بتـــــاريخ : 11/17/2008 7:28:19 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1338 0


    الحياة تبدأ غداً

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : جمانة أمين طه | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    إنه البحر. إنها الذكريات. هل سبق لك أن كنت قريبا من البحر، وهاجمتك الذكريات، هجوم الموج للرمل؟ مثلما حصل معي؟.‏

    صباح نديّ ونسيم عليل، بعد أيام قاسية من الرطوبة الساخنة. وأنا أقف في الشرفة المطلة، تكاد تكون رأسا على امتداد بحر رائع. وشراع أبيض يبتعد، وكأنه أدرك أني خفت عليه أو أنه خاف، وهاهو يعود. وثلاثة نوارس بيضاء ترف حتى تضرب الماء بأجنحتها وترتفع. وسابحان وحيدان، وفتيات يسترحن بين الماء والماء، يعرضن أجسادهن للشمس وبعض نظرات تلاحقهن في هدوء، ولكن بإلحاح. وباخرة مرمية في البعيد، وآخران يلعبان الورق، وأنا أحمل طيفا، استرجع نظرة شهلاوية وأدرك كم أنا وحيدة!.‏

    أيام لقائي بحازم، أصبحت ذكرى تعطّر بها الرذاذ المتناثر من مياه المتوسط، وأكسبت سماء هذه المدينة دهشة طفولية. وهاهي الذكرى تعود، لتستلقي على الشاطئ شمسا وموجا رؤوما، وبين أجفاني تفاصيل لم تغب.‏

    كيف تمّ اللقاء، متى وأين، ولماذا هو، ولماذا أنا؟ أسئلة تناورت على ذهني، تنعش ما كبا في الذاكرة تحت وطأة الأيام.‏

    كان حازم يحمل وجهي في ذاكرته دون أن يعرف من أنا. وكنت أنا أعرف من هو دون أن ألتقيه. حين دخلت مكتبه مع صديقة لي، اختلجت أجفانه بعنف وقال بانتشاء: إنها أنت. نعم إنها أنت!. ثم مدّ يده إلى درج مكتبه، وأخرج منه صورتي.‏

    - منذ خمس سنوات كنت أغطي وقائع ندوة ثقافية، رأيتك، ظننتّ أنّ انتيغونا قد بُعثت من الرماد. أذهلني الحزن في عينيك، فصوّرتُك من غير أن تدري.‏

    ابتسمتُ بغرور الأنثى، ولم أعلّق.‏

    تسرب حازم إلى أعماقي، بطريقة حديثه ونظراته وحركات يديه، بوجهه المربع وشعره الأشيب. بكل تلك الأشياء، ولم أعد قادرة على تجاهله دون أن أملك جرأة البداية. إلى أن هتف لي، يقول بأنّ عنده مادة تخصّ بحثي. اجتمعنا، تحدثنا في كل شيء. نبشنا ما في جَعبنا من صور وخصوصيات. حكى لي عن حب كبير، وأده في أحد بلدان الشرق الأقصى، وأسمعني شعره وأمنياته. وجَعبة العمل بقيت بكرا لم تقربها أيدينا.‏

    في تلك الزيارة، أراد أن يوصلني بسيارته إلى بيتي، لم أقبل. قلت له يكفيني أن تقف في الشارع معي، ريثما أستقل سيارة أجرة. قال لن أدعك تفعلين. سأرافقكِ شئت أم أبَيْتِ، بسيارتي أو بسيارتك لا فرق. قلت لا أستطيع، فأنا لم أعوّد نفسي على كرم الآخرين.‏

    في ذلك المساء قال: بيني وبينك يا نوار شبه كبير. فأنت تتكلمين عن الحزن وكأنيّ أنا الذي أتكلم. تتحدثين عن الوطن، فأخال نفسي هي التي تتحدث. تجمعين أزهار الياسمين لتستقبلي ضيوفك بعطورها ونقائها، فأظن أني الذي أجمع.‏

    كيف لا أشبهك يا حازم وتشبهني؟ ونحن من نبت هذه الأرض الطيبة. ترابها عالق في ثيابنا وعلى جلودنا، مثلما يعلق الطيب بأزهار الفل والياسمين، مثلما يتشبَّثُ اللون بأزهار الجهنمية، التي تذبل وتتساقط، ولونها مازال حيّا ونضراً.‏

    وجودك يا حازم في حياتي أخرجني من دائرة الاحتراق، إلى دائرة الانتعاش. كنت قادرا على أن تجعل قلبي ينبض ينبض حتى يكاد يلفظ نبضاته. كنت قادرا على أن تشعل قلبي فرحا وحزنا أيضا. إنما، حزن الأمل المترقّب.‏

    آهِ لغيابك، كم له طعم الدم!. قلتُ لك لا تذهب إلى جنوب لبنان. قلتَ: قوة الصحافة يا نوار، تكمن في صدق كلمتها. أريد أن أعيش مع المقاومة، وأكتب بواقعية عن أيام المقاتلين ودقائقها. لشدّ ما أدهشني وأعجبني موقفك!‏

    وهناك في جنوب لبنان، أُخمدتْ الشعلتان في لحظة التقاطهما الحقيقة.!‏

    كيف تغيب يا حازم هذا الغياب الأبدي؟ وكنت فيما مضى تعتبر غيابي عن دمشق، نوعا من القمع أمارسه عليك. حتى تطرّفت ذات مرةٍ، وشبّهته بالمقصلة.‏

    كنت تعرف أني أتغيب عن دمشق، هروبا من لقائك ومهاتفتك. خوفا من الدخول في دائرة الاعتياد والتعود. وكنتَ تغضب وتؤكد، أنّ صلتنا لن تدخل في هذه الدائرة، لأنّ تفكيرنا وأسلوب تعاملنا يختلف عن النمط المألوف والمستهلَك.‏

    - ومع ذلك، لا أحب منح الأشياء لبوسا أكبر من حجمها.‏

    - رابطتنا، تنتمي لحب غير متداول، يصعب على الآخرين أن يفهموه. أشعر يا نوار أني مولود قبل مئتي عام من الآن. وبحكم هذا المدّ من العمر، أعرف العديد من النساء، مع اختلاف درجة هذه المعرفة. صدقيني إن قلت إنك تختلفين عنهن. في فكرك موهبة، في عينيك مواكب إبداع، وفي حديثك وحي ينتظم عندي قصائد وأوزان.‏

    - يزعجني، أني أحيانا لا أملك أمام نفسي مبررا لاتصالي بك.‏

    - في امتناعك عني خيانة لأفكارك وقناعاتك.‏

    كم كنت طماعا نبيلا يا حازم! وكم كنت قاسية عليك، وعلى نفسي! ليت عينيك اللتين اختطفتهما رصاصة غدرٍ صهيونية، تريان النباتات المجففة، التي أهديتها لي في زيارتك الأولى والوحيدة لمنزلي. وهي تحتل أجمل زاوية في الصالون، مشرئبة بأعناقها الطويلة، مختالة بوبرها الأشقر الناعم. في بعض الأحيان، يخامرني شعور بأنها عيونك السرّية ترمقني، أو بأنها يداك، تحاولان لمسي، وربما تحاولان ...‏

    أنظر إلى المدى الأزرق، فيردني إلى حازم وقولته، عندما حدثته عن مشهد أذهلني. رأيت فيه البحر يسطع فجأة، ثم يظلم بعتمة حالكة.‏

    - إنها لحظة الخلق يا نوار. في تلك اللحظة، كانت محارة في حالة مخاض. وخوفا على جنينها اللؤلؤة، طلبتْ من البحر أن يطفئ أنواره ليحجب رؤية اللؤلؤة عن الأنظار. لا أبدع من الخلق يا نوّار. إنه الغد الذي يحمل لنا حياة جديدة. - أنت أيضا فيلسوف يا حازم، ولكل مسألة عندك وجهان. - هكذا يجب أن نفهم الحياة. وإلاّ كيف نستمر؟.‏

    * * *‏

    قبل يوم واحد من استشهاد حازم وصلتني رسالة منه، يقول فيها:‏

    في هذه الليلة الباردة عوّلتُ على الاندساس في الفراش مبكرا، هروبا من برودة الجو. النوم هجر عيوني، لسبب لا يعرفه أحد غيرك.‏

    قاسية هي حياة المناضلين يا نوّار، وتحتاج إلى قلوب من صوّان وأعصاب من حديد. إنهم يمضون ساعات أيامهم وراء الأسلاك الشائكة، بين المتاريس وفوق الدبابات وضمن الخنادق. موسيقاهم، طنين الطائرات المغيرة المدمرة. وبخورهم، رائحة الدماء تفوح زكية من الشهداء. فالموت يقترب منهم في كل لحظة، حتى كأنهم يلمسوه بأيديهم أو يتركوه يقاسمهم الفراش. هؤلاء الشباب يا نوار، يمنحون الموت معنى وقيمة بعد أن كان دائما بلا ثمن. يؤثرون الوطن على كل نوازعهم ورغباتهم، لا يشغلهم غير طرد المعتدي من أرض الوطن. ومن يصل إلى قمة العطاء هذه، هو صفوة الإنسان. لأنه يصل إلى تلك القمة، على روحه ورماد جسده.‏

    ذكرياتي عن أيامي هنا حلوة وغنية. انتصارات كثيرة حققها الثوار، أظنك قرأت وسمعت عنها. وحياتي في هذه البقعة من العالم حافلة بالامتلاء الجميل، عملا وإبداعا. تقريري شارف على الانتهاء، ورغم تشوّقي للعودة إليك، أحسّ بغصّة.‏

    أفتقدك وأشتاقك. أتخيلك تعلقين على كلماتي ضاحكة، وتقولين: ما أقدرك على التعبير. مسحوب من لسانك يا حازم.!‏

    * * *‏

    حضور البحر في عيوني، وحضور حازم في نفسي، أنهكني شوقا وألما. أغمضت عينيَّ وضممتُ يديَّ فوق صدري. فيما كانت الشمس تنحدر إلى المغيب، وكانت الأمواج البيضاء، تصدر نغما رتيبا وهي تأوي إلى الشط، تمشِّطُ جدائل الرمل وتُمطِرُ وجه الصخر القاسي قبلات ندية

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()