وحدك تدخل.. تجد المكان خالياً تطؤه بعض الطاولات.. حولها كراس قديمة تشعر بكثير من الارتياح.. تختار مكاناً أمام النافذة المطلة على البحر، تقرب الكرسي أكثر من النافذة.. تجلس.. تنسى نفسك.. تسرح بنظرك بعيداً.. يأتي النادل فينتشلك من هناك ويعود بك إلى الواقع.. تطلب قهوة وكأس ماء.. يذهب النادل.. تعود إلى السرحان.. الجو جميل.. ربيع ساحر والنافذة واسعة تطل على الدنيا بعد قليل تسمع حركة.. تلتفت.. يدخل رجل يضع على عينيه نظارة سوداء ويلبس بذلة سوداء، ويضع في عنقه ربطة مخططة بالأبيض والأسود.. تتابع حركاته.. يتفحص المكان بنظرة سريعة.. يجلس قرب طاولة تقع على جهتك اليمنى متجهاً بنظره إليك. يفتح الجريدة أمام عينيه.. يأتي النادل.. يضع أمامك القهوة وكأس الماء.. تخرج علبة الدخان.. تشعل سيجارة.. تجذب نفساً قوياً، ثم تدفع الدخان من فمك، تتركه يصعد دوائر منتظمة.. تمد بصرك بعيداً عبر صفحة البحر الزرقاء، يجذب نظرك قارب شراعي يتراءى لك بعيداً جداً ولونه أبيض، يبدو مثل ورقة ضائعة في فضاء لا نهائي، أو حمامة تلهو بها الرياح.. يخرج النادل.. بعد قليل يرجع يضع قهوة أمام الرجل.. يقف أمامه ويتكلم معه كلمة قصيرة في صوت منخفض مديراً لك ظهره.. يخرج النادل.. يشعل الرجل سيجارة، ويعود الصمت إلى المكان.. تتابع القارب.. تشعر في نفسك ببعض الأسف لأنك لا تملك منظاراً مقرباً.. فالمنظر رائع... مع ذلك تعرف أن القارب يتجه بدون شك من الغرب إلى الشرق فقبل قليل كان بعيداً عن شجرة الصفصاف الوحيدة التي تمتد إلى السماء متحدية أمواج البحر هناك بجانب الشاطئ. تلتفت جهة الرجل.. تجده ينظر إليك.. تحول نظرك بسرعة نحو الخارج.. تدخل نحلة من النافذة إلى المحل فتبدد الصمت بموسيقا أجنحتها.. تقوم بدورة سريعة في داخل المكان ثم تخرج مبتعدة عنه.. تحاول أن تتابعها بعينيك لكنك تسمع حركة جديدة فتدير وجهك نحو باب المحل.. يدخل رجل ثان يلبس مثل الأول، يضع على عينيه نظارة سوداء أيضاً، يتجه إلى طاولة أخرى.. يضع الدخان وعلبة الكبريت والجريدة أمامه.. يأتيه النادل بالقهوة.. تنظر إليه.. تجده يتفحص وجهك.. يصيبك بعض الأسف لأنك انشغلت عن القارب الذي اختفى عن نظرك.. تظل مركزاً نظرك في المكان الذي حسبت أنه كان فيه ولكن بدون جدوى، ثم تلاحظ ظهور باخرة كبيرة في الأفق، تفكر أنها لا بد تكون قادمة من بعيد، وذاهبة إلى بعيد.. تتلهى بمتابعتها.. هي تسير أيضاً في اتجاه القارب.. السماء زرقاء والبحر أزرق، والباخرة وحدها نقطة بيضاء في هذه المساحة اللامتناهية.. يظهر القارب من جديد من وراء الشجرة.. تتابعه ثم تلفت انتباهك مجموعة من طيور النورس تتجه من الشرق إلى الغرب على مسافة قريبة جداً من الأمواج.. بعد قليل يظهر رجل وامرأة يمسك كل منهما بيد الآخر، ويسيران في بطء شديد بين الموجة والرمل.. يتحدثان في صمت وينظران أمام أقدامهما تماماً. طيور النورس تحط قريباً منهما.. المرأة تلبس ثوباً أحمر فضفاضاً، والرجل بقميص نصف كم أبيض وبنطلون أسود: كان الهواء يلعب بشعرهما المتقارب الطول.. تحس حركة أخرى في داخل المحل.. تلتفت.. ترى رجلاً ثالثاً يجلس إلى طاولة بقرب الباب ويلبس مثل الرجلين، وأمامه الجريدة وعلبة الدخان وعلبة الكبريت.. بعد لحظة يدخل النادل.. يضع أمامه فنجان القهوة ويخرج.. ينظر الرجل إليك.. تشرب رشفة من قهوتك التي بدأت تبرد، وتشعل سيجارة أخرى.
العاشقان يسيران بخطوات رتيبة.. يقفان أحياناً.. ينظران إلى بعضهما.. ينظران إلى البحر، ثم يواصلان المشي الرتيب.. يقتربان من طيور النورس.. تطير من أمامهما.. تتابعها أنت وقد بدأت تختفي وراء بناية المحل.. تقف تلاحظ الرجال ينظرون إليك وإلى بعضهم في اهتمام.. تنقل كرسيك إلى الوراء حتى تستطيع متابعة الطيور أكثر.. يصيبك بعض الأسف لأن الطيور اختفت كلها.. ترى رجلاً يقف داخل الموجة.. كان يدير ظهره إلى اليابسة ويتجه بنظره إلى عرض البحر.. تظل مركزاً نظرك عليه عدة دقائق.. تلاحظ أنه لا يبدي أية حركة.. تغطي الموجة أحياناً ركبتيه، وأحياناً تصل إلى صدره.. لكنه واقف لا يتحرك.. كان يلبس كامل ملابسه، وبنطلوناً أحمر قديماً. وقميصاً لا لون له.. يبدو أنه يقف هناك منذ ساعات على الرغم من أن الموجة كانت قوية نسبياً.. تعود إلى متابعة الشاب والفتاة.. يقتربان من الرجل الواقف.. أخيراً يتحرك الرجل.. كانت يده اليسرى التي تختفي عن نظرك تحمل شيئاً.. امتدت يده إلى أعلى.. هي تحمل زجاجة.. يضع الرجل الزجاجة على فمه ويظل عدة لحظات يشرب.. كان وجهه متجهاً إلى السماء تماماً والزجاجة فوق فمه.. لا بد أنه كان مغمض العينين، فالشمس التي تتوسط السماء تواجه نظره تماماً.. وأخيراً يرمي بالزجاجة في البحر.. تحاول أن تتابع موقع الزجاجة.. تراها بعد لحظة تطفو فوق الماء.. يعود الرجل إلى وقفته الصامتة.. تحس أن جو المحل بدأ يتعكر بكثافة الدخان.. تسمع حركة.. تلتفت.. يدخل رجل رابع يتبعه النادل.. يجلس الرجل إلى طاولة متجهاً إليك.. يضع الجريدة والكبريت وعلبة الدخان على الطاولة.. يضع النادل القهوة أمامه ويمضي. تنظر إلى الرجل.. تجده يتفحصك.. تدير نظرك إلى جهة البحر.. القارب الشراعي اختفى قبل قليل في جهة الشرق.. الباخرة ما زالت متجهة نحوه، وهي تكاد تختفي وراء الشجرة.. العاشقان غابا وراء بناية المحل.. الرجل ما زال يقف وسط الموجة ينظر إلى البحر.. طيور النورس قامت بدورة في البحْر ثم عادت إلى الجهة الأخرى التي جاء منها العاشقان، وحطت على الشاطئ.
جو المكان يزداد تعفناً.. يقوم الرجل الأول يغمز الثاني ويخرج.. يقوم الثاني يغمز الثالث ويخرجان، ويظل الرابع في مكانه، ويعود الصمت عدا صوت موسيقا موجة البحر الذي كان يصل إلى سمعك عذباً وأنت تجلس إلى النافذة.. كان بعض الشحوب على وجهك وأنت تتابع الأمواج التي تلاعب رمال الشاطئ.. يعود الرجال الثلاثة ويقف الرابع.. يتجهون جميعاً إليك.. تظل في مكانك صامتاً.. لا تشعر بوجودك إلا عندما يهزك أحدهم بعنف من كتفك.. تلتفت فتجد ثمانيَ أعين تتفحصك في غضب.. تمتد إليك ثمان أيد مرة واحدة .تجد نفسك واقفاً في وسط الجميع.. ترى النادل وحده واقفاً أمام الباب ينظر إليك.. يسألك الرجل الأول: من أنت؟ تظل صامتاً كالأبله.. لا تفهم معنى لسؤاله.. يسألك الثاني والثالث والرابع: من أنت؟ لا ترد بشيء.. يخرج أحدهم قيدا حديدياً.. يمسكون بك جميعاً، وعندما يكونون منشغلين بوضع القيد في يديك تكون أنت تنظر إلى البحر الجميل والسماء الزرقاء والنوارس التي تلعب على الشاطئ والعاشقين اللذين عادا في مشيتهما البطيئة وهما يتجهان نحو الرجل الواقف وسط الموجة ينظر بعيداً.. بعيداً