تجمعني مع السيد عارف أرض تشبُّ كلّما كبرت فيها جذوع شجر الزيتون أملك الثمن منها، بعد أن اهترأت ساعات النهار أجلس على كرسي بسيط لكنه مريح آمر زوجتي كما يحلو لي مراقباً خلفيتها العريضة بشهوة آخذ أنفاساً من التبغ (أبو ريحة) أزرعه في الحاكورة.
زوجتي بديعة تنظف له البيت كل يوم خميس قبل أن يقدم أولاده من المدينة يوم الجمعة مصطحبين زوجاتهم.
(نورا) ابنتي بدأت تنطق أول كلمة -بابا- فتقع في قلبي وقوع الزيت بالنار. في هذا العام امتدت فروع الزيتون في كل اتجاه وأثقلت بحبات كروية خضراء ناضحة بالزيت.
السيد عارف متواضع جداً ينزل إليّ ويجلس إلى جانبي على (الخوان)، تسرع بديعة وتضع خلف ظهره وسادة يستند عليها، إنه يحب الكلام كما أحب الصمت قال لي بعد شرود:
-أتعلم...؟! كلّنا أولاد زنا بالمحارم.
ثم يأمر زوجتي بتحضير النرجيلة متأملاً عمارته وكأنه يملك العالم.
شجرة السنديان أبقيتها في أرضها، تحتها تعمّر (نورا) بيتاً من الحجارة المصفوفة بشكل مربعات على العشب.. وفوق فروعها الضخمة تنغم العصافير أجمل الألحان، يخرج أحياناً صوت يشعرني بخوف- رغم حلاوته- حين يندمج مع ضجيج الماء في البركة الصغيرة. صنعت لها من الحبل أرجوحة. شعرها الأصفر يطير على وجهها المدوّر، صرختها... ضحكتها المتقطعة تبدّد ضباباً غريباً يحيط بعتمة سراديبي. بدت كوردة شقائق النعمان في ربيعها وهي ترتدي الفستان الأحمر هدية السيد عارف لها في عيد ميلادها.
أدفع الحبل في الهواء بقوة فتعلو ثم تنخفض ويتطاير كاشفاً عن جسد أبيض كثلج تحت الشمس. أحسست في لحظتها بشعور شيطاني غريب، طلبت السماح من الرب راجعاً بقلقٍ إلى الغرفة غير مكترث بها وهي تنادي بأعلى صوتها: (بابا... لم ذهبت؟! ادفعني....).
كنت أحدق بعيون زوجتي الهاربة دائماً في عالمها الداخلي وأنا أحدثها عن المستقبل والشيء الذي كنت آمله (الولد). بل أريد أولاداً.. أولاداً بعدد الشجر الذي أملكه. اقتربت نورا بقلق ناظرة في العمارة المقابلة، قالت:
-بابا... صحيح أن الإنسان يعيش ويموت سبع مرات؟!
-ربما لا أعرف يا نور حياتي.
-أحسّ بأني عشت في ذاك البيت!
اشتعلت أعصابي غيرة من عارف، لا أريد لخيالها أن يتخطى حدود الفقر نحن راضون بالعيشة الشريفة نكتسي، ونشبع، ونضحك كثيراً. الصمت الطويل انفجر انفجار النجوم المضيئة في عيد رأس السنة حين بشرتني بديعة بشيء يتحرك في بطنها، وأنها تقيأت مرتين واشتهت أن تأكل التراب، وحبات الفريز الأحمر. لم أنتظر للغد... إلى سوق الخضرة فوراً وهناك في الساحة المزدحمة بالعربات الخشبية مسحت بطرف كمي دموع الفرح. "أخيراً يا ولدي الشقي... تأخرت بحضورك إلينا. آخ، كاد العمر أن ينتهي...".
السيد عارف يفسد تربية الطفلة، يذكّرها بعيد ميلادها، ويطالبني بإرسالها إليه كي تتعلم مع أحفاده استعمال الحاسوب وأخذ الساعات الخصوصية فصارت تطالبني بالهدايا وتعدّها واجباً محتمّاً عليّ، وحقاً من حقوقها حتى اعتادت على عيشة الصغار البورجوازيين.
أطفأت في حزيران تسع شمعات، تبدّدت خيوط الدخان الصاعد من الشمع حين صفقنا بحرارة. قبّلها السيد عارف فوق جبينها، حضنها بقوة. ولما قالت له بهمس سمعته (هديتك رائعة... أنت أبي الثاني) شعرت بألم في فجوة رأسي الثمل لكني تجاهلته وحضنتها أنا الآخر بدوري وحين عانقتني أفقت من غيبوبتي، جذبتها إلى صدري ثانية لأتأكد فاحتقرت نفسي وانكمشت هي كما تنفر اليد من النار. ابتسمت بتصنع ناسية أن تشكرني على الهدية كما فعلت مع عارف.
أخذت نجيب من حضن أمه وضممته متمنياً لو أنه يشبهني بلون الشعر الداكن بسمار البشرة، بتدويرة الوجه الذي تتميز به عائلتنا. أخذ فقط اسم جده.
شجر الزيتون بدت أوراقه الصغيرة مغبّرة جذوعه رمادية مقشرّة، وأنا أيضاً هرمت، والبغل الأحمر الذي يجرّ عربة المازوت شتاءً صار كسولاً لا يقطع بضعة أزقّة حتى يخرّ تعباً. والرجل يهرم في الستين إن عاش شقياً راكضاً وراء الليرات القليلة تحت المطر فوق الوحل بين ذرات البرد، وذرات الغبار. وكلّه من أجل الأولاد، آه، الأولاد... يمصّون دمي... هات... هات... هات.
والآن وبعد أن أسرد قصتي، افهموا لم البعض من البشر يجرّون البغال، وعيونهم كالأحذية تزحف ببطء فوق الطرقات؟
ولم يُلّف ذاك النداء (م.اا..زووو...ت) بالحزن والعويل والاستجداء فاغفروا لي بطولتي التي أعدها انتصاراً على قدر أحمق... الموت وحده ينهي لعب القدر، ولو أنه آخر لعبة.
تلك التربة الباردة التي تلتحف بالعشب الأخضر والورد البري، والتي كانت جنة لطفلين يكبران كما الشجرة فرعاً.. فرعاً، وشبراً... شبراً. أرض جدي، وجد جدي صارت تبطن في جوفها الخطيئة.
من أجلهم استأجرت غرفة في حي (الدعتور) كي يتعلموا، ويرفعوا اسم بائع المازوت، الفلاح، على باب عيادة، أو باب وزارة، أو مؤسسة للحكومة كررت على مسامعهم دائماً بأن العظماء خلقهم الجوع من الأزمة خرج المفكرون والمتأملون والثائرون كاللبن لا يصبح زبدة إلا حين يُخض بقوة.
تحقق حلمي، صارت (نورا) في الجامعة جميلةً جداً لولا نظارتها الطبية التي تخفي عينيها الخضراوين. وبسبب تفوقها على دفعتها. كرّمت، بدأت تتقاضى راتباً شهرياً بسيطاً يعينها على شراء بعض من حاجياتها الكثيرة.
و (نجيب) أمسى رجلاً لم تولد الأرض مثله... سيأتي اليوم ببزته العسكرية وستلتمع النجمة الذهبية فوق كتفه العريض وهو يحمل الحقيبة الدبلوماسية، يحضر لي قصصاً غريبة مثيرة عن الجنود في الفرقة التي يرأسها. سنشرب اليوم العرق (الريّان) حتى نسكر، اليوم عيد رأس السنة، اليوم لن أعمل وغداً أيضاً. لن أبيع المازوت ثانيةً احتراماً لمركزه، وكيف أعمل بعد الآن...؟
لقد تعبت وانهدّ الظهر و(نجيب) يشدّ الظهر.
وقبل أن يأتي المساء، اشتريت (الشعبيات، وأساور الست، والقضامة). مزّق شرودي، وفرحي لا تسعه السماء، صوت امرأة تتأوه وتئن دخلت الزقاق، وأمام باب خشبي مفتوح تمددت فتاة منفوخة البطن تلهث بسرعة وتصرخ. رميت الكيس جانباً ولم يمر وقت طويل حتى صارت في المشفى. أخذوا مني هويتي. وبعد ساعتين خرج من مغارتها السوداء طفل اتهمتني بأبوته. كادت تقبّل حذائي المهترئ وهي تستغيث. اعترضت وصرخت فأنا لدي أولاد لهم سمعتهم في البلد. وصل كلام الطبيب إلى أذني فكان له وقع الصاعقة حين ابتسم وأردف على كتفي (اشكر ربك يا رجل، التحليل الطبي يبشّر بالخير... أنت لا تنجب أبداً).
لطمت وجهي بكل ما أملك من قوة حتى احمر ثم ازرقت مساحاته "نورا ليست ابنتي ونجيب لا يحمل شيئاً من جسدي ولا نقطة مني... نجيب الملازم ابن زنا.. ابن حرام؟!"
قررت أن آخذهم في ذلك المساء من شهر كانون في رحلة نهايتها العالم الآخر، العالم الأسفل.
أمرتهم أن يحضّروا أنفسهم للذهاب إلى القرية. فقالت نورا ببلادة: (اليوم... الثلاثاء، يومان ليوم الجمعة يا بابا...) لأول مرة أشعر بقزازة تلك الكلمة، كلمة بابا لها نغم كحشرجة الصراصير المنزلية في خشب عفن.
استأجرت سيارة أجرة... طوال الطريق كنت صامتاً لساني له قساوة وثقل الحجر حين سمعت (بديعة) الخائنة تخطط لمستقبل الأولاد، ستبيع أساورها الذهبية وتشتري بثمنها بقرةً هولنديةً حلوباً، أو ربما بقرتين. و(نورا) من الخلف تشبك ذراعيها حول عنقي شعرت باختناق أحد المحكومين بالإعدام شنقاً تطالبني ببضعة أوراق نقدية لتشتري حقيبة تناسبها كطبيبة.
أما (نجيب) فله رأي آخر مخالف لرأي أمه، فهو لايطيق عيشة القرية ولا الأرض. يفضل أن نبيعها ونبدّلها بـ(شاليه) على الشاطئ يدر علينا المال الكثير دون تعب الحراثة والهم في انتظار موسم يمكن أن يثمر أو لا والكلّ اتفق على أني كبرت ويجب أن أستريح.
خبأت دموعي الحديدية... آه... البكاء بصوت مرتفع في تلك اللحظة أمنية سال أنفي... سال قلبي... انفتحت كل المسامات في جلدي حتى أغرقني العرق.
(نورا) تمازح أخاها، فيضربها شاداً شعرها، تستنجد بي، لم أنطق لأني لو نطقت بكلمة واحدة ستلغيها الغصة. نظرت إلى المطر باحتقار وكفرت بالحياة.
قصر عارف -معتم كالعادة في الشتاء. صرنا في الأرض بين بيتنا المغطى بالتوتياء وبين القصر. سلّمت كل واحد منهم مجرفة وقلت: (احفروا) نظروا إليَّ بقلق إلا نجيب خلع ثيابه وبقي بالسروال. انشدّ نظري إلى عضلاته القوية التي صنعتها بتعبي، وعمري صرخ بفرح: (هنا كنز جدي؟ أجل كنز يا بابا). ردّت نورا: (انتظرنا سنين.... دعونا نحضر في الغد يا بابا).
قالت بديعة بخبث: (سنعيش أثرياء لولد ولدنا).
تأملتهم تأمل الوداع، قبّلت نورا، عانقت نجيب، وقلت لهم بابتسامة شاحبة: (ألا ترغبون بصورة تذكارية قبل أن يظهر الكنز؟).
اصطفّ ثلاثتهم على حافة الحفرة وبثلاث ضغطات على الزناد تراءت أمامي صورة مذهلة. ثلاث طلقات أنهت ثلاثة من البشر.
أخذت المجرفة ورددت فوق جثثهم التراب حتى سكنت الأرض من ألم الحفر، رجعت تجاعيدها كما كانت. زرعت فوق تربتهم شجرة صارت تكبر لتثمر زيتوناً أحمر.
أجبني أيها البغل، ولو بشخرة... أسرع قليلاً... حا.. حا.
(ما... زوت... مازو...ت).