بتـــــاريخ : 11/18/2008 6:40:28 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1132 0


    حائط الصبار

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أنيسة عبود | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    هبطتْ الدرج بتثاقل.‏

    "صباح الخير" ألقتها على الجارة التي تكنس الدرج.‏

    "قولي صباح الشقاء"‏

    تابعتْ نزول الدرج. ترتدي بلوزة خضراء وبنطلوناً أسود. الهواء الشرقي يلفح وجهها. تلوّح لسيارة تاكسي، تعبرها مسرعة. سيارة زوجها تركن عند الباب.‏

    "هذه سيارة رجل لا أخصّه"

    كانت تحدث نفسها، وكأن الصباح رطباً وبارداً. المدينة منكمشة تحت لحاف الصباح. بعض الأطفال يركضون باتجاه المدرسة. المرأة العجوز التي تسكن آخر الشارع لا تملّ تفتيش الزبالة. تحمل عصا حديدية، تغرسها في الكيس الأسود، ينفتح الكيس على نهار وليل لأسرة مجاورة.‏

    محتويات الكيس تحكي فرح وبؤس هذه الأسرة ثراءها وسهرها وأخلاقيتها. المرأة العجوز ترتدي قفازات من أكياس النايلون. تلفّ يديها وترنو إلى الأكياس المبقورة. تحدث نفسها ويدها تغوص في الكيس:‏

    "هذه الأسرة أكلت تبولة البارحة وشربت ويسكي"‏

    "لماذا تشربين يا ندى؟! حرام... حرام."‏

    تضغط صدغيها بين كفيها. تحدق في البلاط ولا تقول شيئاً. ترفع الكأس بهدوء، تهمس "حياتي غيبوبة. منذ أن وعيت الحياة وأنا أحاول تجاوز هذه الغيبوبة.. أريد أن أفيق".‏

    الكيس الآخر أصحابه يأكلون القواقع البحرية. بقايا حلزون، بقايا سمك، قشور فاكهة، معلبات فطر.‏

    "مللت الرز يا رهان، مللت الجلي والطبخ والغسيل. مللت الوظيفة ووجه المدير وثرثرة الزملاء.‏

    أنت تريدين الوظيفة. أليست الوظيفة حرية؟!"‏

    ربطت الشال حول عنقها. هواء شرقي يعاندها. مرت بالمرأة العجوز. غطت أنفها بالشال.‏

    "تفضلي مدام ندى"‏

    "شكراً أريد أن أمشي يا أستاذ" تابعت سيرها، لا تريد أن تفضح نظرتها الحزينة "لن أسمح لأحد بقراءة كتاب وجهي المغبر بالأسى"‏

    ركلت كيس الزبالة، مرة تنزل تحت الرصيف، ومرة تصعد. تشعر بألم في عمودها الفقري.‏

    "تعبانه يا برهان. لا أقدر أن أمشي إلى الشركة. ليتك توصلني"‏

    "خذي تاكسي"‏

    تتأمله وهو يغمر جسده في اللحاف ثم تحمل حقيبتها وتمضي.‏

    "حبيبتي. عندي شغل غير شغل سائق الست!!."‏

    ترمقه دون كلمة. ترد الباب بهدوء. بهدوء تستعدي ملامحه يوم كان يرجوها كي تركب سيارته. وبهدوء قالت لزميلها عصام: لا تكرر مثل هذه العبارات. زوجي لا يمكن أن يخدعني.‏

    الهواء الشرقي فك شالها. لفته على عنقها ثم راحت تعبر الشارع، تلتفت إلى اليسار. تقف عند بائع الزهور، تفكر بشراء الورد من أجل ميلاده، قد يذوب شيء من الثلج المتراكم بينهما، لكنها تشعر بالبرد‏

    "الدفء يأتي من الداخل يا ندى"‏

    "روحي بردانة إذن"‏

    عند تقاطع الشارع شتمها سائق تاكسي. كانت تسير دون انتباه "هذه المرأة تريد أن تبلوني بمصيبة. العمى. الناس يمشون وهم نيام، شوها داه ياه...؟!"‏

    "لو صفعني على خدي ما شعرت بالإهانة أكثر"‏

    "العالم سكرانه يا جار؟!"‏

    "كيف عرف أني أشرب؟!"‏

    هي فعلاً سهرت مطولاً ليلة أمس تشرب. تقلب حياتها على أي وجه يجب أن تقف. المساء يبعثر صمته وسواده في أعماقها بينما برهان يشخر على الأريكة، تبعثر أوراق الاحتمالات، تحاول اختيار الورقة الرابحة. "كلها خسرانة" إذا تركت البيت؟! إذا استمريت على هذا الوجع. إذا صرخت وقلت له: أنا أعرف كل شيء يا برهان. أعرف..."‏

    "هه... أنا لا دليل لدي... سوى... حدسي"‏

    "أتصدقين يا ندى؟!"‏

    "حقاً! أأصدق؟! هو الذي كان يقارع كل شيء من أجلي؟ هو الذي لا يبالي بشيء الآن من أجلي؟"‏

    نظرت إلى يديها. رأت أن أمامها يدين لا تعرفهما، تتذكر أنه كان لها يدان كالخس، أصابع كالحبق، تزينها خواتم اللؤلؤ والفيروز الأزرق...‏

    "ندى جميلة وتحتاج إلى خرزة زرقاء انقاء الحسد"‏

    "بنت الكلب تسير دون أن تنظر أمامها"‏

    - عيب هذه موظفة كبيرة في الرقابة. إنها السيدة ندى"‏

    -عيب يا برهان... كبر الأولاد. ماذا لو تصرفت أنا هكذا؟!‏

    - كنت أقطع رقبتك.‏

    الأولاد يملؤون غرفة النوم -الطفل علوّش يتكوم كجرو صغير، تغلق الباب، تغلق الحوار، تنزوي، تملأ كأسها وتحدق في اللاشيء.‏

    - أتصل والخط مشغول يا برهان. ساعة وأنا أتصل. كل يوم وبهذا التوقيت الخط مشغول، من يشغل خط المنزل بعد نزولي إلى الدوام؟!‏

    - زوجك يا ابنتي...!؟‏

    - أمي أرجوك... لا أسمح لأحد أن يخبرني شيئاً. أنا لا أصدق.‏

    - ولكن...‏

    - لاتقولي زوجي لا يوجد رجل في الدنيا مثله.‏

    حمارة أنا. حقيرة. أكذب على الجيران، أكذب على صديقاتي. أكذب على أمي. حتى على نفسي أكذب. أريد أن أصدق أنه لم يخنّي. تغمس يديها في طشت الغسيل. تدعك الثياب. "كم مرة قلت لك خذ البنطلونات إلى الغسيل؟!.‏

    تضع يدها في جيوب البنطلون . تريد أن تخرج ما بداخل الجيوب من أوراق ومحارم.‏

    "كم مرّة قلت لك فتشي الثياب قبل وضعها في الغسالة"‏

    "الغسالة معطلة منذ سنة. الغسالة؟! أنا الغسالة"‏

    أخرجت الأوراق... إيصالات. محارم... نقود ورقية... و... وأكياس واقية.‏

    "بالتأكيد هي ليست من أجلي"‏

    "أتتهمينني؟! زمجر، ركل الباب، "اشتريتها لصديق أتظنين بي...؟!"‏

    اقتربت منه. وضعت يدها على فمه "أعرف حبيبي. هي ليست لك. أنت لا يمكن أن تخونني. لقد كبرنا. أليس كذلك؟!"‏

    "عاقلة أنت يا ندى. المرأة يجب أن تكون عاقلة" ولأن ندى عاقلة تراها تقضي الليل وحدها، تشرب وحدها، تحزن وحدها، ثم تنام وحدها، "مجنونة أنا. قد يكون صادقاً، يبدو أن المرأة تزداد شكوكها كلما زاد عمرها"‏

    فتشت عن ركوة القهوة. إنها في مكتب عصام. لن تذهب إلى مكتبه السماء تمطر. تذكرت الغسيل المنشور. اتصلت بالمنزل. الخط مشغول. حاولت مرات، لكن الخط مشغول. مرت دقائق، حسبت كل الاحتمالات، "الأولاد في المدرسة، برهان عليه أن يذهب إلى العمل، أيكون الخط مسروقاً؟!"‏

    السماء تمطر، هواء شرقي عاصف: "الآن سيقع حبل الغسيل على الأرض"، نظرت إلى يديها بأسى: "لم أعد قادرة على الغسيل" حاولت الاتصال، لكن الخط ظلّ مشغولاً. بدأت احتمالات جديدة تنفلش أمامها. أغلقت باب المكتب، نظرت إلى خيوط المطر. رأت غيمة تهبط على النافذة. الغيمة تأخذ شكل امرأة مخيفة: "من أنتِ" "أنا أنتِ"‏

    "هذا وجهي أنا؟!"‏

    اقتربت من النافذة. مسحت بأناملها على الزجاج المغبش. هربت الغيمة. هرب الهدوء. حملت حقيبتها، اتجهت إلى الباب، لم تطلب الإذن بالخروج. المطر ينزل في الخارج، خطّها ما يزال مشغولاً. لم تعد تسمع إلا صوت أعماقها وصوت المطر، وظلت الجاكيت على الكرسي.‏

    هي قالت: كنت أدخل في شارع وأخرج من آخر. بقيت أدور حتى أفرغت صرة أحزاني. عند ذلك شعرت أن غيمة سوداء ثقيلة فرّت من صدري وراحت تهطل وتهطل وأنا أسير، ثم اتجه إلى المنزل. أصعد الدرج. أدخل بهدوء. أتجه إلى غرفتي لأخلع ثيابي المبللة. كان الباب موارباً. لمحت بسرعة برهان... و.. كانت هي فاقعة السمرة وكان هو شديد البياض، هو ظهره على الباب، وهي تغمض عينيها على صدره، مشيت على رؤوس أصابعي، اتجهت إلى الشرفة. سحبت كرسياً بلاستيكياً وبهدوء جلست. رحت أراقب المطر وأدخن، أدخن بغزارة.. همهمة تخترق أذني. أستطيع أن أتخيل المشهد. أستطيع أن أتخيل جسده، صوته، يداه تطوقانها، اليدان اللتان طوقتا جسدي، اليدان اللتان قشرتا جسدي عن روحي، وإذا رأيته يغلق الباب، رحت أرقب خروجها من المبنى الكبير وذوبانها في الشارع.. نظر إليّ لم أقل شيئاً. تفحصته. رأيته رجلاً آخر، بلا أطراف، بلا أذرع. كان جسداً مبتوراً، اقترب مني. ابتعدت. دخلت غرفتي. تأملت السرير. سقطت عليه... "هنا"؟! شعرت بالبرد. "بردانة... آخ... البرد" جاء الأولاد. ما زلت بردانة غطوني. رموا عليّ الثياب. أتى بمعطفه المصنوع من فروة خروف. "بردانة" اجتمع الجيران. أتوا بالبطانيات "برادنة" أخذ علوش الصغير يدلك أصابعي كأني غفوت. كأن المساء قد هبط. كأن أنامل علوش الصغيرة حديقة ورد. كأني غفوت. وإذ صحوت رأيت السرير العريض الذي أنام عليه قد انشق إلى سريرين وبينهما نمت صبارة كبيرة لها أوراق لحمية مكتظة بالشوك المخيف. كان برهان هناك، وراء الصبارة، وكنت أنا هنا: امرأة عاقلة، وشجيرة الصبار بيننا، وكان الأولاد مندهشان، اقترب علوش. صرخ. استيقظت: ماما؟ ثم انهمر بين يدي

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()