بتـــــاريخ : 11/19/2008 9:09:18 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1154 0


    الشـــــــرفـتــــان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : منال فياض | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الشـــــــرفـتــــان منال فياض

    كانا صغيرين في السادسة من العمر، ولدا في يوم واحد وخرجت صرخة ألم وصرخة بكاء لم يقدر الحائط أن يفصل اندماجهما.. وفي مدخل البناء يتعاركان تقرصه زينب بجلده الأسمر الرقيق وتركض ليتلقفها، يشد جديلتها ويصرخان ثم يضحكان ويمسحان الأرض بالأجساد المتعرقة.‏

    لم تنتظر زينب أن يعود، نسيته كما ينسى الوليد رحم أمه. في غرفتها تعيش حباً تصنعه، تحتضن كتاباً وحين تتعب عيونها تتأمل التمثال العاجي، لحظة التقطها النحات، وسافر ليخلد لحظة يمكن ألا تتكرر.‏

    تسدل الستائر فوق النافذة الشرقية، والغربية، تحدّق في عينيها -وهي تمسح المرآة- وفي جبينها. وتدمع عيناها الحادتان الشاردتان خلقت لتكون على وجه رجل.‏

    عملت لنفسها فنجاناً من القهوة، هذه المرة بغير شعور أخذتها قدماها نحو الشرفة وهي لا تزور الشرفة إلا في الصباح حيث تسقي شجرة الورد، وشتلات الحبق حتى حين تتأمل الغيوم الخريفية الشاردة في سفرها فوق الشوارع والأبنية العريضة، يحوم في صدرها حزن لاتدرك سببه.‏

    في آخر رشفة، وضعت الفنجان فوق صحفته، مسحت جسدها (البرونزي) شاعرة ببرودة المساء.‏

    امتدّت يد تنشر الغسيل على الشرفة المجاورة، لم تكن يد امرأة، منذ سنين طويلة والبيت ميت، لا حركة، ولا ضحك، ولا ضجيج كان يسببه رامي. وتذكرت رامي بنشوة حين جاء أبوها ورآهما كالعادة يتعاركان ويلتصقان ببراءة وببساطة فانهال عليها بالضرب.‏

    وقفت على حافة الشرفة، مدت رأسها وبسرعة تراجعت حين التقت عيونهما، لم تهرب إلى كرسيها وقفت تنظر في الغيمة الوحيدة دون أن تراها. وفكرت "سأرد عليه السلام إن سلم. إن خجلت منه سيقول إني حقاً قد أصبت بذاك الشيء الذي خرج كالنور من عينيه".‏

    وحصل السلام، علمت زينب بأنه توأم صرختها.‏

    "كم كبرت يارامي، هاقد غطي وجهك الرقيق بالأشعار السوداء.. كم ثخنت ساعداك، أما زال جلدك الرقيق يذكر قرصاتي".‏

    ضوء الشارع ينعكس على الوجهين، وفوق صدره يلتمع صليب صغير التقت اليدان، تصافحا بشرود. طلب منها أن تزيل قماش الروب عن صدرها. فغضبت راجعة إلى كرسيها. ضربها بورقة بيضاء. أخذتها بين يديها بنهم، وأسرعت إلى غرفتها لتشعل الضوء، فركت عينيها وبدأت تقرأ بهمس:‏

    "عندما غضبت يازينب علمت بأنك اجتزت مرحلة الطفولة، وأنك مثلي ازددت أنوثة كما ازددت رجولة. لم أقصد الذي خطر لك يا أختي. افتحي أزرار القميص، فوق نهدك الأيسر أنا الذي وشمت عليه الصليب.. أترانا بتلك الطريقة نزيل الحدود؟".‏

    انفجر قلبها... ركضت نحو الجدار وصرخت له بهمس كي لا يبتعد صوتها نحو البيوت المرصوصة. عصرا الحائط، الرائحة في شعرها غطّت على كل الروائح كان الحديث عادياً، تحدثا كما كل الرفاق، عن الذكريات ومغامرات الموت والحياة حكت له عن الفتى الذي أحبته ولم تر وجهه أو تسمع صوته فضحك.‏

    -وأنت يارامي.. حدثني عن حبك.‏

    -إن التي سكنّت مشاعر المراهقة سافرت إلى إيطاليا.‏

    خمّشت يدها حين قطفت وردة، خجلت أن تقدمها له فصارت تشمها بهدوء خرجت من جوف فمها موسيقا حين قال: "اتركي لي بعض الرائحة.. شممتها كلها". هل يستطيع الآن أن يشدها بشعرها ويضربها.‏

    النجمة الحريدة تسير من اليسار بشكل منحن إلى اليمين صارت الآن قبالتهما وكان القمر في منتصف الشهر غائباً.‏

    تحدّثا في الديانة، واتفقا في النهاية أن الدين محبة وروح وصدق.‏

    ووعدها كرجل سياسة وعداً كاذباً بإلغاء الحدود في الخارطة.‏

    وحين تحدثا في الشعر، أطال الشرح حتى اقترب الصبح وأذّن المؤذن من وراء البناء فصمتا. ساعة أخرى ويبحر في السفينة إلى قارة أخرى.‏

    لم يقدر الحائط كما فعل في تفرقة الجسدين أن يبعد يده عن وجهها المحموم بالحرارة.‏

    -لم لم أركِ إلاّ في اليوم العاشر؟‏

    -حتى لو كنتَ محكوماً بالصليب، سنلتقي كنجمين، أجل يقال أن العشاق يتحولون إلى نجوم. أو عصافير في الجنة.‏

    لم يقدر أن يخبئ ضحكته فقال:‏

    -آه... لو لم يكن بيننا هذا الجدار.‏

    ربع ساعة ويتم الوداع.. لكنه لم يتم لأن خطوات أبيها تقترب، جلس على الكرسي الذي كانت تجلس عليه وطلب منها أن تحضر له فنجاناً من القهوة على اعتبار أنها على غير عادتها استيقظت وحدها ولأول مرة في حياتها.‏

    لم تقدر أن ترى جسده أهو نحيل أو ثخين، طويل أم متوسط، أن تراه وهو يلوح لها بمنديل ونظرة. رجعت إلى سريرها نامت إلى اليوم الثاني.‏

    وفي الصباح انجذبت كالنحلة إلى الحائط مسحته بيدها، شعرت بأنفاسه بدأ نفسها يتسرع حين قرأت كلمات مكتوبة بقلم رصاص بين الشرفتين:‏

    ""عيناك غابتا نخيل ساعة السحر‏

    أوشرفتان راح ينأى عنهما القمر"‏

    صار للتمثال في غرفتها روح كأنه أجمل لحظة مسروقة من الحياة، استفاقت الصبية والصبي وتحرّك في يده (الغيتار).‏

    بدت الوردة الجورية أكثر احمراراً، والورق القاتم أكثر اخضراراً برغم قدوم تشرين الذي ينذر بالمطر. وكيف تحفظ القصيدة من زخات المطر. وهي التي كانت تنتظر المطر وتقدّس المطر.‏

    على عادتها تنظف (الجنينة) من الورق الأصفر المبلل.. وبدأت تلعب لعبة النسيان كي تنسى رامي مرة أخرى وتعيش طبيعية كبقية البنات.‏

    هكذا كانت تفكر وهي تنقيّ الورق الأصفر الذابل حول ساق الحبقة في الأصيص الذي أخذ مكانها من أيام طويلة. ضغطت الورق وعملت منه كرة معجونة، شيء وخزها كالإبرة، فتحت أناملها ونثرت الورق في كفها، نفخت فيه بقوة، فتطاير في أرجاء الشرفة. ولمع شيء صغير من الذهب، صار صدرها يعلو ويعلو، أنفاسها ساخنة كأنها خارجة من وعاء مغلي، حملت نفسها بضعف حاملة الصليب الذي وضعه في أصيصها وفوق سريرها كشفت عن صدرها الأيسر ووضعته فوق الصليب المرسوم بالأزرق.. في كل الأزمان كان يلحق بها رامي يلامسها بسحر خفي ثم يختفي، رامي مثل رجل في أسطورة يونانية لايمكن أن تدوم رغم بطولته في الحب والجمال.. رامي خرج وهي صارت تموت...‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الشـــــــرفـتــــان منال فياض

    تعليقات الزوار ()