بتـــــاريخ : 11/20/2008 8:11:30 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1406 0


    حرقــــــة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : حســــــب الله يحــيى | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كأنه السم القاتل، تراه وتعرف أسراره وتدرك نتائجه.. ولكنك تقبل عليه على الرغم من ذلك كله.‏

    كأنه النهاية التي لم تعد مؤجلة ولا مستحيلة.. بل ممكنة وأكيدة.‏

    كأن الليل بكل خفاياه وقسوته وآهاته قد أثقل على قلبه وكتم أنفاسه وحوله إلى كائن مسحوق، مجهول، معدوم الحركة والوجود.‏

    كأنما مسه الجنون.. فلا يدرك شيئاً مما يقول أو يفعل.‏

    كأنما الزمن قد توقف، كأنما الحياة كلها قد شنقت.‏

    .. هكذا أحس وهو يستمع إليها، رافضاً أن يصدق رفضها القبول به زوجاً.‏

    سألها عن الأسباب.. كانت الأسباب قتيلة فوق شفتيها.‏

    لم تجد سبباً تقول به، تتوكأ عليه، تضعه شرطاً أو رفضاً.. أبكته أسئلته.. وأحزنها أن تبقى تجرحه بصمتها.. لصمتها فعل السكين. وأبكتها أسئلته المنكسرة، الخجولة، المحبوسة.‏

    كانت تعرف جيداً المدى العميق الذي يتركه صمتها في رأسه وقلبه وكان يحسّ معاناتها وهي تعمد إلى صوت الصمت الذي يصارع كيانها ووجودها كله.‏

    كانت الكلمات قتيلة فوق شفتيها.. لسانها جف وتخشب، وملامحها تبوح وتكتم معاً.. كأنما تقول وتؤجل، وكأنها تذبحه وتداوي تجعله في حالة ظمأ إلى صوتها الذي يتقطر آهة.. فآهة، ورمل صحراوي يملأ فمها.. يجعلها خرساء ويحيلها إلى كتلة صماء لا تعرف حدوداً لهذا الصمت الأبدي.‏

    أكان يمكن أن تصبر عليه لو فعل مثلما تفعل به، أكان يمكن له أن يفعل هذا بحضورها أصلاً..؟‏

    كان الوضوح شمس حياتهما، كانت الصراحة أقدس كلمة يعتمدانها في مسيرة أيامهما الجميلة.‏

    سألها:‏

    - لم انتظرتِ.. عشر سنوات من الخدمة العسكرية الإلزامية بكل ما فيها من جراح وترقب وأوجاع.‏

    .. وعشر قبلها في الدراسة..!‏

    .. سأنتظر أنا.. أنا سأنتظر هذه المرة، عشرة، عشرون عاماً وأكثر.. حتى نلتقي، هل توافقين، عديني..!‏

    وانتظر أن تبارك صبره، مثلما بارك صبرها من قبل.‏

    قال:‏

    - نحن شركاء في الحزن، شركاء في الفرح.. فلماذا لا نكون شركاء في الانتظار؟‏

    ويخاطبه صمتها.. ويقاطع رجاءه.. همسٌ جريح:‏

    - لن أتزوج أبداً.‏

    - أبداً.. أبداً.‏

    - أبداً.. أبداً.. أبداً.. أبـ.. داً.‏

    وأدرك أن أبداً هذه قاسية، جارحة، صارمة، قاطعة، والأكثر من ذلك كله أنها أزلية.‏

    وبحث عن الأسباب، كانت الأسباب تستحيل عليه.‏

    .. سكن الصمت، جالسهما بحزن، نظر في البعيد، قد تكون هذه آخر جلسة تجمعهما، أحس أن روحه تهيم في فيضان.. أعلى فيضان.. يسمونه (تيهور). لا حدود لإيقاف فيضانات روحه المندفعة نحو أحزان متراكمة تحاصر أنفاسه.‏

    ثانية سألها.. كان سؤالها يخاطبه، تلتقي الأسئلة على الشفاه الأربع.. وتتحول الأشياء حولهما إلى شفاه تصرخ بصموت مقموع:‏

    - ألا تذكرين تلك الشجرة التي كانت تزهو عندما يتأرجح بين أغصانها الأطفال بوجوههم الرحبة وابتساماتهم المشرقة وملابسهم الملونة..؟‏

    واندفعت تجيب، منصرفة عن صمتها.‏

    - ألا تذكر أن هذه الشجرة، الشجرة هذه، هذه الشجرة، كيف كانت تبكي، تخرج سائلاً كالدموع.. عندما هجرتها العصافير.. عندما.. عندما.. عندما تحولت إلى مشنقة يتدلى من أعلاها حبل.. حبل يتأرجح فيه الموت، أليس من حق العصافير أن تهرب، ألم تبن أعشاشها فوق الأشجار، ألم تتحول الأشجار إلى أقفاص..؟ وكتم ضجة في أعماقه.‏

    - أنت يائسة تماماً.‏

    قال، كان قوله أقرب في الرد على يأسه هو.‏

    قالت:‏

    - لماذا تحدثني عن الأسماك.. والنهر أمامنا قد جفّ؟‏

    ومضت تقول بعد لحظة صمت:‏

    - اجتمعت الأشجار في حديقة واسعة.. وأقرت اختيار النخلة ملكة على كل الأشجار، رفضت النخلة، قالت: من يحلي الأفواه التي اعتادت المر؟‏

    .. فاختاروا عندئذ شجرة التوت.. فرفضت هي الأخرى، قالت: من أين يأكل الأطفال.. بعد أن يتعبوا من اللعب تحت ظلي؟‏

    وتوجهوا إلى شجرة الزيتون.. فرفضت قائلة: أنا الشجرة المباركة الشهية في كل الفصول.. لا أريد أن أتكىء على الكسل ورفضت شجرة البرتقال وشجرة التين..‏

    قاطعها قائلاً:‏

    - ألم تقبل كل الأشجار بمهمة القيام بدور الملكة..؟‏

    - بل وافقت واحدة.. شجرة العوسج وافقت.. وحال موافقتها طلبت إلى كل الأشجار أن يستظلوا بظلها لأنها الملكة.. هل تريدني شجرة عوسج؟‏

    بهت لسؤالها.. جرحه أن ترى نفسها شجرة عوسج.‏

    حاول أن يداري الحديث على نحو آخر:‏

    - فليكن.. سأستظل بظلالك.. وهذا يكفيني.‏

    أجابته:‏

    - شجرة العوسج بلا فائدة.. وظلها مؤقت.‏

    - أرضى.‏

    - لكن شجرة العوسج لا ترضى.‏

    وصرخ:‏

    - أنت كل الأشجار.‏

    - لم أعد شجرة مزهوة بثمارها، ولم أعد أرجوحة للأطفال والعشاق.. ولا مأوى للعصافير.‏

    وأحس بدموعها، حارة، منكسرة.. وأنه سيقسو عليها كثيراً لو شاركها البكاء. لو قال لها إن جراحه عميقة.. عميقة لو تخلى عنها ورحل.‏

    تعرف، بكل تأكيد تعرف، وهذا هو السبب في إصرارها على رفض الزواج منه.‏

    وهي.. هي، بإحساسها المطعون، تخشى أن يعرف.‏

    وظلت الفواصل بينهما تبتعد وتقترب، تقترب وتبتعد.‏

    كان يريد أن يقول كل شيء.‏

    كان يريد أن تقول كل شيء.‏

    استعصى الكلام، سقط في بئر عميقة، عميقة، من يجعل الكلام الساكن في الجذور.. حتى يكون في موقع الضوء.. من؟‏

    أراد أن يبوح لها.. وخشي أن يفقدها إلى الأبد.‏

    أرادت أن تبوح له.. وخشيت أن تفقده إلى الأبد.‏

    .. وخجل من إصراره وتوسلاته.. أن يفقد الرجل الذي فيه، والذي تعرفه عنه، الذي تحترمه فيه، الذي تحبه فيه.‏

    وخافت من ضعفها، من حبها العميق له، من هذه الهالة التي يقدسها في وجودها بأعماقه، خشيت أن تشوه صورة نقية حفرتها عميقاً في داخله.. لا تريد أن تفقد كل هذا، كل هذا الحب..‏

    .. قال في نفسه وهو يتأمل وجهها السمح:‏

    - تعرفين.. ليس الأمر بيدي.. فلنسافر معاً.‏

    - ماذا أعرف، عن أي شيء تتحدث، هل تغفر لي، ليس الأمر بيدي..‏

    وبات المجهول صفحة جديدة في حديثهما..‏

    هناك أمور غير سارة بالتأكيد. هناك أسرار لابد من كشفها.‏

    حدق في وجهها. أراد أن يكتشف حقيقة ما.‏

    حدقت في عينيه، اعتادت أن تقرأ فيهما المجهول.‏

    في وجهها ارتسم عذاب غريب لم يألفه من قبل، حزن بالغ العمق لم يجد مثيلاً له.‏

    وفي عينيه بانت غربة، وأبعاد.. وأشياء خفية تريد أن تعلن عن وجودها.. غير أن ستارة عميقة أسدلت عن حضورها.‏

    - ما الأمر.. قل!‏

    - ما الأمر.. قولي!‏

    وصرخ الصمت بصوت عالٍ..‏

    - سأرحل، صدرت أوامر برحيلي.‏

    - رحيلك. أمر مِن مَن.. رحيلك إلى أين..؟‏

    - إلى المجهول.. قالوا إنني من أصل لا علاقة له بهذا البلد.‏

    - لكنك ولدت هنا، لأبويك جذور هنا، ولدا هنا، لغتهم ولغتك.. هي لغة هذا البلد، دينك، قوميتك، سكناك.. كلها..‏

    - كل هذا لا يفيد.. وأنت، أنت الشيء الوحيد الذي لا أريد أن أفقده من هذا البلد. أنت البلد الذي أحبه وأريد القلب الذي أحمله معي.‏

    ودهشت للخبر. أحست به سكيناً يجرح كل نبض فيها، يوقف هذا النبض، يوقف فيها الحياة كلها.‏

    واختنقت أنفاسها. العبرات مسحوقة في عينيها الكامدتين المنطفئتين.‏

    - وأنا قد سبقتك إلى الرحيل.‏

    لم يفهم. سألها، لم تجب، خجلت، لم يكن خجلاً من النوع الذي يعرفه عن طباعها، لخدّيها شحوب الموت.. لا حمرة الخجل.‏

    ولم تدعه يسألها، أوضحت:‏

    - أنا راحلة عن الحياة كلها.‏

    ابتسم، ابتسامة حزينة قلقة، شعر أنها معه، تشاركه الأسى والفجيعة والغربة والعشق، أحس أنه يتعلق بها إلى الأبد..‏

    هي أرضه وقلبه وموطن وجوده، أفراحه وأحزانه معاً. صبحه ومساؤه. عالمه الأثير.‏

    حدقت في عينيه. كأن الجمر في عينيها. كأنها تقاتل بهاتين العينين.‏

    عينان لم يألفهما من قبل مطلقاً، عينان تتسعان وتضيقان.. تتسعان حد الانفجار، تضيقان حد الانطفاء الأزلي.‏

    - احتمل الخبر.. احتمل قطرات دمي..‏

    - ما الأمر.. ما الأمر، قولي، أنت نقية.. لا تخبئي عني شيئاً.. واندفعت إليه، أمسكت به، وراحت تهزه بأصابع مرتجفة.‏

    - افهم جيداً، افهم، لم أعد عذراء، لم.. لم.. أعد عذراء.. حبيبتك التي انتظرتك، وانتظرتها لم تعد.. لم.. تعد عذراء. سحقوا عذريتي، سحقوني.. لم أعد..‏

    ضرب على رأسه، أمسكت أصابعها وهي تنكمش على رقبته.‏

    - فعلوها معكِ..‏

    - مثلما سيفعلونها معكَ.‏

    - معنا.. نحن، معنا نحن، أن نختلف معهم، أن يختلفوا معنا.. هل يعني هذا أن نقتل فيهم العفة، هل نقتل أوطانهم فيهم؟‏

    - ما كان يلزمنا الخلاف معهم.‏

    - إذن ما كان يلزمنا أن نكون بشراً..!‏

    .. كانت الشمس في قلب السماء. كانت حرقة الضوء تبدد كل جزيئات الظلمة. للضوء حرقة، كما الجمر.. الجمر كاوْ.. والجمر رماد في النهاية.‏

    أكان عليه أن يأخذ كاس السم.. أن يختلف. أن تختلف.‏

    من يختلف عليه أن يقبل بالموت.. أن يقبل بالصبح خالياً من البكارة، أن ينظر إلى الوطن مجرد وهم.. وكل الأوهام مبددة، منسية.‏

    - انس أنك عشت في وطن وبذورك في أعماقه..‏

    قالت بحزن ودموع وكمد.‏

    .. ولكن.. لكن.. لا تنسي أنك نقية.. النقاء لا يغتسل..ولا يلوث ولا يقهر. نقية أنت، نقية.. ليس هذا أقل ما يفعله الذين نختلف معهم.. اطفئي الشمس، اجرحي ضوءها..‏

    - أنت تطلب المستحيل.‏

    - إذن مستحيل عليهم تشويه نقاؤك.‏

    - ومستحيل عليهم أن يجردونك من هذا الوطن‏

    .. أمسك أصابعها بقوة، أمسكت أصابعه، عشرة أصابع التمت وتماسكت.. عشرة أصابع انشدت إلى بعضها، التحمت.‏

    - علينا أن نبقى بشراً.‏

    - .. وأن لا نخشى الاختلاف.‏

    - .. وأن نبحث عن مكان يتسع للاختلاف.‏

    - تعالي نبحث..‏

    وسارا.. فيما كانت الشمس تتألق.. والأشجار من حولهما تزهو.. وعطر الأزهار يفوح

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()