اختفى المدير، امّحت صور المعلمين، اختفت عصيّهم، وظلّت طلّة الرجل، تملأ المكان، بقي صوته البهيّ يجلجل بأسمى معاني الغيرة، والتعاطف والحبّ..‏

    ذلك الرجل هو.. جعفر الطّيار، مختار حارتنا الصّغيرة، التي حفرت اسمه فوق الأبواب والشبابيك، وشرفات البيوت وباحات الدّور.. و.. في قلوب قاطنيها..

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()